الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفترق التطور أو التدهور العراقي

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2010 / 4 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


إن العملية التاريخية المرة والمريرة لتراكم القوى الاجتماعية السياسية العراقية تبقى في نهاية المطاف جزء من المعاناة القاسية للولادة الطبيعية. ومن الممكن أن نطلق على هذه الحالة عبارة الوقوف المرتقب، الأول والأكبر أمام النفس (وإن بصورة لا يمكن وصفها بالمستقلة التامة قبل إخراج القوات الأمريكية بصورة تامة وإنهاء كل صيغ وأشكال ومستويات تدخلها في الشئون الداخلية للعراق). انه وقوف الارتقاب أمام مفترق تكرار الزمن الضائع، أي زمن السلطة ومغامرات ومقامرات الأحزاب والنخب المؤقتة، أو الانتقال إلى تاريخ الدولة، أي دولة القانون والشرعية. إن هذا الوقوف المترقب هو التعبير المرهف عما يمكن دعوته بدراما المستقبل، أي حالة الافتراق المعقدة والمثيرة بين إمكانية التطور الذاتي المستقل للعراق وبين إمكانية انغلاقه وانكفائه وتعميق "منظومة" التفكك الوطني والاجتماعي. بعبارة أخرى، إن المضمون السياسي العميق لهذه الحالة يكمن في وقوف المجتمع الضعيف والمفكك، والقوى السياسية المتحزبة والمتراصة والوثابة صوب السلطة، أمام مفترق تكرار الزمن الفارغ (إعادة إنتاج نفسية وذهنية السلطة)، أو السير قدما صوب بناء الدولة بشكل عام والشرعية بشكل خاص (دولة القانون). وهو بالقدر ذاته مفترق الانغلاق والانحطاط أو الانفتاح والتطور الذي وقف ويقف أمامه العراق في تجربته الديمقراطية والحقوقية الأولية، أي تعلم انتخاب واختيار القوى السياسية والأفراد من اجل إدارة شئونه بنفسه. وإذا كانت تجربة ست سنوات بمختلف مستوياتها الانتخابية قد كشفت عن نمو الوعي الاجتماعي السياسي، إلا انه ما زال يعاني من ثغرات كبرى بسبب المواجهة الخفية لاتجاه تقوية مركزية الدولة ومنظومة الحقوق وحكم القانون، من جانب قوى و"مؤسسات" وتقاليد "المحاصصة" في السلطة، و"التوافق" في "الديمقراطية". مع ما يترتب عليه من استمرار حالة التأرجح بين انغلاق السلطة وضمور فكرة الدولة من جهة، ومشروع البديل الديمقراطي والقانوني من جهة أخرى، أي كل ما يضع فكرة المصير الفعلي للدولة والأمة والإرادة السياسية أمام اختبار تاريخي جديد، قد يكون الأهم من نوعه في حياة الدولة العراقية الحديثة والمعاصرة. وذلك لأن التناقض السابق بين السلطة الدكتاتورية والمجتمع قد انتقل الآن إلى ميدان الاختيار الاجتماعي للقوى السياسية والانتخاب الواعي للمستقبل. من هنا انتقال دراما التطور أو التقهقر إلى ميدان الصراع العلني والمستتر بين القوى التقليدية من إقطاعية وعائلية حزبية متخلفة هي بحد ذاتها مرتع ومصدر المحسوبية والفساد المادي والمعنوي للدولة والمجتمع والحقوق، وبين قوى المشروع الوطني والمستقبل.

إن المعركة الحالية القائمة وراء وبموازاة وما بعد الانتخابات الاخيرة (2010) هي معركة الصراع الأولي الأكبر بين القوى التقليدية التي تستعيد تقاليد الزمن الضائع، وبين قوى المستقبل، أي قوى الدولة والقانون. بمعنى إننا نقف أمام المعركة التاريخية الكبرى الأولى لانتشال فكرة المصير الوطني العراقي وإرادته المستقلة في اختيار شكل الدولة والنظام السياسي والمستقبل. وهي معركة مرت بها جميع الأمم الراقية، كما أنها المعركة التي ينبغي المرور بها من قبل الأمم والدول جميعا لكي ترتقي إلى مصاف الدولة الشرعية الفعلية والمجتمع المدني والتطور الديناميكي. وذلك لأن فكرة المصير تبقى هي هي بحد ذاتها بالنسبة للأفراد والجماعات والأمم والدول، أي وثيقة الارتباط بنوعية الإرادة وغاياتها.
فعندما نبحث بصورة علمية دقيقة في واقع الانحطاط والاحتلال والفساد المادي والمعنوي للنخب في العراق الحديث، فإننا سوف نعثر على أسبابه النهائية في بنية الدولة العراقية الحديثة نفسها. أنها دولة مقلوبة منذ الأصل. ولا أصول اجتماعية راسخة فيها. مبنية على تقاليد عثمانية متهرئة، فئوية جهوية طائفية، سرعان ما وجدت تعبيرها النموذجي بعد انكسارها المريع بأثر أحداث الانقلاب الراديكالي في 14 تموز 1958. فقد كشف هذا الانقلاب عن خللها، لكنه استكمل هذا الخلل عبر دمجه بمنظومة القيم الراديكالية. حينذاك أصبح العراق سبيكة خربة من تاريخ هش وإرادة راديكالية. مما أدى بدوره إلى صنع راديكالية الإرادة الهشة ومن ثم تصنيع الزمن الفارغ للدولة والمجتمع والثقافة. الأمر الذي يضع بدوره السؤال الأكبر التالي عن علاقة المصير والإرادة: كيف يمكن إعادة بناء المصير العراقي، بحيث يصبح جزء من المستقبل العراقي، أي جزء من تاريخ الدولة وليس جزء من زمن السلطة الفارغ؟

إن الإجابة الفعلية والبديلة على هذا السؤال تقوم في نقل الصراع الحالي في العراق إلى مستوى الصراع من اجل المستقبل، أي تحويل فكرة المستقبل إلى جوهر الصراع الاجتماعي والسياسي. وبما انه لا يمكن صنع مستقبل فعلي في ظل غياب تاريخ فعلي، من هنا ضرورة البدء من البداية الحقيقية، أي من بداية بناء الدول الشرعية، أي دولة القانون. ففيها يكمن مصدر وأساس التاريخ الفعلي للدولة والمجتمع والأمة والعلم والثقافة، وبالتالي مصدر إرساء الأسس الحقيقية لعراق المستقبل. الأمر الذي يعطي لتيار دولة القانون أبعاده السياسية الوطنية والدولتية الجديدة. فهو التيار الوحيد الذي جعل من فكرة الدولة والقانون شعاره الرئيسي. وهو تحول منظومي كبير في الرؤية السياسية العراقية، أي تحول كبير في الموقف من فكرة الدولة الحديثة. بمعنى انه يعي طبيعة الخلل المنظومي القائم وراء انعدام التاريخ الفعلي للعراق الحديث وهيمنة الزمن السياسي (الحزبي) الفارغ.
فالعراق منذ 1958 وحتى نهاية الدكتاتورية الصدامية هو مجرد زمن السلطات والنخب المؤقتة. الأمر الذي يمكن رؤيته الآن أيضا في انتشار وهيمنة سلطة الأحزاب الضيقة أو العائلات التقليدية أو الإقطاعيات المحلية أو التشكيلات الفئوية والجهوية والطائفية العلنية والمستترة. وجميعها لا علاقة له بالدولة والهموم الاجتماعية الكبرى. من هنا انعدام اللياقة المادية والمعنوية والاحتراف في الإدارة. والاحتراف الوحيد هو "سياسة حزبية" أي تقاليد المؤامرة والمغامرة والبحث عن غنيمة. من هنا انعدام الثبات فيها وعندها، أي التقلب الدائم والتغير في المواقف وانعدام المبادئ الكبرى الثابتة ومنظومة القيم الاجتماعية والوطنية.
إن رفع شعار دولة القانون هو الصيغة المثلى لتمثل حقائق التاريخ العراقي الحديث. وهي المهمة الأعقد بسبب انعدام تقاليد الدولة ومؤسساتها. من هنا شراسة المواجهة العلنية والمستترة من قبل البنية التقليدية للأحزاب بشكل خاص. وفي الوقت نفسه هي مهمة وطنية كبرى، لأنها تضع احد اخطر الشعارات الدقيقة أمام اختبار فعلي وتاريخي كبير، يرتبط نجاحه بنجاح بناء الدولة الحقيقية. وهذا أمر مستحيل دون الربط الفعال بين مركزية الدولة وإعادة بناءها على أسس الاحتراف المهني والعلم الحديث، وليس على أساس الانتماء الحزبي والعقائدي. فالأخير عاجز عن تمثل حقائق التاريخ والعلم. بينما دولة القانون هي تاريخ فعلي وعلم دقيق مفتوح على كل الاحتمالات العقلانية والإنسانية.
إن مركزية الدولة وشرعية سلوكها المحكوم بالقانون هو أساس ومصدر الإرادة الوطنية القادرة على الفوز في معركة المستقبل. وهو الرهان التاريخي الذي ينتظر العراق كدولة ونظام سياسي ومنظومة اجتماعية واقتصادية وعلمية وثقافية تلامس كل هموم الأفراد والجماعات والمجتمع.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عزة.. ماذا بعد؟ | المعارضة الإسرائيلية تمنح نتنياهو -الأمان-


.. فيضانات في الهند توقع أضراراً طالت ملايين الأشخاص




.. مواجهة مرتقبة بين إسبانيا وفرنسا في نصف نهائي يورو 2024


.. الاستقرار المالي يثير هلع الفرنسيين




.. تفاعلكم | مذيعة أميركية تخسر وظيفتها بسبب مقابلة مع بايدن!