الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوار مع صدفة

كريم الثوري

2010 / 5 / 5
الادب والفن


حوار مع صدفة
لا أتذكر متى التقيتها أول مرة.. لكن طيفها ما فارقني يوماً.. ملامحها، أوصافها، حركاتها،نزقها. ثمة استدعاء يصل حد التماهي لاستدراجي إلى جادة معناها، وكأننا من سلالة قسرية واحدة جُبلت عليها طينتنا.
كان ذلك قبل أن يُغادرني لأجل غير مُسمى، شبيهي الذي ما انفك يرافقني حتى افترقنا ساعة شجار، حُسم الأمر بعدها، فلذت مُتسامياً، في غفلة منه، أتطيب خدَرَ السكون المنعش، لكني إزاء حضورها غير المُباغت مازلت أحن إلى جنونها، الذي يصهل بدمي.. يتطاول، فيلوذ ما هو آني مُسير بما هو نافر لا يحده قيد.
ما كان يشغلني بدائية الحياة العالقة في جَلِ قوامها، المتناغم في هيئة اعتباطية لكائنٍ مُشرد، كأي هامش ملحوق بما رأى فتماهى، يغترف منه ما يجود به ليُشبِع حاجته اللّحوح، لكنها كانت تستدعي انتباهي لسبب أعرفه في ذاتي العطشى الجائعة المحتاجة، التي لم يروها شيء مجسد على الإطلاق، مهما بلغت درجة تهذيبه لعظيم ما فقدت مرَ الزمان.
كانت اللقاءات بيني وبينها تجري بطريقة اعتباطية، لكنها مدروسة ومؤكدة بقدرة التلاقي بين مفهومي ( الجديد – القديم ) قبل أن ألتحق بركب التدجين، من جهتي التقيتها فيما كنت أُمارس رياضة العدو، لأقهر عالمي اللحوح القابع في جمجمتي، والذي لا يكف عن طرح الأسئلة المشاكسة، وكأنه معني بإثارتي، ربما ليحرجني أو ليقول لي: لقد تغيرت يا هذا، فمقدماتك لا تكاد تعرفك، واستنزافاً لطاقاتي المُعدلة بقسرية مبالغ فيها لكي لا ينتصر عليّ الآخر.. من هو ؟
لا أعرفه تحديدا، لكنه ما برح يستدعيني بأشكال وأنماط مختلفة، ولسوء حظي حصل تجانس غريب مرده هذه المرة حضور طارءها في وقت تصالح معي الكون فيه، بعد أن وصلنا لمعادلة ترك ما لا يعنيني على طريقة - خُذ وهات -.
يبدو أنها كانت تترصدني عن قرب، كما كنت أتابعها عن بعد، بالرغم من تقاطع الرؤى فيما بيننا.
ما كنت أعتبره علامة دالة ذهاباً وإياباً، كان شاهد زور على حقيقتها غير المتوارية، فيما كنت أتوارى بالانزياح عن جادتها كلما وصلت لشاهدها، لأعرف من خلاله المسافة المتبقية ذهابا وإيابا. لم أسلم من تعليقاتها، كلما قادني لهاثي وأنا اركض والعرق يتصبب مني، مبلولاً بملابس الرياضة، كانت تهتف برطينها الذي لم يصلني منه غير حشرجات مبتورة منكسرة مجروحة، سرعان ما يلفها الفراغ قبل أن تستدق في مسمعي..
كنت أتحاشاها، وكانت تصول بسمعي أن أتقبلها كجزء لا يتجزأ من أخلاقيات الحياة المسكوت عنها، لذلك كان التباعد بيننا يتقلص يوماً بعد آخر، شيئا فشيئا، فقد كانت المحطة المؤجلة ذاتها شاهد الزور على حقبة، كان يجب أن أتوقف عندها وألا أغادرها، فهل هي عقوبة استحقاق ردم الهوة بين نصفي المعطل ونصفي الباحث عن معناه الجديد بعد توفر الفرصة السانحة ؟
كل شيء وارد في محضر التلاقي ..
(2)
لم تك تعترض طريقي من قبل، فقد كنتُ بمجرد الوصول إلى شاهدها، أغض الطرف، وأنحرف مسافة، ثم التحق بالطريق، حتى أتوارى في المساحة الخضراء المخصصة للألعاب الرياضية، وما كنت أستجيب لنداء خفي يدعوني لخلق مداعبة أو حوار مقتضب لإرضاء فضول استنطاق معناها المستدق في هامشيته، ثم إن كل المارة الذين كانوا يؤدون نفس المعايير الأخلاقية بالإزاحة عنها وعن رائحة الكحول المنبعثة من تطافر قوامها، ورثاثة ملابسها، وهي تفترش الطريق شبه عارية إلا ما ستر.
ما كان يقلقني أني كنت أفكر فيها طويلاً لسبب غير منطقي، فكل مواصفاتها ما كنت تودي حتى لخلق نشوة أو خيال، لكن هامشها وقدرتها الفائقة على تقبل الواقع بشكل اعتيادي، علاوة على استهزائها بالفصول الأربعة، فهي لا تكاد تميز بين حرارة صيف أو برد شتاء، جمال ربيع أو رمادية خريف. قدرها إنها كانت من يخلق معادلاتها بالطريقة التي تشتهيها تقاطعاً مع الطبيعة والبشر، وحتى الحيوانات، وهذا ما جعلني أفكر مليا، ما فائدة الامتيازات الدنيوية، والإنسان لم يستطع أن يهزم الفراغ وهي لا تعاني منه ؟
تفترش الأرض متى ترغب، تشاغب المرور، بل حتى رجال الشرطة كانوا يمرون من أمامها هرباً من لسانها السليط، وهي تتوعدهم بالويل والثبور إن اقتربوا من مملكتها، أو عبثوا بحاجياتها المرمية كيفما اتفقت مشيئتها .
كثيرة هي الأسئلة، كيف يكون الفرد بهذه الطريقة، وسبل الحياة مشرعة أمامه، ما دواعي الجنون الحقيقي، وأي رواسب مكنتها من أن تختار بملء إرادتها نسقاً مغايراً مشوها ؟؟ وكأنها بذلك تتحدى كل نظم الكون، وعقلانيته أن يصمد، كما هي صامدة الآن.
(3)
- هاي بيبي ؟
هاي
- ماذا تفعل عند الفجر ؟
أركض كما ترين، وقد توقف لمجارات الحديث معها بفضول غريب
- ولماذا تركض ؟
لأحافظ على صحتي
- هههههههههه
لماذا تضحكين ؟
- كلمة جميلة لمن يفهما وقبيحة لمن يتشبث بها قسرا
لم افهم ما تعنين ؟
- هل أنت مسلم ؟
نعم
- لكنكم تقولون: إن الحياة أجل مكتوب ؟
نعم ولكن ذلك لا يمنع من ممارسة الحياة بشكلها الراقي، حفاظا على صحتنا
- كم عمرك ؟
ما دخل عمري بما أفعل ؟
- ههههههههههههههههههههه
تضحكين ثانية ؟
- هل أنت سعيد في حياتك ؟
اعتقد ذلك
- ههههههههههههههههههه
- هههههههههههههههههههههههههه
- ههههههههههههههههههههههههههههههههههه
ثم تمددت على الأرض حتى انكشفت عورتها كثيفة الشَعر، بعد انزياح ثوبها الممزق، ثم أجلست قوامها المترنح، حتى استقرت مستندة على كفيها خلف ظهرها، رمقتني بميوعة، لكن نظرتها كانت نافذة بشدة أو هكذا خُيل لي:
- يؤسفني أن أرى أمثالكم يمشون على الأرض، وهم سكارى بتمام صحوتهم، أنت صاحٍ الآن، أليس كذلك ؟ ههههههه
فتحت فمي فقد باغتتني بفلسفة تحتاج إلى تأمل، فيما بدأ عرقي يجف شيئا فشيئا، حتى لسعني البرد فانكمشت.
- هل تشعر بالبرد ؟
قليلا
أنظر إليّ.. لا أشعر بالبرد إطلاقاً، بالرغم من كبر سني ورقة ملابسي، لكنك تشعر به بالرغم من فتوتك واحتياطك في ارتداء الملابس، من القبعة حتى الحذاء الأنيق
- بكم اشتريت حذائك ؟
بما ...
- هههههههههههههههههه....ههههه..
- هل أنت غني ؟
أعمل وأعيل...
- ههههههههه....هههههه هههههههههههه
- هل انت متزوج ؟
نعم والحـ..
- ههههههههههههههههههههههه
- لديك اطفال ؟
نـ.. عـ..
- ههههههههههههههههههههههههههههههههههههه
- مالي أراك حزيناً ؟
لا.. لس.. ت، حـ.. ز.. ي
- هههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه
- سترجع إلى البيت حين العودة
- هههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه
- وتأكل وتنام، أو تلعب مع أطفالك، أو تتشاجر مع زوجتك.. ههههههههه...
- هل لديك اصدقاء ؟
- هههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه
- اليوم كم في الشهر ، هل هو يوم الاثنين أو الجمعة ، في أي سنة نحن ؟ ههههههههههههههههههههههههههههههههههههه
- ستشرق الشمس بعد قليل ثم ينتصف النهار، ويحل الغروب لينام الجميع فينهضوا ثانية، يمارسون نفس طقوس اليوم المعتاد
- هههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه
- وتمر الأيام، ويكبر أولادك ويتفرقون، وتشيخ.. ويبدأ العد العكسي لحياة ما بعد الموت حسب ههههههه
- هههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه
- وتقوم القيامة.... هل أنت رجل صالح أم طالح ؟
- هههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه
- في الجنة أو في النار
- ههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه
- اذهب، اغرب عن وجهي قبل أن أنتقم منك.. اغرببببببببببببببببب، مالك تنظر لي مثل المجانين وكأنك أنا حينما أصحو ؟
عاودت الهرولة ثانية بتلكؤ ملحوظ، فيما كنت التَفت للخلف بين الحين والآخر، أتعثر بأشياء وهمية، زرعتها تلك العجوز الشمطاء، وقد تعكر صفو يومي المعتاد وعند، دخولي البيت كانت المائدة مُعدة للإفطار الصباحي، فيما كان أطفالي يستعدون لتغيير ملابس النوم بملابس المدرسة، والعصافير عادت إلى حديقة الباحة الخارجية للدار، تزرع بسمة اليوم الجديد، تناغماً مع البلابل المغردة في القفص الموضوع في قلب الدار.
جلسنا جميعا حول مائدة الطعام، وأنا أُفكر وأقارن بين ( خفتها وثقلي ) كيف اجتمعا في هذا النهار الفيروزي الجميل، ورحت اسأل نفسي هل هو جميل حقاً، أم أنه مجرد وهم أخلقه لنفسي من اجل الاستمرار تحاشياً للفتنة ؟
كنت ألتهم الطعام وأتكلم مع نفسي، فيما كانت العائلة تنظر لي باستغراب، وقد تحولت إلى مخلوق آخر، يفكر مع الأكل، ويأكل مع التفكير، ومنذ ذلك اليوم لم أذهب للرياضة الصباحية، ورحت أقارن بطريقة عجيبة بين البلابل الطليقة في الخارج، والأخرى التي في داخل الدار سجينة الإرادة الجبارة.. رأيت أن التغريد في العراء وسط الطبيعة له جمالية تختلف عنه في قفص الأسر، سألت نفسي كيف لم أنتبه لهذا من قبل ؟
حتى تحول تفكيري معاكساً لاتجاه السير، شعوراً بلذة غريبة ما كنت أتحسسها يوم كنت مُنسابا مع الميل الجديد، فيما عادت لي تلك الروح المشاكسة الارتكابية التي انطفأت يوم غادرت العراق منذ خمس وعشرين سنة، بالرغم من اختلاف الوضعيتين.
أما بخصوص زوجتي وأطفالي فإنهم إلى اليوم مشدوهون إزاء التحول الجديد بعد فتور حاضنهم التوافقي .
حتى هذا الأداء الهجين الذي أرتديه، والذي لا يعجب البعض، يعجبني، قدر يتقزز الآخرون منه.. هل هو مرض أو لعنة ؟
لماذا في أوقات معينة تبدو مخالفة السائد شكلا من أشكال الوعي المغلف ؟
إلى أين نحن سائرون، فيما تنفلت الأيام منا من دون أن نتحسسها، كما كنا في السابق ولم نجد غير الشكوى والآنين ؟
أسئلة كثيرة طرحتها على نفسي، لم أجد إجابات ناجعة لها، لكني ربطت التحولات بتقدم العمر، وتضخم الأنا، وغياب الروح الجماعية.. لذلك لا يمكن وصف سعادتي، باسترجاع ذلك الإحساس الذي غاب عني فجأة يوم غادرت العراق، وحولني إلى مخلوق بارد، يمر على الأشياء بفتور غريب، وكأن حرائق العالم لا تصمد أمام جنة أخلقها لنفسي من دون جدول أعمال، انساق إليه بآلية مجحفة ، يمتد منذ الصباح حتى المساء وفق خارطة الطول والعرض، خاصيتي....
كريم الثوري








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي