الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حتى لا يتسع المضيق بين المغرب وجاليته في أوربا

عبد الإله بوحمالة

2010 / 5 / 1
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


من عادة بعض المتسولين شديدي اللؤم والخسة أنهم ما إن يتمكنوا من الصدقة حين تمدها لهم ويطمئنوا إلى أنها صارت في جيوبهم حتى يديروا لك ظهر المجن ويضربوا عنك صفحا إلى غيرك بعد أن يعاجلوك بدعاء متسرع جاهز ومدغوم لا تستطيع أن تتبين أكان لك أم عليك، ثم لا يحفلون بك بعدها سواء قصفتك سيارة، لا قدر الله، أو حدث لك مكروه وأنت توليهم ظهرك في الشارع مباشرة.
مناسبة هذا الكلام ما حدث ويحدث في السنين الأخيرة لإخواننا المغاربة المقيمين بالخارج بعد الأزمة الاقتصادية التي عصفت أوربا وبعد ما أصبحوا يتعرضون له من مضايقات عنصرية واعتداءات إجرامية بدأت تأخذ أحيانا أبعاد خطيرة، خصوصا في خضم تصاعد موجة الكراهية للعرب والمسلمين في السنين الأخيرة.
لقد صار لزاما على الحكومة المغربية والأحزاب وجمعيات المجتمع ووسائل الإعلام إذن أن تتحمل مسؤولياتها في هذا الاتجاه وأن تتحرك بشكل عاجل على كل الجبهات والصعد الرسمية وغير الرسمية، وأن تنسق مع حكومات الدول الأوربية المستقبلة وهيئاتها وحكومات الدول المغاربية والعربية التي لها جاليات في أوربا لتطويق هذا الوضع المتدهور من جهة، ولتحسيس المواطنين المهاجرين هناك أن وراءهم وطن ودولة وشعب يتضامن معهم ويؤازرهم في المحن والضراء بنفس القدر والحماس وروح المواطنة العالية التي ظلوا يؤكدونها، هم من جهتهم، في كل مناسبة أو ظرفية صعبة تلم بالمغرب.
فالمغاربة المقيمون في الخارج هم مواطنون وإخوان وأهل قبل أن يكونوا مصدرا لعملة صعبة يعرف الجميع أنهم لم يضنوا ولم يمنوا بها على وطنهم ولا على أهاليهم ولا على خزينة بلدهم...
وحكى أحد الأصدقاء فقال:
رحم الله جدتي.. فقد قضت عمرها بأكمله لم تبارح قريتها وقبيلتها وظلت وفية لموقف سلبي راسخ من الروميين، ( أي الأوربيين )، ومن الحداثة والعصرنة رغم أنها احتكت في سنوات شيخوختها الوديعة ببعض مظاهر الحضارة والمدنية كالراديو والتلفزيون والثلاجة وما إلى ذلك..
ورغم أنها بدوية الطبع وأصلها من بطن الريف الفلاحي حيث مفردات الحياة لا تخرج عن الحرث والزرع والحصاد والإطمار وشغل الصوف، إلا أنها حينما جاورت البحر عشقته وافتتنت به ووجدت له في نفسها حبا دفينا لا تعرف منشأه. لذلك فإن الشيء الوحيد الذي كانت تحب أن تراه على شاشة التلفزيون، إلى جانب الفروسية والمناظر الريفية البانورامية المفتوحة، هو منظر البحر وتلاطم أمواجه على الشاطئ الصخري وصوت طيور النورس تحلق في سمائه الرحبة.
جدتي هذه، ـ يقول صديقي ـ حينما خانها السمع والنظر وأشياء أخرى، ربطت علاقة حميمية متينة مع ابنة أخي وهي أصغر فرد في الأسرة على أساس غير مفهوم اللهم إلا ذاك الإحساس المشترك بأن حالهما من بعضه وأن حضورهما في الأسرة حضور من لا حرج عليه ولا مسؤولية. فكانتا تنعمان في ظل ذلك بلحظات صفو وحنان متدفق لا نظير لها، وتتبادلان أغرب حديث وأطرف حوار لا اعتراف فيه باللغة إلا كذبذبات صوتية تذهب وتعود غفلا من المعنى.
وكانت جدتي لا تصدق أن التلفزيون بات يمكن التحكم فيه بجهاز صغير منفصل وبعيد. فيما كانت ابنة أخي تستغل ذلك بشيطنة فتقلب القنوات من وراء ظهرها لتستقر عند قناة الرسوم المتحركة.
جدتي لا تروقها أفلام الكرتون التي تسميها تصاوير ماسخة والتي يتعارك فيها القط والفأر ويتكلمان ويتبادلان نصب الفخاخ والمقالب، وعند رؤيتها في كل مرة تتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وتلعن التلفزيون الذي تظل صوره تتقافز من حال إلى حال كمن أصابه مس.
أما ابنة أخي فتتصنع البراءة وتضع رأسها الصغير ذي الظفيرتين الجعداوين في حضن جدتي وكأن شيئا لم يحدث وتتابع فقرة الرسوم المتحركة كاملة ثم تبحث عن أخرى.
لكن جدتي يتسرب إليها الملل في مثل هذه الأحوال فتفكر في الصلاة رغم أن الساعة لا تعدو أن تكون العاشرة صباحا وتنادي على ماء للوضوء، وعند تململها تفطن ابنة أخي أنها ستبقى وحيدة أمام التلفزيون فتعود متقهقرة إلى القناة السابقة باستسلام فتضبطها جدتي متلبسة بجهاز التحكم وتتصنع الغضب وتضمها إليها تدغدغها وتقبلها فتضحك الصغيرة عاليا وهي تركل برجليها.
تبدأ على شاشة التلفزيون وصلة إشهارية تحث المواطنين على زيارة بلدهم المغرب في عطلة الصيف، فتنتبه جدتي وتصيخ السمع فهي تعرف المغنية "نجاة عتابو"، من صوتها الحاد لكنها لا تعرف أنها تشعبن اللغة الفرنسية أيضا، أي تغني كلاما فرنسيا بلحن شعبي. تقول الوصلة الإشهارية: "ici vous êtes chez vous".
ترهف جدتي السمع مليا وحينما تعجز عن تبين المعنى تقرص عارض ابنة أخي وتسألها ماذا تقول هذه العنزة؟.. تتلعثم ابنة أخي قليلا ثم تقول: "شوفو تاتشوفو.."، ترفض جدتي لأن الكلام لا معنى له فتقول: "ربما تقول شيبو تاتشيبو.."، تعاندها ابنة أخي: "لا بل جيبو تاتجيبو.."، وتقلبان حروف الجملة مرات ومرات وفي الأخير تتفقان على صيغة "جيبو تاتشيبو"، بوحي من المتاع الكثير الذي كانت تحمله سيارات المهاجرين العائدين وهي مصطفة أمام جمارك الميناء.
"جيبو تاتشيبو"، إذن هي كلمات الأغنية كما أعادت إنتاجها قريحة التحريف غير المغرض عند جدة صديقي المسنة وابنة أخيه الصغيرة على غرار الوصلة الإشهارية المفرنسة.. لكن حينما تفرض الظروف الاقتصادية السيئة عالميا على المهاجرين وضعا استثنائيا مزريا وظروف عطالة متفاقمة ومناخا اجتماعيا أوربيا بدأ يتحول يوما عن يوم إلى بيئة طاردة، علينا أن نتذكر بالضبط كل تلك الأرقام التي كانوا يضخونها في خزينة الدولة سنويا وفي دواليب اقتصادها وتنميتها وأن نرد لهم الجميل ونتضامن معهم بجميع الأشكال.. وعلى الأقل ألا نكون كأولئك المتسولين اللئيمين شديدي الخسة قليلي المروءة ناكري الجميل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قيادي بحماس: لن نقبل بهدنة لا تحقق هذا المطلب


.. انتهاء جولة المفاوضات في القاهرة السبت من دون تقدم




.. مظاهرة في جامعة تورنتو الكندية تطالب بوقف حرب غزة ودعما للطل


.. فيضانات مدمرة اجتاحت جنوبي البرازيل وخلفت عشرات القتلى




.. إدارة بايدن وإيران.. استمرار التساهل وتقديم التنازلات | #غرف