الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الترجمة: بين تصور القيمة ، ومسؤولية الإتقان

خالد إبراهيم المحجوبي

2010 / 5 / 2
الادب والفن


مدخل:
يفضل بعض الكتاب استعمال مصطلح التعريب بدلا عن مصطلح الترجمة ، والأدق عندي استعمال كلمة الترجمة ؛ فالتعريب له معنىً آخر يحُول دون جعله مصطلحاً دقيقاً منضبطاً .مع تسليمنا بأن كثيرين استعملوه بمعنى الترجمة ومرادفاً لها. لقد استعمل مصطلح التعريب والمعرَّب بمعناه منذ قرون طويلة ليدل إلى عملية إضفاء روح العربية وقوانينها على بعض المصطلحات الأجنبية ، كأن يدخل عليها: علامات الجمع ، أو ياء النسبة ، أو علامة التثنية ،,التذكير والتأنيث . فمن الأمثلة المعاصرة : الكترون = الكتروني = الكترونات . وكلمة فيزياء = فيزيائي ، فيزيائيون . سكولوجي = سيكولوجية ، سيكلوجتيه . أيديولوجي = أيديولوجيات ،أيديولوجية .
هاته إذاً ألفاظ من صنف المعرب. وإلى ذلك يحيل لفظ التعريب إلى معان أخرى متصلة بالجذر الثلاثي (عرب) ، لا تخلو من إحداث بعض اللبوس والخلوط في استعمالها في المعنى الذي نحن بصدد الكلام عليه. ونحن في هذا المقام سنستعمل مصطلح الترجمة بوصفه أدق وأبعد عن الإلباس وأنأى عن الخلط .
الفعل الترجمي : القيمة والمسؤولية:
فيما يتعلق بالفعل الترجمي، فقد كان ولايزال ينظر إليه بوصفه ( عميلة تبديل نص في لغة بنص في لغة أخرى) (1) . بمعني نقلة من لغة إلى أخرى .
إن العمق الحقيقي لوظيفة الترجمة وأهميتها لن يظهرا إلا بإدراك حقيقة معنى كلمة نص ، وحقيقة دوره ،وفاعليته في المجال المعرفي ، فالنص ليس كياناً حروفياً فحسب إنما هو كائن تخلق في وسط ثقافي ، وبيئة فكرية ، وشعورية ، احتواها ذهن الكاتب الأصلي ، فانسبكت في شخصيته العلمية أو الإبداعية ، ثم انسكبت في صورة نص حروفي ، جامد في ظاهره، حيٌ في مخبره.
إذاً مابين الانسباك والانسكاب ، يتخلق النص الذي تضمحل قيمته الثقافية ، ويفقد عمقه المعرفي ، حين ينظر إليه بمعزل عن مكوناته التي كونته .
إن الترجمة عملية ( معقدة ؛ ففيها اللغة وفي اللغة آثار البيئة والثقافة ، وفي البيئة يتحكم الإنسان ويؤثر فيها وتؤثر فيه ) (2) .
الترجمة من أهم وسائل التواصل الحضاري والتمازج الثقافي بين الأمم ، فقد عملت على تقريب ما باعدت بين أجنابه طبيعة الافتراق اللساني بين البشر ، فلو لم يكن الإنسان قد استثمر الترجمة ؛ لظلت العوالم المجتمعية منعزلة متروية ، لا ترتفق إلى غيرها ، ولا ترفد غيرها ، ولا يرفدها سواها .
إذاً من هنا يسوغ لنا النظر للترجمة بوصفها سلاحاً ممتازاً لقهر الانعزالية الحضارية والانزواء الثقافي ، ولاصطناع التفاعل العلمي . إنها إحدى أسلحة التقدم والرقي أمام خصوم الحضارة الكثر ، أمثال الجمود والانعزال ، والنرجسية ، التي عميت عن استبصار الآفاق ، تلك الآفاق التي فتحت الترجمة السبل إليها ووسعت الأنهج تلقاءها . إن الاحتكاك اللغاتي هو احتكاك بين العقليات والحضارات وتبادل الأفكار والأدوات . (3)
لقد شاع عند الإيطاليين قولهم إن المترجم خائن (4) ، نعم إنها خيانة ، لكنها مشروعة ، تكاد كل ترجمة أن تكون خيانة كاملة للنص الأصلي ، إنها تعجز عادة عن الوفاء بكل حمولات الأصل من روح ومعنى ، وخيال وإحساس ، حتى لو قدر لها إيصال أي من تلك العناصر فإن غيرها من العناصر سيظل ماكثاً في الأصل عاجزاً عن البراح إلى لغة أخرى ، فالترجمة عجزت ولا شئ غيرها يمكنه أن يفعل ذلك . إن ما يسمى الترجمة الكاملة ، لها أن تحث تبديلاً كاملاً في نصين لكن لايحدث التبديل المكافئ في كل المستويات (5) .
ولا يخفى عنا أن الأمر يزداد سوءاً وبعداً عن المأمول حين تحدث ترجمة لنص ما، لا من لغته الأصلية بل من لغة وسيطة ترجم إليها ثم ترجم من تلك الوسيطة إلى لغة ثالثة ، فنتلقى حينها ترجمة للترجمة ، أما النص الأصلي فيزداد بعداً ،وتقل نسبة الظفر بمحتواه . إن نسبة الوفاء في هاته الحالة تقترب من العدم ، وقد يسقط العمل كله في ساحة الجهد العبثي .
لهذا الحال مثالات كثيرة من آخرها عمل الشاعر والمترجم المتألق عاشور الطويبي ، حين ترجم نصاًُ شعرياً طويلاً للشاعر التشيلي ( فيسنتي هويدوبرو) الذي كتب عمله بالإسبانية، ثم وقعت ترجمته للإنجليزية ، ثم ترجمه عاشور الطويبي من الإنجليزية للعربية. إنها عملية اختلطت فيها تشيلي، مع إسبانيا ، مع انجلترا، مع ليبيا. على نحو أنتج نصاً عربياً تكسوه الريبة وعدم الثقة في كونه معبراً عما أراد (هويدوبرو) أن يقوله حقاً .
إن الترجمة في واقعها هي فن أداء الممكن ، وهي من جهة أخرى عملية إبداعية حين تكون في صورتها الأنموذجية ، مستوفية الشرائط الضامنة لحدوث عملية ترجمة موفقة .
شروط المترجم الحقيقي : -
لا يصح أن يقْدم المترجم على ترجمة علمية أو أدبية إلا إذا توفرت له شروط مهمة ، ترفع من نسبة الوفاء الترجمي للنص الأصلي ، وتقلل من آثار الخيانة المفترضة للعملية


الترجمية. تلك الشروط أراها ثلاثة هي :
1-التمكن اللساني من اللغة المترجم منها .والتمكن هنا ليس متاحاً لكل من تعلم لغة ما وصار يتكلم بها بل التمكن الذي أقصده هو مرحلة متقدمة من مراحل الإتقان للغة الأجنبية.
2 -التمكن اللساني من اللغة المترجم إليها ، وهي غالباً اللغة الأم للمترجم ، وكثيرا ما يقدم المترجمون على ترجمة أعمال للغاتهم الأصلية مفترضين ومتوهمين أنهم متقنون لها ،وما هم لها بمحسنين ، وهذا ظاهر بجلاء في أعمال كثير من المترجمين العرب الذين تعاني منهم لغتهم العربية كثيراً وهم عن ذلك غافلون .
3-الاطلاع العلمي المناسب على الموضوع المزمع ترجمة ، وإطاره المعرفي المنوط به ، فلو كان نصاً فلسفياً فلا بدأن يكون للمترجم اطلاع مناسب جيد على الفلسفة ومصطلحاتها ومفاهيمها ، و إن كان نصاً أدبياً وجب الإحاطة بمعني الأدب ، وروحه ، وخصائصه .
إن هاته الشرائط تمثل الحد الأدنى لما يجب إن يكون عليه المترجم الكفء . وإذا افتُقدت هاته الشروط ؛ سنرى أمامنا شخصية مترجم متطفل من أولئك المرتزقة الذين كان لهم دور بارز في أضعاف الذوق الأدبي ، وتشويه المكتبة العربية بانجازاتهم الكئيبة البائسة.
إن علم الترجمة الحديث يلزم المترجم بألا يحصر ارتباطه بمكونات اللغة فقط من أصوات ، ومفردات ، وجمل مركبة ، فيجب من هنا أن يكون صاحب ارتباط تواصلي يشتمل على المعارف المتعلقة بالموقف، والثقافة والدلالة غير اللسانية (6) ، فضلاً عن الدلالة اللسانية.
لاريب في مجئ العلميات الترجمية ، في مصاف الأعمال الإبداعية ذات العمق الغائر ، وسيكون سهلاً علينا الاقتناع بهذا إذا أدركنا إن اللغة المستعملة – نقلا عنها، ونقلا إليها – هي في عمقها أوسع وأكبر من كونها مجرد رموزٍ وأصواتٍ تستعمل لإيصال فكرة أو معنى، إن هذا التعريف التقليدي للغة عاجز عن الوفاء بما تنطوي عليه اللغة من آفاق وعناصر تربأ بها عن كونها مجرد وسيلة لإيصال معنى محدد .
إن (( في اللغة آثار البيئة والثقافة )) (7) ومع البيئة والثقافة يتماهى الإنسان ، بكل مكوناته ؛ فيتفاعل ؛ ويؤثر ويتأثر، خالقاً بذلك عنصراً حضارياً لاغُنية عنه ، وليس في الطوق غمط دوره وواقعه .
الترجمة من الممارسية ،إلى العلمية:
لقد ارتقت الترجمة تقنياً وفنياً حتى صارت إلى مرحلة العلم . وقبل هاته المرحلة كانت مجرد ممارسة ثقافية تواصلية .
إنها علم حديث نشأ أوئل الستينات من القرن العشرين ، كان في رواده الـــروسي ( فيدروف ) والكنديين ( فيناي) و (دار بلنيه ) . ولعل ما كتب في هذا العلم لم يجاوز الخمسين كتاباً ، على مستوي العالم كله حسب تقدير محمد عبد الرحمان مرحبا (8) .
من صور أهمية الترجمة أنها من أهم ذرائع وسبل مشاعية المعرفة ، وعولمية الفكر والعلم ، بل هي الذريعة الرائسة لذلك الشيوع ، وتلك العولمية ؛ حيث يتم عن طريقها كسر الاحتكار النخبوي للمعرفة والعلوم .
لقد كان متوقعاً من الترجمات المعربة إحداث نفع على المستوي اللغوي والأسلوبي ، لكن الواقع أكد غير ذلك ، حيث صبت الترجمة على اللغة دفقات من المعايب ، وصوراً من الخلل ، أثرت في المستوي اللغوي العام لدي المثقفين العرب ومما زاد الأمر سوءاً أنهم ـ أ كثرهم ـ مقيمون لقطيعة مزمنة مع التراث اللغوي العربي الذي يمثل المصدر الأول ـ غير الوحيد ـ لقوالب الصياغات القويمة ، فضلاً عن الصور المعنوية الدقيقة البديعة التي تتكفل العربية بأدائها إذا ما دخلنا إليها من أبوابها ، وارتفقنا بها على نحو منهجي منظم .
إن مما يزيد من سوء الوضع الترجمي عند العرب ما أشرت إليه من التواجد الدؤوب للمتطفلين المرتزقة وسط عالم الثقافة العربية المكتوبة ، وإلى ذلك نجد إهمال أكثر المؤسسات الثقافية لواجباتها المنوطة بها ، التي يأتي من بينها الاهتمام بالأعمال الترجمة ، وتنشيط حركية الترجمة في الساحة العربية
فلو وجدت مؤسسات خاصة بهذا العمل الحضاري-كمياً ونوعياً- لكان في ذلك رفداً ودعماً غير هيّن للكيان الثقافي ، والعلمي ، والمعرفي لدي الأمة العربية والإسلامية بعامة.
جاء في أشهر وأسوأ الرطانات الترجمية مسايره بعض الظواهر اللغوية ، في لغة أجنبية ، ثم نقلها بصيغتها تلك إلى العربية ، من غير التنبه إلى أنهما غير سائغة في لغة العرب ، وأنها ضارة بالمعني . من ذلك مثلا ما يعرف في اللغات الأوربية باسم : (التناظر في الزمان) (correspondance) أي حكاية ما جرى في الماضي ولا يزال مستمراً ، بصيغة الماضي. والواقع إن لغة العرب خالية من هذا النسق التعبيري التناظري .
من أمثلة ذلك ما ورد في أحد الكتب المترجمة : (( زعم بوانكاريه أن قوانين الهندسة لم تكن نصوصاً بشأن الحقائق، ولكنها كانت اصطلاحات اعتباطية )) .
في هذا النص يوجد تناظر بين (زعم) و ( لم تكن ) و ( كانت ) . والترجمة السليمة هنا تكون كالتالي:((زعم بوانكاريه أن قوانين الهندسة ليست نصوصاً وإنما هي اصطلاحات اعتباطية ))
مثال آخر : قولك لشخص أكبر منك : ( علمت انك تكبرني بخمسة أعوام ) هذه كلمة سليمة لغوياً ، لكن لو سرنا على التناظر الزماني ؛ ستكون كما يلي : ( علمت انك كنت تكبرني) (9)
في الإطار اللغوي تجيء كل من الظاهر ، والقواعد ، والمصطلحات ، ممثلة الأركان الأساسية لكل لغة حية ، فيجب على المترجم احترام الخصوصية السابغة للظواهر اللغوية ، فكل لغة لها ظواهرها وقواعدها ، وتقاليدها ، وخصوصياتها ومصطلحاتها ، وكل من هاته العناصر لها في لغتها مكانة لا يجوز انتهاكها ؛ باستيراد ما يصادمها ، نعم يجوز استيراد ما يغنيها ويثريها ، لا على الوجه المصادم والمؤثر في وجودها المرجعي بالنسبة للغة القائمة عليها .
في هذا الوضع لا يمكننا غض البصر عن بعض المنافع الأسلوبية التي تسربت إلى أساليب بعض الكتاب العرب تأثيراً بما وقفوا عليه في لغات أخري ، أو ترجمات لها ، من غير مصادمة لتقاليد العربية . فقد انسرب إلى الكتابة العربية المعاصرة لمحات ، وصور، ومعان ، وأساليب على قدر كبير من الإبداع والطرافة .
في خاتمة كلامنا هنا نود التوكيد على أن الفعل الترجمي ليس مجرد فعل هامشي ،ولا كمالي ،بل هو وسيلة فاعلة ومركزية في سياق البناء الثقافي ، والتواصل الحضاري بين الأمم ، كما أنه آلية لا غنى عنها لتطوير العلوم بكل صنوفها ، ونشر تطبيقاتها ، وبهذا تخرج الترجمة من ذلك التصور الضيق الذي حشرت فيه طويلاً ، أعني تصور كونها وسيلة موظفة فقط لترجمة الأدب . كما أنها مستحقة لأن تعامل بقدر أكبر من التبجيل والاحترام مما يقتضي أن يبعد عن ساحتها المتطفلون ، و أشباه المترجمين من المرتزقة الأدعياء ، ممن أحدثوا كثيراً من الإرباك على الصعيد المعرفي بتراجمهم الشوهاء ، وعلى المستوى اللغوي بما أدخلوه من تعابير وتراكيب هجينة أساءت لبناء اللغة العربية من جهة ، ولكثير من الأعمال العلمية ، والإبداعية من جهة أخرى .

----------------------------------
الهوامش المرجعية:
1ـ ( نظرية لغوية في الترجمة ) ج .كاتفورد . ترجمة خليفة العزابي و محيي الدين حميدي . معهد الإنماء العربي بيروت ط1 ـ 1991. من مقدمة د/ باسم بركة .
2ـ ( علم الترجمة بين النظرية والتطبيق ) محمد ديداوي ـ دار المعرفة ـ سوسة ـ 1992.
ص 16 .
3ـ ( قراءات وتحليلات في الفلسفة العربية والإسلامية ) محمد عبدا لرحمان مرحبا ـ مؤسسة عزالدين ـ بيروت . ط1ـ 1993 ـ ص 337 .
4ـ نفسه ص 339 .
5ـ ( نظرية لغوية في الترجمة ) ج . كاتفورد . ص 35 ـ وانظر معني الترجمة الكاملة والمفيدة
ص 36 من الكتاب نفسه .
6 ـ علم الترجمةبين النظرية والتطبيق ـ محمد ديداوي ص 16 .
7 ـ( قراءات وتحليلات في الفلسفة العربية والإسلامية )محمد عبدالرحمان مرحبا ص338.
8ـ نفسه ص 346 ـ 362 .
9 ـ نفسه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي