الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمد علي علوه جي ... وداعا

فيصل البيطار

2010 / 5 / 4
سيرة ذاتية


يوم السادس والعشرين من نيسان الماضي، غيب الموت رجلا كنت أحسبه لا يموت لشدة عشقه للحياه وتمسكه بها، واحد ممن لايكرهه أحد من الذين عرفوه، محب للجميع ودودا معهم، وحتى مع حسّاده الكثيرون على ما حقق من نجاح شخصي في مهنته كمحاسب قانوني وعلى حضوره الطاغي في كل مجلس يحضره .

"ابو بيان" كما كنا نعرفه ونناديه، عشق الحياه دون نصب، ونهل من مفاتن زواياها المضيئه والمعتمه على حد سواء، ما يؤمن له سرور اللحظه وذكرى طيبه حاضره أبدا في مجالسه المرحه الكريمه، هذا الكربلائي تنسم حب مدينته بغداد التي وُلد ونشأ فيها ونهل من عذب فراتها دون أن يرتوي، عشقها حد الجنون ولم يتركها إلا لفترة قصيره رغما عنه وعاد اليها وعاش كل أيامها الصعبه رغم أنه يمتلك ما يمكنه من العيش في الغربه وبأحسن حال، أحبها رغم كل ما شابها من تشويه وحزن في لحظات سُرق منها الفرح وجللت بيوتها السواد، وكان له دائما يد طولى في إعانة من يصل إليه من المحتاجين وبصمت لا يكسره تحت أي ظرف، بل لم يعمل أحد معه إلا وناله من كرمه الشيئ الكثير وفوق ما يستحق بدرجات، أبو بيان كان شهما كريما لا يرد أحد ولا تراه عبوسا أبدا، ضاحك القلب قبل الوجه حتى مع أولئك الذين نصبوا له الفخاخ وكادوا أن يوقعوه، لي أن أقول أنه كان أحد أوجه بغداد المتألقه بشخوصها المبدعه، كان بحق واحد من شخوصها ومعالمها البهيه في العقود الثلاثه الأخيره من تاريخها، وقد عرفته وعاشرته وبشكل شبه يومي لما يزيد على عقد ونصف من الزمن، وظلت نفسي تحتفظ له بكل الود والإحترام رغم تعثر العلاقة بسب مشاغل الحياه وهجرته القسريه المؤقته، وكنت قد زرته لآخر مره في بيته عام 2005 قبل مغادرتي بغداد وبعد إنقطاع سنوات .

أبو نؤاس زمنه، وكان محب له ويحفظ له الكثير، ومحب للشعر العامودي وخصوصا شعر الأقرب إلى قلبه شاعر العرب الكبير " محمد مهدي الجواهري " وكان يحفظ من شعره ماكنت أعجب له في قرارة نفسي، فأنا لم أره يوما ممسك بكتاب ولا لمرة واحده، لم يكن من رواد شارع المتنبي في أيام جُمعه الزاخره بالمعارف، ولم يكن من رواد المكتبات منقبا في زواياها، كنت أسآئل النفس متى يقرأ هذا الرجل ومن أين له هذا الكنز الشعري الذي يختزن ذاكرته ! أذكر يوما أنه عرض علينا ونحن في إحدى السهرات في بيته أواسط الثمانينات شريطا كان نادر وممنوع للشاعر الجواهري في لقاء مع الكاتبه الكويتيه " ليلى العثمان " سجلته للتلفزيون الكويتي، إستعرت الشريط منه ولم أرده رغم إلحاحه الشديد والدائم، في تلك الأيام لم تكن لنا إمكانية إستنساخ هكذا شريط، والطريقه المثلى للإحتفاظ به هو سرقته علنا، وكما فعلت أنا، سُرق الشريط مني ولم أعلم الفاعل حتى الآن .

في موقع الحزب الشيوعي العراقي، كتب السيد عبد المنعم الأعسم في الأول من أيار بعنوان / جواهري آخر .. فقدناه / ... " يومَ غيّب الموت محمد مهدي الجواهري في اواخر تموز العام 1997 استقبل محمد علي العلوه جي، سرّا، معزين من اصدقائه في مكتبه بعماره العلوه جي على مشارف ساحة الاندلس. كان اسم الجواهري آنذاك ممنوعا من التداول، فقد اسقطت عنه جنسيته العراقية وطورد في ارض الله الواسعة، لكن العلوه جي عرض على المعزين، شريطا يصوّر وزيرة الثقافة السورية وهي تخاطب رفاة الشاعر الباسق بالقول: لا يهمك فانت الذي تمنح العرب جنسيتهم . " ويقول : " كان محمد علي العلوه جي على السرير الابيض حين تلقى رسالة من مركز في موسكو يُعنى باخبار وآثار الجواهري تدعوه الى الكتابة عما يعنيه شعر الجواهري اليه، فطلب من اصحاب الرسالة امهاله لايام، فلم تمهله الايام اكثر من رمشة عين في حساب الزمن.. هكذا هي الفواجع.. وهكذا قطع الموت على محمد علي العلوه جي طريقا لا يزال مليئا بالحياة وبالشعر. "

آنسنا وأمتعنا " أبو بيان " في جلساته اليوميه، المساءات كانت تبدأ في مكتبه قرب ساحة الأندلس، هناك يتجمع الربع، ومنه ينطلق الجميع نحو جمعية المهندسين القريبه، أو أحد النوادي الخاصه بالطائفه المسيحيه الكريمه وغالبا نحو أبو نؤاس وخصوصا ذلك البار الجميل الذي يحجز لنا نوادله أفضل موائده ويرصها جنبا إلى جنب في الطابق الثاني المطل على الشارع حتى تتسع لمجموعتنا، مقابل آخر كشك للسمك المسكوف الخاص بـ " أبو يعرب " أشهر من يسكف السمك في الشارع الشهير كان يقع بار ومطعم " أرز لبنان " وهذا ما كان إسمه أن لم تخذلني الذاكره ، السهره تبدأ هناك مع كل ألوان المسكرات، ونهايتها يقدمها لنا " أبو يعرب " بسمكتين من ذكر القطان، تنتهي السهره في بعض الليالي في أحد الملاهي ... الليل أو النسيم أو الطاحونه الحمراء . وكثيرا ما كنا نقضي سهرتنا في مكتبه، نحتسي مشروباتنا ونلعب الدومينو التي كان يحبها فقيدنا الجميل، كان يخسر ويربح وفي كلتا الحالتين كان لايكف عن الزعيق والتهريج المرح، ومن نِعَم مكتبه ذاك، أن لا ساكنين قريبين منه وإلا لكانوا قد رفعوا الدعاوى القانونيه عليه بتهمة الإزعاج وإقلاق الراحه، صوت " أبو بيان " كان يصل للشارع دون مشقه وخصوصا عندما تنتهي اللعبه بفوزه، المسكوف كان عشاءنا أيضا، والتوصيه وإحضار السمك كانت من مهماتي الدائمه ولم يكن " أبو يعرب " يملك خطا تليفونيا مثله مثل غيره من الأكشاك .

ليست ليالي بغداد الجميله هي التي كانت تجمعنا فقط، كان لظهيراتها حظ وافر في لَمِ شملنا وخصوصا عندما يستضيف " أبو بيان " بعضا من ضيوفه ممن يتعامل معهم من مدراء الشركات الأجنبيه، البعض من مقربيه كانوا مدعوين على مائدته تلك، وكنت واحد منهم، في تلك الظهيرات كانت البيره هي مشروبه ومشروبنا المفضل، والبار الذي نحبه ويحبنا كان بار " بغداد " مقابل سفارة المانيا الإتحاديه في المسبح، لكن لقاء الظهيره لم يكن يُغنينا أبدا عن لقاء المساء اليومي عدا الخميس المخصص له .

طيلة السنوات تلك، لم أرى " أبو بيان " غاضب بصخب أبدا، كان يغضب ويستاء ويبث شكواه أحيانا لي أو لغيري بكلمتين وسريعا ما ينسى، ولم يأخذه المشروب أبدا لمواقع تهز من قيمته وشخصه، كان متماسك على كثرة ما يحتسي، ولم يكن يؤذ أحد لا في صحوه ولا في نشوته، الخمرة كانت مجلس أنسه وطاقة فرحه وأحسب أنها هي التي قتلته، فقد كانت رفيقته الدائمه وله معها صحبة طالت عقودا .

فقدنا عزيزا كريما، لاتكفيه الدموع والكلمات ... القلب هو الذي ينزف على فقيدنا الكبير محمد علي علوه جي .

سلام عليك يا ذا القلب الكبير .
















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الرحيل كم هو مرير عندما يكون بدون وداع
ابو مودة ( 2010 / 5 / 4 - 17:42 )
الحبيب الاستاذ ..... فيصل البيطار
كم هي قاسية الحياة عندما تبعدنا عن محبينا وأصدقائنا مدى العمر و بدون أن نراهم
..........
رحل عزيزك ابو بيان وترك في قلبك غصة و لوعة
كيف لا وقد كان لك أخا قبل أن يكون صديقا
وجمعتكم الحياة سوية في أفراحها وأتراحها
الان لم يبقى لك منها سوى الذكريات
..........
الرحيل كم هو مرير خصوصا عندما يكون بدون وداع
ولكن لا نستطيع الا أن نقول بأن هذا هو قدرك و قدرنا من الحزن وألألم
تقبل ايها الحبيب تعازينا الحارة
ومواساتنا القلبية الصادقة اليك
و أشاركك أحزانك بهذا المصاب الجلل
....................
لك حبي ومودتي


2 - الصديق ابو موده
فيصل البيطار ( 2010 / 5 / 4 - 17:46 )
جُعلت سالما ياصديقي وآمل لك كل السعاده والهناء ومعك أحباءك .
شكرا لمرورك صديقي ودمت .


3 - الذكرى الجميلة
رعد الحافظ ( 2010 / 5 / 5 - 12:05 )
عزيزي / فيصل البيطار
أتقدم بالتعزية المستحقة لفقدك صديقك العزيز المرحوم الشاعر/ محمد علي العلوه جي
شعرتُ بمرارتك بقولك.. كنتَ تظنّه لايموت لعشقه الكبير للحياة
ومع ذلك يبقى الموت .. هو الحقيقة المطلقة الوحيدة في هذهِ الحياة
***
لو عاد الزمن الى نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن المنصرم حتماً كنّا سنتعارف في جلساتنا في جمعية المهندسين قرب ساحة الاندلس أو في بارات أبو نواس الرائعة
حيث كنّا قد جربناها جميعاً قبل الإستقرار غالباً .. في العش الجميل
***
تحياتي لكَ دوماً .. والصبر لذوي الشاعر الراحل


4 - العزيز رعد الحافظ
فيصل البيطار ( 2010 / 5 / 5 - 12:55 )
كنت سأتشرف بمعرفتك أخي رعد ... وللتصحيح فقط : لم يكن عزيزنا أبو بيان شاعرا ، كان ذواقه للشعر ويحفظ الكثير الكثير منه ، وأكاد أقول أنه كان يحفظ معظم الجواهري ...
شكرا لعواطفك النبيله ودمت سالما .


5 - الرحمة والخلود للشاعر محمد علي العلوجي
مريم نجمه ( 2010 / 5 / 5 - 21:54 )
تحية مسائية وتعزية أخوية لكم أيها الكاتب الصديق فيصل البيطار برحيل الشاعر محمد العلوجي ونقدم التعازي لعائلته أيضاً وللشعب العراقي الشقيق .
الحياة حلوة , والموت الحقيقة الوحيدة التي نعرفها . ولكن لا يعرف الأنسان متى وأين وكيف ستكون النهاية . .؟
مرة أخرى الذكرى الطيبة للفقيد والصبر لذويه
نشكر ورود الصداقة بمقالك اللطيف
مودتي . . واحترامي


6 - السيده مريم نجمه
فيصل البيطار ( 2010 / 5 / 5 - 22:01 )
كل الود لك سيدتي الكريمه وعوفيت من كل شر .
والشكر لك لمرورك الغالي .


7 - أخي العزيز المحترم
قارئة الحوار المتمدن ( 2010 / 5 / 6 - 06:52 )
هكذا نحن , نتصور أن الموت يخص الآخرين ولن يقترب منا أو من أحبابنا , هؤلاء الكبار يعيشون ثانية بعد موتهم بانعاش ذكراهم الطيبة , الرحمة له ودمت لنا بخير


8 - السيده قارئة الحوار المتمدن
فيصل البيطار ( 2010 / 5 / 6 - 09:28 )
دمت سيدتي ودام أحبابك وشكرا لمرورك الكريم .


9 - الرحيل
فاطمة الفلاحي ( 2010 / 5 / 6 - 11:32 )
المكرم فيصل البيطار

الشفيف الروح والانفاس والمحب لذكرى الاصدقاء

تقبل مني مروري الاول على صفحتك المخلصة والمعمدة بنكهة الوفاء

فانا أرى الموت يـعتام الكرام ، كما راه طرفة بن العبد

واتمنى لكل الكرام الخلود ولا احزن بما قاله جبران خليل جبران

-لا تحملوني إلى الجبانة، لأن الزحام يزعج راحتي، وقضقضة العظام والجماجم تسلب سكينتي
احملوني إلى غابة السرو واحفروا لي قبرا في تلك البقعة حيث ينبت البنفسج بجوار الشقيق
احفروا قبرا عميقا كيلا تجرف السيول عظامي إلى الوادي
احفروا قبرا واسعا لكي تجيء أشباح الليل وتجلس بجانبي
اخلعوا هذه الأثواب ودلوني عاريا إلى قلب الأرض، مددوني ببطء وهدوءعلى صدر أمي-

احتراماتي


10 - الكريمه فاطمه الفلاحي
فيصل البيطار ( 2010 / 5 / 6 - 13:17 )
مرورك بكلماتك الجميله انعشت روحي حقا ، فشكرا لك سيدتي ودمت بخير .

اخر الافلام

.. عواقب كبيرة.. ست مواقع بحرية عبر العالم يهددها خطر الاختناق


.. تعيش فيه لبؤة وأشبالها.. ملعب غولف -صحراوي- بإطلالات خلابة و




.. بالتزامن مع زيارة هوكشتاين.. إسرائيل تهيّئ واشنطن للحرب وحزب


.. بعد حل مجلس الحرب الإسرائيلي.. كيف سيتعامل نتنياهو مع ملف ال




.. خطر بدء حرب عالمية ثالثة.. بوتين في زيارة تاريخية إلى كوريا