الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شركاء التوليب

هشام آدم

2010 / 4 / 28
الادب والفن


شركاء التوليب

جثت على ركبتيها بتثاقل أمام قبره كملاكٍ باهت الإضاءة ضلّ طريقه إلى السماء، قصّت عليه أنباء القرية: الذين قضوا نحبهم، والمهاجرين، والمتزوّجين، وحديثي الولادة. قصّت عليه أنباء التجّار، والبحارة، والمُزارعين في غيطان الباذنجان والبرسيم. حكت له عن انهيار سقف عليّة المنزل الخشبية لبيت جارتها جليلة صالح، ونفوق بقرة عبده هاشم، وفيضان النهر الأخير، وموسم الجراد، وفضائح القرية. أنشدت له أغنيته المفضلة، وكأنها تهدهده قبل النوم. باحت له بما يعتلج داخلها من شوق، ورغبتها في اللحاق به إلى الجنة حيث يقبع في هدوء وسكينة، ناعماً تحت ظلال أشجارها الأسطورية، ومُعفراً قديمه المتشققتين في مياه أنهارها التي بلا منبع ولا مصب، ثم وضعت باقة من زهور التوليب وغادرت في هدوء.

عادت بعد أسبوع، وقصّت عليه الأنباء، وحكت له الحكايا المُعتادة، وأنشدت له أغنيته الدافئة التي يُحبها، وبكت ما شاء لها الشوق أن تبكي، وعندما همّت بإبدال أزهار التوليب بأخرى جديدة، وجدتها طازجة كما تركتها آخر مرّة. لم تستطع أن تفهم شعورها حيال تلك الغرابة، ولكنها بطريقة ما اقتنعت بأن زوجها يحمل كرامة الأولياء الصالحين، قابعاً في عليائه المجيد، ناعماً تحت ظلال أشجارها الأسطورية، ومُعفراً قدميه المتشققتين في مياه أنهارها التي بلا منبع. خمّنت أن تكون تلك علامة ما، أو رسالة يُحاول أن يُوصلها إليها، فأخذت تستعد للحاق به في أية لحظة. أخذت زهورها القديمة، ووضعت الأخرى وانصرفت في هدوء.

كانت تنتظر الموت بفرح جم، وخوف هادئ؛ لذا فقد حرصت على إعادة الأواني الفخارية إلى جارتها، ووهبتها قطتها المُدللة، وباعت حليها الفضية العتيقة لتتمكن من الإيفاء بديونها المتفرقة، واشترت كفنها، ووضعته أعلى خزانة الملابس، غير أنها لم تمت طوال الأسبوع.

بدأت تفقد إيمانها بكرامة زوجها المُخمّنة، وتتيقن من أن هلاوس العشاق المكلومين بدأت تسكن جيوبها الأنفية، وزقاقات أوردتها البطيئة الساخنة. عادت إلى قبره بعدها، وأخذت تقص عليه من جديد أنباء القرية: تفشي الطاعون، وهجرة الشباب، وعنوسة الفتيات، وتوقعات حرب قادمة. اشتكت إليه خبث التجّار، ولؤم البحّارة وبشاعة غيطان الباذنجان المهجورة، وحكت له عن نفوق قطتها المُدللة عند جارتها، واكتشافها زيف بعض الحُلي، ثم أنشدت له أغنيته المفضّلة، وعندما همّت بإبدال أزهار التوليب بأخرى جديدة وجدتها طازجة كذلك.

كانت ما تزال تتساءل عن سر بقاء زهور التوليب طازجة في كل مرة، والرسالة الخفية التي يُريد زوجها أن يوصلها من وراء ذلك، ولكنها لم تتمكن من الوصول إلى تفسير نهائي وقاطع. ولكنها عادت مقتنعة بأن لزوجها كرامةً ما غير مفهومة، وألا شأن لها بما يجري على الإطلاق.

ذلك اليوم -لم يكن يوم الأحد كما هو عادتها- وجدت شاباً وسيم الطلعة والقسمات، جاثياً على قبر زوجها، يُردد بعض الآيات في خشوع، ويُبدل زهور التوليب اليابسة بأخرى جديدة، فابتسمت لأنها عرفت سر التوليب، ولكنها لم تفهم سر علاقته بالقبر وصاحبه، فتقدمت إليه برشاقة:

- هل كنتَ تعرف زوجي أيها الوسيم؟
- زوجك؟ ولكنني أقف على قبر والدي.

حكا لها عن صاحب القبر المزارع الذي جندته الحكومة إبان الحرب الأهلية، والبطولات التي عاش زملاؤه ليحكوها له، وقصة استشهاده التي أفجعت الجميع. وحكت له عن صاحب القبر الحداد الذي مات برفسة من فرس، كيف تزوجا منذ سنوات بعد افتضاح قصة عشقهما السرّية، وأمنيته في الإنجاب التي ظلّ يحلم بتحققها حتى وفاته.

الأمر الأكثر رومانسية كان شراكتهما في زهور التوليب، واكتشافهما سر بقائها طازجة في كل مرّة، بينما الأمر الأكثر واقعية كان خلافها على صاحب القبر، فبينما تمسّك الشاب بأن صاحب القبر هو والده المزارع الشهيد، تمسّكت العجوز بأنه قبر الحداد العاقر الذي ظلت تعشقه طوال سنواتها الثماني والستين، وقالت: "ليس هنالك قبر شهيد بلا شاهد!"

جلسا إلى شيخ القرية الذي لم يستطع أن يُحدد بشكل قاطع هوية صاحب القبر، ولم يكن من أحد في كلا القريتين يعرف ذلك. قالوا: "القبور كلها تتشابه، وشواهدها لا تحمل أسماءً أو حتى تواريخ وفاة!" لذا فإنه أصدر حُكمه بنبش القبر، وإخراج الميّت للتعرّف إليه. واتفقوا على أن يتم نبش القبر غداً صباحاً.

في مكان آخر كان الشاب متكئاً على أريكةٍ كقارب صيد، وهو يُفكّر فيما يُمكن أن يُخبئ له الصباح، وكأنه سوف يرى والده لأول مرّة. كم لا نُحب رؤية الأموات! مهما كان مقدار حبنا لهم، إلا أننا لا نحب أن نراهم نائمين لا تحمل وجوههم تعابيرها التي نحبها فيهم. خمّن أنها فرصة مُناسبة لنقل قبر والده الشهيد إلى حيث يجب أن يكون. ونام باكراً تلك الليلة.

وقتها كانت السيّدة العجوز تجلس على كرسيّها المتأرجح الذي من خشب البامبو، تلتف عليها عشرات الهواجس الخائفة والمُطمئنة، ركّزت بصرها على نقطة وهمية في فضاء الردهة، وكأنها تحضّر روح زوجها لسؤاله عمّا يتوجب عليها فعله. خمّنت أنها سوف تفتقد شيئاً ما سواء أكان هو أم غيره الذي يرقد في ذلك القبر. لم تتساءل أين قد يكون زوجها إن لم يكن هو من كانت تقصّ عليه أنباء القرية وتُنشد له أغنياته المفضلة، ولكنها كانت تُفكّر بأمر آخر لا تستطع الإمساك بخاصرته تماماً.

بحلول التاسعة صباحاً كان الجميع متجمهرين أمام القبر في انتظار شيخ القرية الذي أتى بمشية البطريق حاملاً مصحفاً بيده، وفي الأخرى عصا أبنوسية غليظة. كانت قسماته ليست كالمُعتاد، أو هكذا خيّل إلى السيّدة العجوز والشاب الوسيم. نظر شيخ القرية إلى وجوه الجميع بطريقة متفحصة، وكأنه يُريد استنطاق شيء ما، وقبل أن ينطق بكلمة واحدة تقدم الشاب والسيّدة العجوز: "لا نريد نبش القبر، فليكن من يكون. نبش قبر الميّت كتعرية الحيّ!" وصفق الجميع لذلك، وانصرفوا، ولم يكف الشاب الوسيم عن زيارة القبر كل جُمعة والدعاء عند قدميه، ولم تكف العجوز عن زيارة ذات القبر كل يوم أحد، تقص عليه أنباء القرية، وتنشده أغنيته المفضلة وتستبدل زهور التوليب الطازجة بأخرى مثلها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ابداع رائع
huda a ( 2010 / 4 / 28 - 15:48 )
ابداع رائع


2 - شكر وتحية
محمد البدري ( 2010 / 4 / 28 - 16:03 )
ابداع علي القارئ تامله وان يذهب به فكرة الي ما وراء الاحداث، فهي متجدده وتبقي القيمة التي يلتف حولها الجميع مثلما تذهب الاجساد وتبقي افعالهم واقوالهم وما خرج من عقولهم لانارة الباقين علي وجه الدنيا او فوق القبر. تحيه لابداعك وشكرا لامتاعنا.


3 - نبش القبور للبحث عن الحقيقة
فاتن واصل ( 2010 / 4 / 28 - 17:35 )
شئ غير مرغوب فيه ، سأعتبره رمز القصة الجميلة ، فلندع الحقيقة نائمة داخل القبر لا نعرفها ولا نريد، ونجمِلها ونضع حولها الزهور دون ان نعرف حتى لمن تلك الزهور ،وتبقى مختفية لأن معرفتها ستسبب إنقلاب حيوات الناس ، وتجعلهم يفكرون وقد يرفضون أو يضطرون لتصحيح مسار ، لذا فدع الحقيقة راقدة بعيدة عن العيون الفاحصة ... هكذا قرأتها ، تحياتى واحترامى


4 - قصة ساحرة
صلاح يوسف ( 2010 / 4 / 28 - 19:41 )
أي بشر أولئك الذين تقبل كل منهم معتقد الآخر ؟ لقد ظل يزور هو القبر باعتباره قبر أبيه زظلت هي تعتبره قبر زوجها واستمر الإثنان في تبديل زهور التوليب دون أن تنشب معركة ساذجة بسبب حقيقة ستكون مؤلمة على الأقل لطرف إن لم يكن لكلا الطرفين ؟ قصة ساحرة وأسلوب جميل. شكراً يا هشام على إمتاعنا وإشراكنا.


5 - huda a
هشام آدم ( 2010 / 4 / 29 - 06:49 )
الأخت: هدى
أشكرك على مرورك وتعليقك. وسعيد أن النص نال قسطاً من إعجابك
تحياتي لك


6 - محمد البدري
هشام آدم ( 2010 / 4 / 29 - 06:52 )
عزيزي محمد البدري
أشكرك على احتفائك بالنص. دائمة تسحرنا ثيمة الموت، وتلك الازدواجية أو الجدلية في معاني الموت والحياة. هي فعلاً جديرة بالتأمل، ورؤيتها بصورة مختلفة تمتماً كما أنها شيء مختلف

شكراً لمرورك الكريم فقد سعدت به كثيراً


7 - فاتن واصل
هشام آدم ( 2010 / 4 / 29 - 06:56 )
العزيزة والمبدعة فاتن واصل
ربما أكونمتطفلاً على أدب القصة القصيرة، ولهذا فإنني أضع يدي على قلبي كلما مرّ بي أحد كتاب القصة القصيرة، وأشهد أن كتابة القصة القصيرة من أصعب ما يكون. أخاف كثيراً أن يجرفني النفس الروائي حتى أخرج من مسارات القصة القصيرة فأكون عبء عليها. الإشادة من كاتبة قصة قصيرة مجيدة مثلك شيء يُفؤحني ويشرفني كثيراً. والأمر هو تماماً كما قرأته عزيزتي، فلك الشكر على منحي هذه الطمأنينة
تحياتي


8 - صلاح يوسف
هشام آدم ( 2010 / 4 / 29 - 07:01 )
صديقي العزيز صلاح يوسف

تعرف! لقد قرأت تعليقك ربما أكثر من ثمان مرات، ثم لعنتك في سرّي :) لأن التعليق على تعليق كهذا هو مأزق حقيقي.. والحقيقة أنني لم أجد أي رد مناسب لتعليقك المدهش هذا إلا أن أصفه بأنها قراءة لما وراء النص، وهو أمر مدهش أكثر منه مفرحاً وباعثاً على السعادة. تصدق أني أحببت النص بعد قراءة تعليقك؟ :) سعيد بمرورك الكريم وتعليقك الرائع والذي أتمنى أن أكون أهلاً له وبحجم توقعاته

محبتي


9 - تعبآ هو البرق الذي لا يضئ اغبية الخفايا
وجيدة ( 2010 / 4 / 29 - 18:13 )
شئ جميل ومذيدا من الابداع
بس يا هشام اتعبتنا علامات الاستفهام واعيانا الاستسلام ...........................
فلا تصلبنا مسيحا في صليب الانتظار
وافيا لقوووووووووووووووا
وجيدة


10 - احييك
ناهد ( 2010 / 4 / 30 - 02:29 )
ابداع رهيب ، قصة مؤثرة ولها ابعاد عدة ، اؤيد الاستاذ صلاح في تعليقه ، واضيف حتى لو كنا نطارد خيالا ووهما وما دام يجلب لنا شعور بالراحة ولا يؤذي احد فما الضير .
شكرا جزيلا على قصة رائعة ومميزة بمضمونها واسلوبها وايجازها.
كل الاحترام
سلام


11 - نهاية رائعه
ابو مودة ( 2010 / 4 / 30 - 05:19 )
كنت بأنتظار ما ستؤول اليه الامور بعد نبش القبر
لكن النهاية مفاجئه..............وجميل ان يعود الانسان لعقله وانسانيته في حل اية مشكلة تواجهه
حقا انها نهايةرائعه


12 - جميل يا أخ هشام
قارئة الحوار المتمدن ( 2010 / 4 / 30 - 16:29 )
لا تضع يدك على قلبك كلما مر بك أحد كتاب القصة القصيرة فأنت لها يا عزيزي ومحاولاتك تثبت ذلك ,ثم تقول أخاف أن يجرفني النفس الروائي , ولِمَ لا ؟ لماذا لا تحاول أيضاً في الرواية لعلك تبدع أكثر , أنا أتمنى أن أقرأ لك في كل فن أدبي , أما عندك محاولات شعرية ؟؟ أرجو أن تتحفنا بما لديك , قصة جميلة شكراً لك


13 - الجندي المجهول
سالم النجار ( 2010 / 4 / 30 - 19:05 )
الاستاذ العزيز هشام آدم
يسعد مساك
رائع جداً
غالباً يدفعنا الفضول لمعرفة الحقيقة
لكن في هذه القصة ليكن من في القبر الجندي المجهول ,نكرمه ونضع الزهور على قبره ولا نريد ان نعرف هويته لكننا نعلم ما قدمه, موقف العجوز غاية في العقلانية لانها غير قادرة على البحث عن زوجها من جديد بعد ان انهكتها السنين, لندع من في الفبور يرقدون يسلام

اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - الزمالك كان في زنقة وربنا سترها مع جوميز.. النا


.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ




.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت