الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لحظة هدوء...بعد ضجيج الانتخابات (الجزء الثاني).

آکو کرکوکي

2010 / 4 / 26
ملف: الانتخابات والدولة المدنية والديمقراطية في العراق


هذا هو الجزء الثاني من المقالة, لمتابعة الجزء الاول ادخل الربط التالي:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=212717


المحور الثاني:
الأنتخابات النيابية, قانونهُ ونتائجهُ.
أبتدئت العملية الانتخابية مسيرتها بأزمة وأنهتها بأزمة. فمن القانون الانتخابي المُثير للجدل, الى النتائج التي لاتُمكن أي قائمة من تشكيل الحكومة لوحدها, كانت لها لقاءتٌ ووقفاتٌ مع أزماتٍ أخُرى . ولو أبتدئنا بالقانون الانتخابي فأن هناك الكثير لكي نتوقف عندهُ.
فالقانون الانتخابي, ونظام الاقتراع المُتبع, يُعتبر التأطير القانوني للسلوك الانتخابي, وتحديداً لقواعد اللعبة.
إنُّ اختيار أسلوب تصويتٍ مُعين من بين عِدة أساليب أخُرى معروفة (كالاقتراع الاكثري او الاقتراع النسبي اوالمختلط ). وتحديد حجم الدائرة( على مستوى وطني او محافظة اومنطقة). وآلية توزيع المقاعد قبل وبعد الانتخابات. لهُ تأثيرٌ ملحوظ على نوعية النتائج!.
وبما إنَّ القانون الانتخابي, يتم استصدارهُ عادة, مِن قبل, السلطة أو الاطراف النافذة في السلطة, فمن ألامور البديهية. أن يكون اختيارها للقانون الانتخابي, يتم وما يخدم مصالحها. أن الذي يحد من هذا التوجه في البلدان المُتقدمة, هو وجود نظام تقنينٍ صارم, يُقلل من التجاوز هذا, دون أن يُلغيها, وهيَّ عند الحالة العراقية غائبة تماماً. إذا علمنا إن العراق, مازال في موقع الصدارة, لقائمة الدول الفاسدة (حسب منظمة الشفافية الدولية), وهذا الفساد يرجع في أحد أسبابه الى ضعف النظام القضائي وسوء ادارة السلطة. ولربما ما يطعن بعمق, في صميم شرعية هذه العملية الانتخابية, هو إفتقارها الى بيانات مُوثقة, لإعداد الناخبين, بسبب تغييبٌ مقصود, لإحصاءٍ سُكاني. وإنّ البيانات المُعتمد (بيانات وزارة التجارة) لإعداد الناخبين نابع, من جهة , سَبقَ وأن أُتُهِمت بالفساد.
وهناك عِدة أستراتيجات للتحكم بالنتائج, من أهمها ألاستراتيحية التي تضع عتبات عالية امام المرشحين لتخطيها والحصول على المقاعد, وهذه الاستراتيجية ممكن ان تسهم في صناعة أغلبية فائزة وكتل قليلة ولكن كبيرة بالحجم وبالتالي حكومة وبرلمان أكثرية, تمتاز بفعالية في عملها. والاستراتيجية الثانية التي تضع نسبة أو سقف مُتدني امام المرشح لتخطيها والوصول للبرلمان, والنوع الثاني من الاستراتيجية تخلق أعداد كبيرة من الكتل الفائزة وعندها لابد من اللجوء الى حكومات ائتلافية.
ولكن الحكم على كِلا الاستراتيجيتين يكون وفق معايير أخُرى منها (اولاً: وضوح البرامج الانتخابية: والمقصود انهُ وكلما قلت اعداد الاطراف المتنافسة قلت عدد البرامج الذي يجب على الناخب ان يقارنها مع بعضهاـ كالمقارنة بين طرف السلطة وطرف المعارضة فقط, وهذا المعيار هو لصالح الاستراتيجية الاولى). (ثانياً: حرية الناخب: هذا المعيار بعكس الاولى ففي الاولى ولخوف الناخب من ضياع صوتهِ يعمد لمنحها للقوائم الكبيرة التى فرص نجاحها واضحة ولكن في هذه الحالة تكون حرية الاختيار ضعيفة, اما وفق الاستراتيجية الثانية فأن معظم القوائم لديها فرصة للفوز وحتى بمقعد واحد وهذا يعني ان الناخب سيمنحها لمن يريد دون خوف على ضياعها) . (ثالثاً: عدالة التمثيل: وهذا يتحقق وفق الاستراتيجية الثانية حيث سيكون في البرلمان عدد كافي من الكتل والاحزاب الصغيرة والكبيرة لتمثل معظم الشرائح والمكونات والتوجهات) . (رابعاً: البعد الشخصي بمعنى ان تكون القائمة مغلقة, فتنعدم الاتصال المباشر مع الناخب او مفتوحة ويكون هناك اتصال مُباشر بين الناخب والمُنتخّبْ وبالتالي إضفاء بعدٌ شخصي على العلاقة).ولا تكون أحد من المعايير السابقة حاسمة , بقدر الاحساس العام حول شرعية العملية بُمجملها.
بعد جدالاتٍ ومناقشاتٍ استمرت اسابيعاً وشهور , شارك فيها كل الاطراف, العراقية والغيرعراقية (دول الجوار+الاطراف الدولية)! صادق مجلس الرئاسة بتاريخ 9 ديسمبر لسنة 2009 على تعديل قانون الانتخابات رقم 16 لسنة 2005 , ثم اصدر في 13 ديسمبر 2009 مذكرة تفسيرية توضح اعداد المقاعد المخصصة لكل محافظة.
ان القارئ لهذا القانون يلحظ, بأن ألاستراتيجية المُتبعة فيها, هيّ محاولة لِخلق كـُتل كبيرة, وقـُـولّبة كتل أٌخرى في أُطًرٍ أضيقْ وسحق لكتل اخُرى صغيرة وأستبعادها من المنافسة. لا بل ان القانون يتعامل بتمييزٍ واضح ومسُيس مع انتخابات مدينة كركوك. واذا ما كان القانون يتميز بوجود البعد الشخصي لإنها تعتمد القائمة المفتوحة , إلا إنها لاتــُعيير أدنى اهتمام لِعدالة التمثيل وحُرية الناخب.
يبدء القانون بتقسيم العراق الى عدد من الدوائر الانتخابية في خطوة لبعثرة اصوات القوائم التي لربما ستتشكل وفق اسس قومية او مذهبية وقولبتها في المحافظات التى تكون فيها اقلية. ويقوم بعدها بتوزيع المقاعد على المحافظات وفق معيارٍ مثير للجدل , فهو من جهة يعترف إن لاوجود لبيانات احصائية, ثم يحدد مقعد لكل 100 الف نسمة! على ان يحسب نفوس كل محافظة حسب بيانات وزراة التجارة المشكوك في أمرها!. ثم يضع القانون عتبة صعبة, للعبور للبرلمان ويسميها (القاسم الانتخابي) وسميت ايضاً بـ"سعر المقعد في كل محافظة", ويتم احتسابها بتقسيم عدد الاصوات في كل محافظة على عدد المقاعد المُخصصة للمحافظة, ثم يعود فيستبعد كل القوائم التي لم تتجاوز هذه العتبة, وتمنح أصواتها الضائعة كمُكافئة للكتل الفائزة في محاولة لخلق كتل كبيرة(الحيتان الكبيرة تأكل الاسماك الصغيرة). أن القاسم الانتخابي هذا, يعتمد على مُتغييرين, فهو يتانسب طردياَ مع نسبة المشاركة, وعكسياً مع المقاعد المُخصصة لكل محافظة, فلو كانت نسبة المشاركة كبيرة تكون عدد الاصوات كبيرة, اذن فالقاسم الانتخابي أكبر, وكلما قلت عدد المقاعد المُخصصة للمحافظة كلما كان القاسم الانتخابي أكبر وبالتالي العتبة أعلى أيضاً. وأذا توفرَ كِلا الحالتين: أي نسبة مشاركة كبيرة وعدد قليل من المقاعد فأن القاسم الانتخابي سيتضاعف. وهذا ما حصل في كردستان. فبالنسبة لواضعي القانون الانتخابي كان واضحاً, إن محافظات أقليم كـُردستان وبسبب ألاستتباب الامني والوعي الانتخابي ألاكبر, ستشهد مستويات مُشاركة كبيرة, كما كانت في كل الانتخابات السابقة. وبذلك يكونوا قد ضمنوا المتغير الاول (عدد كبير من الاصوات بسبب النسبة العالية للمشاركة). بقى أن يقللوا عدد المقاعد الانتخابية لمحافظات كردستان وذلك لضمان المتغير الثاني الذي يؤدي الى علو القاسم الانتخابي وبالتالي صعوبة حصولهم على المقاعد وزيادة فرص خسارتهم للمقاعد. وبالتالي قَـوْلّبَة وتأطيير الجانب الكردي في العراق وخاصة في المحافظات التي لاتمتلك الاغلبية فيها.
فكانت أعداد المقاعد المُخصصة لكردستان وفق أحصائية تعود الى 2005. وكأن لا عمليات ولادة قد حصلت هناك وحينما عادوا ومنحوا ثلاث مقاعد اضاقية فأنهم ابقوا نسب المقاعد الكبيرة للمحافظات الاخرى كالموصل مثلاً, دون تغيير, في محاولة لخلق كتل أكبر وتحديدا كتل تخرج من المناطق العربية السنية. إنَّ تعسفية القانون وهزليتهُ , تتضح بجلاء, لو قارننا, نتائج محافظتي السليمانية والبصرة مثلاً. فهناك تقريبا نفس العدد من الاصوات (السليمانية 833631 صوت, والبصرة 814810 صوت) إلا إن القاسم الانتخابي للسليمانية هي 49037 صوت والقاسم الانتخابي للبصرة 33950صوت. السؤال الذي يطرح نفسهُ, لماذا المرشح في السليمانية يجب ان يجمع حوالي 50000 صوت, ليحصل على مقعد واحد والمرشح في البصرة يكتفي بـحوالي 34000 صوت فقط ليحصل على نفس المقعد؟. لربما مُعاقبةً للمرشح في السليمانية لإنهُ يعيش في محافظة تمتلك حماسة اكبر للمشاركة السياسية! لابل ان المرشح في السليمانية لو حصل على اكثرمن 34000 صوت (القاسم الانتخابي في البصرة) ولكنهُ فشل في الحصول على 49000 صوت ولو بقليل فأن معظم اصواتهِ ستذهب لخصمهِ!.
بالتاكيد سيأتي الرد لربما لأن البصرة لديها 24 مقعد والسليمانية 17 مقعد فقط, والسؤال يعاد مرة اخرى, كيف تم تحديد آلية توزيع اعداد المقاعد هذه, فبيانات وزارة التجارة مشكوكة في امرها, وتلكؤ الحكومة السابقة في اجراء احصاء سُكاني, بقصد أوعن أهمال, لايُعطي المبرر, لإجراء أنتخابات غير شفافة, بأي ثمنٍ كان, وفرض نتائجها كأمر واقع.
ثمَّ ما الحكمة في آلية تفضي في النهاية الى قاسم انتخابي مختلف بين المحافظات؟ فالعملية تكتسب عدالة اكثر لو تم إحتساب القاسم الانتخابي على مستوى العراق كلهُ, بحيث يكون هناك قاسم انتخابي واحد لكل العراق, وليس قاسم انتخابي لكل محافظة. في النهاية فمقعد النائب من السليمانية ومقعد النائب من البصرة مثلاً, تمتلكان الصلاحيات والامتيازات ذاتها في البرلمان, لذلك من الحكمة أن يكون الحد الادنى من الاصوات والشرعية اللازمة لبلوغها واحدة.
كان واضحاً ان الكورد يشكلون الغالبية المطلقة, في محافظات اقليم كردستان فقط, لذلك فأنهم وبعد ان قسموا العراق لعدد من الدوائر بعدد المحافظات, فأنهم ضمنوا انه لسوف يكون صعباً على الكورد, في المحافظات خارج اقليم كردستان, تخطي القاسم الانتخابي ولسوف يكون فرص ضياع اصواتهم هناك اكبر. وحتى ان فازوا بعدد محدود من المقاعد, سيكون نسبة مكافئة قوائمهم الفائزة من اصوات المقاعد الشاغرة ضئيلة ايضاٌ.
وعندما تعلق الامر بكركوك حيث الكرد يمثلون أغلبية مُحتملة, خصص القانون المادة السادسة باربع فقرات لكركوك , يوضح فيه بجلاء, ان النتائج سوف لايعتمد كأساس للمادة 140, وان اي نتيجة لاتعجب اغلبية برلمان العراق, فمن الممكن ان يطعنوا فيهِ ويلغوه, والمعروف ان الجانب الكردي لايمتلك الاغلبية في البرلمان. وبالتالي فأن تمييز كركوك عن باقي المحافظات الاخرى بمادة خاصة في القانون تحت حجة, ان اعداد السكان مشكوك فيها, يوضح مدى تسيس القانون هذا وجورهِ. فالمذكرة التفسيرية نفسها تعترف ان لاوجود لإحصاء سكاني حديث وبالتالي ان اعداد السكان في كل العراق مشكوكٌ فيه وليست كركوك فقط!
نجح القانون في قولبة الكتلة الكردية وتقليل نسبتها من 21% في انتخابات 2005 الى 17.8% في هذه الانتخابات, وهذا الفارق البالغ 3.2% يساوي 10 مقاعد برلمانية. ونجحت ايضا في سحق القوائم الصغيرة, كالحزب الشيوعي وحزب الامة والكرد-الفيلية وغيرهم, فأصبحوا بدون تمثيل. ونجح القانون, أضافة الى عوامل اخرى, في اعطاء دفعة قوية للقائمة العراقية, بسبب مقاعد الموصل وبغداد وجعلتها من القوائم الكبيرة بل لربما ألاكبر. ولكن القانون فشل فشلاً ذريعاً في خلق كتلة كبيرة بما يكفي بحيث تستطيع تشكيل الحكومة لوحدها, فبات واضحاً ان مشكلة العراق يتمثل بلاتجانس اجتماعي ذو بُعدٍ تأريخي واقليمي, لايمكن لإنتخاباتٍ مُعينة او لإستراتيجية جائرة في القانون الانتخابي, أن يجد لها حلاً سريعاً.
فنتائج الانتخابات النيابية افرزت اربعة كتل رئيسية هي (القائمة العراقية بـ 91 مقعد ونسبة 28% . وائتلاف دولة القانون بـ 89 مقعد ونسبة 27.4%. والأئتلاف الوطني بحوالي 70 مقعد ونسبة 21.53%. وائتلاف الكتل الكردستانية بحوالي 58 مقعد ونسبة 17.8% من مجموع مقاعد البرلمان البالغة 325 مقعد).
وهذه الارقام المجردة تعمد الى جرنا, للنظر الى الخارطة السياسية المرسومة حسب هذه النتائج, فنرى ان شعبية كل كتلة تتوزع في مناطق جغرافية مُحددة ومتصلة معاً. ولوصنفنا المحافظات, حسب شعبية كل كتلة, فسنحصل على ثلاث مجاميع, من المحافظات المتجاورة, تستأثر فيها كتلة او كتلتين بالغالبية المطلقة اوحتى الأجماع, في كل مجموعة, أضافة الى محافظتين لم يحسم فيهما الاغلبية لأحد.
المجموعة الاولى: هيَّ محافظات اقليم كردستان المتجاورة (دهوك, اربيل, السليمانية), مجموع مقاعدها 41 مقعد. صوتت بالاجماع للكتل الكردستانية ولم يحصل الكتل الاخرى فيها على اي مقعد.
والمجموعة الثانية: هي محافظات (الموصل, ديالى, صلاح الدين, الانبار) المتجاورة ايضاً. مجموع مقاعدها معاً تساوي 70 مقعدا, حصلت فيها القائمة العراقية على الاغلبية المطلقة (اكثر من ثلثي المقاعد 47 مقعد, بنسبة 67%). بينما كان نصيب الائتلافين (دولة القانون والوطني) 5 مقاعد فقط, بنسبة 7%. اما التحالف الكردستاني وبسبب المناطق المستقطعة في موصل وديالى حصلت على 9 مقاعد, بنسبة 13% تقريباً. ام المقاعد الـ 9 الاخريات فذهبت الى قوائم سنية عربية.
المجموعة الثالثة محافظات الجنوب المتجاورة (بابل, واسط, ميسان, نجف, كربلاء,ذي قار, قادسية, مثنى, بصرة) ويبلغ عدد مقاعدها 119 مقعد تقاسم فيها الائتلافين (دولة القانون والوطني) الغالبية المطلقة للمقاعد107 مقعد, بنسبة 90%. اما القائمة العراقية فحصلت على 12 مقعد, بنسبة 10% فقط.
اما محافظة كركوك ذو الـ 12 مقعد فكانت مناصفة بين التحالف الكردستاني والقائمة العراقية المُمثلة للعرب وتركمان كركوك معاً. وبغداد ذو الـ 68 مقعداً تقاسمها العراقية بـ 24 مقعد ونسبة 35%, مع الائتلافين (دولة القانون والوطني) بـ 43 مقعد ونسبة 63%.
لايخفى على احد ان المجموعة الاولى من المحافظات هي مناطق تواجد الكرد بكثافة, والثانية مناطق تواجد العرب السُنة بكثافة والثالثة مناطق تواجد العرب الشيعة بكثافة. وتكاد تتطابق حدود هذه المجاميع الثلاثة مع الخطوط الفاصلة بين ولايات الموصل وبغداد والبصرة العثمانية السابقة.
اما المناطق المُختلطة , بسبب سياسات التغيير الديموغرافي التعسفية والجاذبية الاقتصادية. ككركوك وجزءٌ من الموصل. أو بسبب كونها المركز السياسي والتجاري والثقافي كبغداد العاصمة. فإنها تُشكل مناطق أحتكاك التكاثفات هذهِ. وهي ألاكثر توتراً عادة, بسبب الطبيعة العدائية لنوع العلاقة بين الاطراف.
ولوصنفنا هذه المجاميع من المحافظات المتجاورة كمجالات للتكاثف القومي والمذهبي حسب النسب السكانية, نجدها هي المجالات نفسها التي تمتلك القوى السياسية فيها الشعبية والقاعدة الجماهيرية. وترسم تخومها حدوداً, لِحراكهم السياسي.
وعلى ضوء المنطق الذي يقول: ان أي أختراق, لهذه الحدود, من قبل أي طرف, باتجه المجالات ألاخرى, يمكن اعتبارهُ نجاحاً للمشروع الفوق قومي او فوق مذهبي, الذي كان يُبشر به قبُيل الانتخابات. فالاحزاب, عندما تنجح في إحتواء, الاطراف المنقسمة في المجتمع, تلعب بذلك دوراً في التهدئة الاجتماعية بحيث تصبح الاحزاب الكبيرة مجمعات لحساسيات متنوعة. اما العكس فان هذه الاحزاب تتحول الى احزاب اقلية "غيتو" تنغلق في مجال واحد. وحالة الاحزاب الجامعة لحساسيات المجتمع, على طول التاريخ العراقي, حالة نادر جداً. فلربما الحزب الشيوعي العراقي فقط, نجح في فترة من مراحل ازدهاره, في اختراق الحدود القومية والمذهبية هذه, إلا أنّ ثقافتها الثورية الشمولية, بدل ان تخلق التهدئة الاجتماعية ساهمت في ظهور بذور الاسلام السياسي في الجنوب.
والنسب واضحة في هذه الانتخابات فإن اي من هذه الاختراقات, لم تحدث, وأن حصل في الجنوب, نتيجة اختراق العراقية لمجال "الجنوب" او الائتلافين للمجال الثاني في "الوسط", فانهُ طفيف جداً.
فالعراقية اخترقت بنسبة اقل من 10% مجال المحافظات الجنوبية, هذا اذا علمنا, ان في الجنوب وتحديداً البصرة وبابل هناك سكان من السنة. والائتلافين (دولة القانون والوطني) اخترقتا مجال الاخر, بنسبة اقل من 7%, اذا علمنا ان في ديالى على الاقل, هناك سكان من الشيعة. وكلاهما فشلتا في اختراق المجال الكردستاني.
وبذلك يتضح ان المنافسة الاكثر ضراوةً كانت بين الكتل والاحزاب المتنافسة في المجال الواحد. أي حول من يمثل الكرد ومن يمثل السنة ومن يمثل الشيعة. وطبقاً لهذا التصنيف, تصبح العراقية, هي الفائزة بتميثل السنة. والائتلافين (دولة القانون والوطني), تصبحانِ الفائزتين بتمثيل الشيعة وائتلاف الكتل الكردستانية فائزة بتمثيل الكرد.
وهذه النتائج هي استمرارية لنتائج انتخابات 2004 و2005. واستمرارية لحالة التباينات القومية والمذهبية المتطابقة مع شعبية القوى السياسية. وهوالاساس للاتجانس الاجتماعي, وهو الشئ نفسهُ يتكرر, في ظروف مغايرة, وفترات تأريخية مُختلفة. بغض النظر عما تتدعيه الكتلة هذه او تلك. بأن لديها "مشروع وطني ـ فوق قومي او فوق طائفي". او بغض النظرعن تطعييم كل كتلة لواجهتها القيادية, ببعض العناصر المحسوبة على الشيعة او السنة.
وهي استمرارية ايضا للسلوك الانتخابي, ناتجة عن غياب "الناخب العقلاني" وهو الناخب المتردد الذي يكون واعياً لمصالحهِ, وقادرٌ على تصنيف هذه المصالح في سُلم افضليات, ويُنظر للعملية الانتخابية كمعادلة عرض من قبل الساسة وطلب من قبل الناخب, اي كسوق سياسي. وهو في المقابل حضورٌ ملحوظ لـلناخب الاسير لأنتماءاتهِ الثقافية, اي القومية والمذهبية. وهذا الأسر, راجعٌ في درجة كبيرة منهُ الى حالة عدم الثقة والخوف من الاخر, المُمتدة لماضٍ سحيق.
وهنا نرجع لنتساءل ونقول اين التغيير الذي كان يُبشر به, قبل هذه الانتخابات؟ والضجيج الذي كان يثارُ حولها؟.
بيدَّ أنَّ ما يبدو, للوهلة الاولى, سؤالاً واحداً, سرعان مايتناثر, ليصبح نتيجة التمحيص, عدداً من الاسئلة.
فمثلاً اذا كان تغييرٌ لم يحصل على مستوى العراق, فهل هذا هوالحال على المستوى المحلي لهذه المجالات ايضاً؟ وان لم يكن كذلك, فما هي هذه التغييرات اذن؟ ولماذا نشهد تغييراً للسلوك الانتخابي او مايسمى بـ" التبخر الانتخابي" في المستويات المحلية, في مقابل " الاستمرار الانتخابي", على المستوى الوطني؟ وقبل ان نتشعب اكثر بأسئلتنا, دعنا نلقي نظرة اخُرى على نتائج الانتخابات ولكن من زاوية مُختلفة هذه المرة.
فصحيح إنَّ تغيراً لم يحصل على المستوى الوطني ولكن هناك تغييراً حصل فعلاً على المستوى المحلي, ونقصد بالتغيير هو:
تغييرٌ في ميزان القوى بين الاطراف المتنافسة في المجال الواحد, وهذا يبرز بوضوح في المجال الكردستاني مثلاً.
فعلى مستوى كردستان, باتت هناك معادلة أخُرى تتحكم بالسياسة وتوازنات القوى, تختلف عن 2005. فالتوازن الثنائي الذي كان قائماً بنسبة 50% الى 50% بين الاتحاد الوطني والحزب الديمُقراطي تغير الى توازنٍ آخر, بنسبٍ اخُرى ومتغيراتٍ اخُرى, فغدت كالتالي: الديمقراطي بـ 53.4% و 31 مقعد, الاتحاد الوطني بـ 22.4% و 13 مقعد, وقائمة التغيير بـ 13.8% و8 مقاعد, والقوى الاسلامية بـ 10.3 % و6 مقاعد.
هناك دلالة واضحة على ان "تبخراً انتخابيا" قد وجد لنفسهِ موضعاً هناك, مما حدا, بأعددٍ لايستهان بها, من الناخبين, أن تُغير من مرشحيها التقليديين وتصوت لإطرافٍ أخُرى . وهذا يعني ان هناك نمواً لاعداد الناخبين العقلانيين. الذي غير المعادلة.وهذا التغيير لا يمكنه الا ان يكون ايجابياً.
لقد كان لظهور ظاهرة "التغيير-كوران" والمعارضة منذ انتخابات اقليم كردستان في تموز 2009, الدور المحوري لكسر التقليدية في الترشيح وكسرالحواجزالنفسية امام قبول الاخر, وجعل الناخب يعيد حساباتهِ الانتخابية من جديد, وفق منطق "عقلاني- استراتيجي" بحت. وانهت بذلك الستاتيكية التي كانت تُخييم على المشهد السياسي الكردستاني منذ 1998. وأعطتهُ حِراكاً وحيويةً جديدين.
لا بل انهُ في خِضم هذا الظهور القوي, لتعددية الاراء والمنافسة الحادة في كردستان والذي كان الكثير من التحليلات القاصرة والسطحية, تصورهُ كأنقسام وتشتيت للصف الكردي. فإنهُ وبالعكس من هذا فتح الباب على مصراعيه, لِتساؤلاتِ شديدة الأهمية, كانت تدوُر رحاها حول: ما هي ثوابتنا القومية؟ وماهي النقاط المشتركة بيننا؟. فكان هذا مؤشرٌ على أن التعددية هذه جعلت بوصلة الكردستاني, تتجه قافلةً, نحو الروح الوطنية , للتعَرُّف على ملامحهِ وجوهرهِ , بعد سنينٍ من تـلبُسِها بالروح الحزبية وإندمجهما معاً. وشهدنا أئتلافاً, يجتمع ليضع برنامجٌ تفاوضيٌ مدروس, مع الاطراف في بغداد في سابقة لم نشهدها من قبل. وهذه المشاركة المتعددة الاطراف في القرارات وصنع السياسات والبرامج هو في جوهرهِ, مأسسة للقرار والسياسة في كردستان. في نقلة نوعية نحو دمقرطة الاثنين. واذا كان المتشككون, يستشهدون بضياع مقاعد للكورد في كركوك, بسبب التعددية, فأن هذه الحجة وإن هيَّ تُحاكي الحقيقة من احد زواياها ولكنها وللأسف تتجنب الزوايا الأخرى. فالآلية الجائرة في القانون الانتخابي, هي التي مهدت الطريق لأن يكون هناك قاسمٌ أنتخابيٌ كبير. لايمكن لبعض القوائم الجديدة أن تتخطاها. ثم إن المشكلة في كركوك تحديداً, كانت متمثلة بالدرجة كبيرة منهُ بأمتناع حوالي 110 الف كوردي من المشاركة في الانتخابات, لربما كأحتجاج سلبي, نابع من حالة الاحباط التي يعيشونها, بسبب المصير المجهول لهم وحرمانهم من الخدمات والرعاية الضرورية من قبل كل الأطراف السياسية, خلال السنين السابقة.
وفي ظل هذا الأحباط المتنامي , لربما يطرح السؤال التالي نفسهُ: ماذا كان سيكون موقف الناخب لو كانت هناك قائمة واحدة ؟ هل كان سيشارك بنفس الحماسة؟.
اما الأصوات الضائعة (حوالي 60 الف صوت) فكانت تعادل مقعد واحد فقط. وذلك لأن القاسم الانتخابي في كركوك فاق الـ 40 الف صوت, علماً فانهُ من العبث اضافة الأصوات الضائعة في اكثر من محافظة والكلام عن مجموع للأصوات الضائعة, وذلك لإن العراق مقسم لعدة دوائرأنتخابية, لا يضاف فيه اصوات محافظة الى أخرى.
يبقى السؤال الذي ينتظرُ اجابة مُلحة, من قبل كل الاطراف الكردستانية , بما فيهم المعارضة, هو لماذا المشاركة في انتخاباتٍ لم يتم فيها توزيع المقاعد وفق احصاءٌ نزيه, وانتخاباتِ يحكمهُ قانونٌ جائر؟ من منكم يتحمل هذه المسؤولية, وتلك النتائج؟ ثم لماذا القبول بنتائج أنتخابات شهدت حالات تزويرٍ فاضحة, وخاصةً في كركوك؟
اما الظهور الجديد لقوة مثل "التغيير" فكان نتيجة تزامن عدة عوامل موضوعية وذاتية معاً, من أهمها.
اولاً: انشقاق العديد من عناصر التيار الذي يسمي نفسهُ "الأصلاحي" من الأتحاد الوطني.
وثانياً: اكتساب طبقة المثقفين ودعاة الحريات في كردستان, لهامش اكبر من الحرية, بسبب وجود نوع من الصحافة الاهلية الحرة والاستقرار الامني.
وثالثاً : تراكم حالة من الاحباط والأستياء الجماهيريين, بسبب تلكؤ, عملية توحيد جميع وزارات ودوائر الادراتين الكرديتين السابقتين, وبالتالي إبقاء الطُفيلية الحزبية والفساد الاداري, تنخُرانِ في هياكلها وتنهمانِ من مواردها. وفي الوقت نفسهُ, تلكؤ عملية, أعادة المناطق المستقطعة وتعثر السياسات الكردية في بغداد بأكثر من عقبة جدية, أمام إستعادة وضمان الحقوق القومية.
هذا اذا علمنا, انهُ وبعد اكثر من 19 سنة, من الابتعاد عن المركز, فأن هناك جيلٌ كامل, قد ولد ويحق لهُ الانتخاب. هذا الجيل لايعرف الانتماء الحزبي بوجهِ الرمزي والتقليدي, الذي ارتبط في السبعينيات والثمانينيات وماقبلها بالانتماء القومي والنضال من اجل قضيتهُ المقدسة. بل أن هذا الجيل, عايشَ الحرب الاهلية والانفتاح على العالم, من خلال الثورة المعلوماتية. لذلك فأن لظهور ظاهرة التغيير اكثر من سبب وعامل, مُتزامن ومُتفاعل مع بعضها. وهيّ في النهاية ليست أسيرة أحدٌ مِنها لوحدها, كما تصورهُ بعض التحليلات التي تجنح عادةً, للتجريد والتبسيط. فهي تضم بين صفوفها الكثير من الطبقات والميول والاتجاهات وتغلب عليها الفئة العمرية الشابة.
يمكن إدراج ظاهرة التغيير تحت صنف الحركات "الاحتجاجية" والتي تكتسب في وقتٍ قصير زخمٌ جماهيريٌ كبير. وإن هيَّ لم تفلح في عبورحاجز الاغلبية ولكنها افلحت في أن تُغيير المعادلة السياسية في كردستان. ولكن يبقى أمامها عدة تحديات أخُرى, أحدها هو أعادة التنظيم وفق هيكلية جديدة تختلف عن الهيكلية الهرمية السائدة لدى الأحزاب الأخُرى. بحيث تستطيع ان تؤطر كل الميول والاختلافات فيها , وثانيهما هو المحافظة على الشعبية الحالية وتطويرها بعد انتهاء حماسة الانتخابات. وذلك بمراجعة فشلها في المناطق المُستقطعة, وتخطي بعض النزعات الانتقامية في تعاملها مع الاتحاد الوطني.
تغييرٌ أخر حدث في المجال السني, تجسد بإعادة توزيع الأدوار, فتم تغيير الوجوه "الورِعة او المرُّوعة الدينية" بوجوه اخرى "قومية عربية علمانية" لاتتردد في ابداء حرصها على مايسمونهُ "عروبة العراق" وعودته لحاضنتهِ الام. وهذا التوزيع للادوار سبق وان شهدتهُ المنطقة من قبل. فالقومية العربية سبق وأن أزدهرت هناك في الخمسينيات. ولحد تسليم دورهِ للاسلام السلفي في منتصف التسعينيات. واليوم يعود ليتسلم دورهُ من جديد.
وهذه الاستراتيجية القديمة الجديدة, في محاولة تجاوز, حدود المذهب المحدود والتعبئة على مستوى القومية العربية, جائت ضمن لعبة اعادة توازن القوى, بين الجوار العربي والنفوذ الايراني. فالأطراف المنضوية تحت القائمة العراقية هي نفسها التي كانت عاملة على الساحة السياسية بلباسٍ ديني, او قومي عربي(بعثي), او قِوى قومية عراقية. ولا يمكن أنكار الدور العربي والامريكي في خلق نوع من التوافق بينها في خطوة لمعادلة الأطرف المحسوبة على النفوذ الايراني. فالرجحان هو لهذه الحجة اكثر مما هو لـ "التبخر الأنتخابي".
اما التغيير الذي حدث في المجال الشيعي, تمثل بظهور قائمة دولة القانون منذ انتخابات مجالس المحافظات. فالائتلاف الهش الذي شُكل بُعيد الانتخابات النيابية السابقة والتي جمعت الاطراف والتيارات الشيعية معاً لم يعد قائماً. وهنا لنا ان نذكر ان معظم الاطراف الشيعية ومن خلال منافساتها الانتخابية, تضع في حساباتها تحقيق هدفين, اثبات وجود امام الاطراف الاخرى( الكرد والسنة), والاحتفاظ في الوقت نفسهِ بالسلطة في بغداد. وهذه المنهجية في التفكير, تُحتمُها عليها, غالبيتها العددية, على مستوى العراق, وهاجسها القديم في أن تعود لِتعيش, في كنف التهميش, كما القرون المنصرمة.
كان لحزب الدعوة وشخص نوري المالكي, الدور الاكبر, في صعود ائتلاف دولة القانون وساعدتهُ في ذلك الحملات العسكرية ضد جيش المهدي في فترة حكمهِ وبمساعدة مباشرة من الطيران الامريكي, الذي جاء بالتوافق مع نجاح استراتيجية الجنرال باتريوس, في استمالة عشائر الانبار ضد القاعدة. فطال الحكومة جانبٌ من بريق النجاح هذا ان لم تك قد اختطفتهُ كلهُ.
لم تتوانَ الحكومة المُدارة مركزياً, من قبلهِ وبعض من مستشاريهِ وقيادات حزبهِ, في استخدام السياسية القديمة ,التي لطالما اتت أًكُلها في العراق, الا وهي سياسة العصى والجزرة. فمن جانب كانت الحملات العسكرية تتوالى في بصرة وبغداد وموصل وخانقين, ومن جانب آخر وظفت اموال النفط لبناء شبكات المحسوبية واستمالة العشائر. وعادت الحكومة لتدغدغ المشاعر القومية العراقية والعربية وتعبئ من أجلها, وتتحدث بلغة اعتادت عليها الناس منذ عقود, في الكلام عن الدولة القوية المركزية وتغير الدستور ونشر الكراهية ضد الفيدرالية والداعين له... وهلم جراً.
يمكن ان نُلخِص التغيير الاكثر بروزاً في المجال الشيعي, بالمقارنة مع 2005. بظهور المالكي وأئتلاف دولة القانون في المجال الشيعي, من جهة, وتراجعٌ ملحوظ للمجلس الاعلى, وصعود جديد للصدريين, وأنهيار ائتلافهم الهش. واذا كان "تبخراً انتخابياً " قد يُلحظ هنا, فإن دوافعهُ تختلف عن الحالة الكردستانية. فلقد أختلطت رغبة التغيير والحساب العقلاني للناخب بولاءات المحسوبية للراعي الذي أغرقهم بالامتيازات والهدايا والاموال المُختلسة من خزينة الدولة.
أنَّ أقتصار هذه التغيرات, في المجالات المحلية الثلاث, ينمُ عن حراكٍ سياسي أيجابي, في حدود المجالات الاكثر تجانساً, يسمح بظهور وصعود قوى جديدة واضمحلال ونزول أخُرى قديمة أو تغيير نوع التوازنات والمعادلات التي تحكم علاقتها. في حين أنَّ غياب هذه التغييرات على المستوى الوطني يشير الى رسوخ الخصومة واستمرارية حالة الخوف من الآخر وعدم الثقة بهِ , وخاصة في العلاقات الشيعية –السنية من جهة والكردية العربية من جهةٍ اخرى.
الخلاصة :
أذا كانت الديمقراطية لاتتحقق بالانتخابات وحدها فأنها في الحالة العراقية تصتدم بمجتمع منقسم على نفسهِ ويعيش ازمة حادة في الهوية والخوف أوعدم قبول للآخر. مُفتقرة لِتُراثٍ ديمقراطي من جهة وغارقٌ في بحرٍ من الدكتاتوريات والأنظمة الأستبدادية في الشرق الأوسط من جهة اخرى. ومتورطٌ بموارد نفطيةِ تَحَولَّ, بسبب سيطرة الدولة عليها, الى نقمة, بدل أن تكون نِعمة. لا بل أن التوترات الداخلية والتوازنات الاقليمية, تخلق دائماً آلة عسكرية ضخمة تهدد أي نظام ديمقراطي ناشئ فيها. والنتائج الانتخابية كانت بمثابة تكرار للارقام والمعادلات نفسها خلال السنين السابقة وذلك على المستوى الوطني, مع تغييرٍ متفاوت على المستوى المحلي. والموروث الثقافي السياسي لدى الافراد يستمد جُل قواهُ من مصادر لاتتوائم مع الافكار الديمقراطية.
أنَّ إِعتماد أي أستراتيجة, في الحالة العراقية, يجب أن تأخُذ في حسُبانها, آلية واقعية, يُمكنها أن تجُسّر الهوة بين الأطراف المُتخاصمة, وتخلق الثقة, ولوأستغرق ذلك فترة بعيدة الأمد, تعكس بشكلٍ أو آخر مشاركة فاعلة للجميع, في ادارة السلطة والثروة معاً. وهناك مجموعة من الحلول الجزئية التي تكمل إحداها الأخُرى يُمكن أن تُطبق, على شكل حُزمة, من إقتراحاتٍ, طرحها بعض الباحثين ووجد البعض منها مسارهُ نحو التقنين الدستوري.
فالحالة العراقية ,هيّ أحوج من اي وقت سبق لِتطبيق نظامٌ أتحادي, يحفظ خصوصية كل الاطراف المتخاصمة والمُتمركزة في قطاعات جغرافية محددة, بدل النظام الوحدوي, الذي يتشبث بها الاطراف العراقية. هذه الانظمة الاتحادية تسهم في تشتيتٍ جذري للسلطات اولاً ومن ثمَّة تعمد لأعادة توزيعها بين المركز والاقاليم. اما القرارات والسياسات الاتحادية فيتم تقاسمها, وفق نظام توافقي, بمشاركة نسبية في مؤسسات الدولة الاتحادية من قبل كل الاطراف. وكل هذا في سبيل خلق حالة من الثقة المتبادلة واعطاء فرصة للتعايش السلمي. أما عيوب التوافقية, من بطء العمل الحكومي وعرقلة جهودها في الاضطلاع بمهامها الوطنية من جهة وعيوب النسبية التمثيلية التي تجنح, الى انتشار الفساد والمحسوبية من جهة اخرى. فيمكن تجاوزهما, بتوزيع اكبر للصلاحيات على حكومات الاقاليم الاتحادية وجعلها اكثر فعاليةً, لتلبية الحاجات اليومية المُلحة لمواطنيها. وتقليل اهمية المركز.
عرض عدة باحثين ومؤسسات دولية أخُرى, آلية جديدة, لتوزيع جزء من عائدات النفط على المواطنين مباشرة والجزء الآخر على حكومات الاقاليم, في خطوة طموحة, لخلق نوع من الرقابة الشعبية وشفافية اكبرعلى ايرادات الموارد هذه, وخلق تراكمٌ للمال الخاص وتقليل سيطرة الدولة على تلك الثروة وأعادة تمويل الدولة من خلال نظام ضرائبيٌ ما. وذلك لتجاوز مساوئ الاقتصاد الريعي.
أما غاريث ستانسفيلد وليام اندرسن, فقد عرضا حل توافقي لمشكلة المناطق المستقطعة من كردستان, وبالاخص لمحافظة كركوك. وذلك بأختزال المشكلة في عنصرين: هما العائدية الادارية للمحافظة والعنصر الثاني آلية حُكمها. فهي تترجح بين كركوك يُضَّم الى أقليم كردستان ويُمنح وضعاً خاصاً ضمن الأقليم. ويُدار على أُسُسٍ توافقية, مبينة على المساواة. وبين إبقاء كركوك خارج اقليم كردستان ولكن بوضعٍ خاص, ضمن العراق, ويدار بقاعدة الاغلبية.
في الحالة الاولى, تتحقق جزءٌ من مطالب الكرد وذلك بأعادة المحافظة الى حدود اقليم كردستان. ويتحقق جزءٌ من مطالب التركمان والعرب بمشاركة فاعلة في ادارة المحافظة بنفس الصلاحيات التي لدى الغالبية الكردية. وكذلك الفدرالية ضمن اقليم كردستان. أما في الحالة الثانية, فيتم تلبية جزء من مطالب التركمان والعرب بأبقائهم خارج حدود أقليم كردستان وتلبية جزء من مطالب الكرد بأعطائهم الحق في ممارسة اغلبيتهم العددية لإدارة المدينة. وتحويلها الى اقليمٌ مُستقل مُدار كردياً, الى جنب أقليم كـُردستان.
أننا لو أمعنا النظر الى تلك الأقتراحات, نراها ترسوعلى نفس الشواطئ التي ترسو عليها العديد من البنود والمواد الدستورية التي تتكلم عن الاتحادية والتوافقية كنظام حكمٍ للعراق. والمواد التي تتكلم عن آليات توزيع الثروة بين المركز والاقليم. والمادة 140. ألا أنها مُعَّطلة بإرادة سياسية من الاطراف العربية, التي تعُادي كل هذهِ المواد وتطالب بتغييرها. السؤال الذي يتفاداهُ تلك القوى هو: ماذا جلب نظام الحكم المركزي والوحدوي المُتحكم بالثروة والمُضفي هوية قسرية عرّوبية على العراق طوال أكثر من 90 سنة من سيادتها في العراق؟.
تبقى التداخلات الاقليمية والتوترات الداخلية التي تحتاج الى قوة دولية تردعهما لإمدٍ بعيد كما القوات الامريكية المتواجدة في المانيا واليابان.

[email protected]
المصادر:
1. الديمقراطية ونقادها, روبرت دال. ترجمة: نمير عباس مظفر ومراجعة د. فاروق منصور, دار الفارس للنشر والتوزيع 2005.
2. علم الاجتماع السياسي, فيليب برو, ترجمة: محمد عرب صاصيلا, عن مؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع 2006.
3. المجتمع العراقي, حفريات سوسولوجية في الاثنيات والطوائف والطبقات, تأليف مجموعة من الباحثين, عن معهد الدراسات الاستراتيجية 2006.
4. النفط والاستبداد, الاقتصاد السياسي للدولة الريعية, تأليف مجموعة من الباحثين, عن معهد الدراسات الاستراتيجية 2007.
5. الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد, آرنت ليبهارت. ترجمة : حسني زينة, عن معهد الدراسات الاستراتيجية 2007.
6. أزمة كركوك, السياسة الاثنية في النزاع والحلول التوافقية, تأليف ليام اندرسن وغاريث ستانسفيلد, ترجمة: عبد الاله النعيمي. عن معهد الدراسات الاستراتيجية 2009.
7. مقدمة الى علم السياسة. الدكتور عبد المعطي محمد عساف, دار المجدلاوي للنشر والتوزيع 1987.
8. المجتمع المدني , من اليونان حتى القرن العشرين, جون آرنبيرغ, ترجمة: حسن ناظم وعلي حاكم صالح. عن معهد الدراسات الاستراتيجية 2007.
9. مفاهيم اللبيرتارية وروادها, الجزء الثاني " الفردية والمجتمع المدني" والجزء الخامس "الاسواق الحرة", تحرير ديفيد بوز وترجمة: صلاح عبد الحق , عن معهد كيوتو 2008.
10. القومية العربية بأزاء القومية الكردية تأملات في التماثلات والتباينات البينيوية. فالح عبالجبار.
11. جميع نتائج الانتخابات مستقاة من موقع المفوضية العليا للأنتخابات على شبكة الانترنيت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. توسع الاحتجاجات الجامعية في أنحاء العالم


.. إجراءات اتخذتها جامعات غربية بعد حرب إسرائيل على غزة




.. استشهاد فلسطينيين أحدهما طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزلا شر


.. على خطى حماس وحزب الله.. الحوثيون يطورون شبكة أنفاق وقواعد ع




.. قوة روسية تنتشر في قاعدة عسكرية في النيجر