الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تشضي الشخصية العربية ، وفقدان وسيلة التخاطب .

حامد حمودي عباس

2010 / 5 / 9
العولمة وتطورات العالم المعاصر


الطريق بين مركز المدينة وموقع العمل في عمق الصحراء ، لم تكن بالقصيرة ، كما لم تكن بالسهلة حين تبلغ مراحلها الاخيرة ، والسيارة تتنازع مع الرمال متقصية آثار السيارات التي سبقتها لتفلح بالوصول الى هدفها قبل حلول الظلام .. كنت واحدا من ثلاثه ، جميعهم من الروس حتى السائق ، متوجهين الى حيث تجري عملية حفر بئر للنفط .. أنا الوحيد من بينهم حديث عهد بموقع العمل ، وزيارتي هذه تعتبر الاولى بعد صدور امر تعييني في الشركة الروسية المنفذه ..

الساعة كانت تشير الى السابعة مساء عندما توغلت بنا السيارة وسط معسكر من الكرفانات ، توزعت بانتظام على مساحة واسعة أعدت لهذا الغرض ، وقد هزني للوهلة الاولى منظر علم روسيا الاتحاديه الى جانب العلم الذي يحمل شعار الشركة ، وهما يرفرفان على قمة ساريتين توسطتا ساحة المعسكر ، مما ذكرني فورا بساحة العرض الصباحي في مراكز تدريب الجنود في العراق ، حيث كنا نهرول عراة في عز الشتاء ، لنتعلم كيف هي سبل القتال ، ونمتلك فنون الطعن بالحراب عندما يجري الالتحام مع اعداء الامة من طامعين انجاس .

أشاروا علينا منذ اللحظة الاولى بالتوجه الى المطعم ، لأن فترة العشاء قد حلت في تلك الساعه .. وجدت نفسي حال فتحي باب المطعم الخارجية ، قبالة مجموعة من العاملين الروس وهم يتناولون وجبتهم بصمت ملحوظ .. وجوه لم تغيرها قساوة الباديه ، وان كان البعض منها بدت وكأنها ساحة صراع بين اللون الاسمر والاخر الاحمر القاني ، لتعكس صورة تدعو للاحساس بقوة الانسان ، ومقدرته على المضي لتحقيق ما يريد ، عندما يمتلك إصرارا وصبرا ونية صادقة على العطاء والخلق المثمر .

تهاديت بين الحاضرين ، متوجها صوب طاولة جلس عندها وجه أيقنت من النظرة الاولى بأنه عربي ، القيت تحيتي لأتلقى مثلها ، والرجل لم يتخلى رغم ذلك ، عن ترديد ملعقته بين فمه المغطى بشارب كث ، وبين صحن الشوربة الملقى أمامه .. لقد كان يهتز وبتناغم ثابت مع حركة يده ليبدو كآلة صممت لأداء حركة بعينها .. رمقني بعين أشعرتني بانه يرغب بالاستفسار عن هويتي .. قدمت له نفسي ، واشفعت حديثي بانني ارغب بالتعرف على تفاصيل العمل في الموقع من خلاله ، ليسهل علي الشروع باداء واجباتي وبشكل صحيح .. زرني في مكتبي صباح الغد .. قالها وقد أزاح من امامه مجموعة من الصحون الفارغه ، وغادرني بخفة الى الخارج ..

حرصت في البداية على ان اعرف من يكون صاحبي ، كي أسلك السلوك المناسب للقائه في الموعد اللاحق ، وعندما عرفت بانه يمثل الجهة المشرفة على المشروع ، استبشرت خيرا ، وبت ليلتي مطمئنا بأنني سوف ابدأ عملي بنجاح .

في الصباح الباكر ، توجهت الى حيث اشير لي على مكتب الرجل ، وبدا لي منذ اللحظة الاولى بأنه كان يستعد للقائي وبطريقة تعكس الظهور بمظهر الترفع والكبرياء .. فقد راح يدور بكرسيه وهو في مكانه ، الى درجة انه احيانا يجعل ظهره بمواجهتي متحججا بالنظر الى جهاز الكمبيوتر ، رغم عدم وجود ما يثير الانتباه على شاشته .. وما إن بدأته باعلان حاجتي لمساعدته بالتعرف على صيغ العمل ، حتى راح يغرقني برطانة اختلطت فيها اللهجة العامية باللغة الفصحى ، تتزاحم معها جمل بالانكليزية ، تتكسر فواصلها بمصطلحات لم يكن بالضرورة ان تحشر في الموضوع ، لقد بدا لي محاصر وبشدة وسط حيز يريد الخروج منه فلا يستطيع ، فراح يتحدث وعيونه ملتصقة بالسقف ، يجهد نفسه في العثور على تراجم للغته ليبدو وكأنه أكثر مكانة علميه .. حاولت التخفيف من معاناته ، عامدا الى اعادة نصوص ما اراد عرضه وبلغة ابسط فلم أفلح .. حيث رحت انا الاخر غارق وسط زحام لغوي بائس ، ضاعت فيه جميع قواعد التخاطب السليم .

في تلكم اللحظات .. شخصت امامي صور شتى من صور البراعة في تدجين اللفظ العربي ، حين ينسج شعرا فاضت به نفس الصحراء التي كنا نحن الاثنين نتخاطب عندها برطانة متآكلة الاطراف . . ترى ما الذي غير الامور لتصبح ذات اللغة لا تقوى على ترجمة فعل فني بسيط ؟ .. مالذي يجعل الناطق بها هارب منها على الدوام ، رغم كونها لغته الاصليه ؟.. وإن كانت الحاجة قائمة وبالضروره ، لاستخدام المصطلحات العلمية كما صاغها مخترعوها وهم جلهم من غير العرب ، فلماذا لا نقدم تلك المصطلحات وبشرح عربي ، بدل التخبط في بناء هيكل لغوي هجين ، تختلط فيه لغات العالم ، لنعكس مدى ثقافتنا وقدرتنا على امتلاك ناصية العلم ؟

استهوتني لعبة البحث عن الحقيقة بهذا الشأن ، فانتبهت ألى أن جميع العاملين من الروس يتحدثون بلغتهم ، بل ويصرون على تسمية كافة ما يحيط بهم من معدات وآلات وقطع للغيار وباللغة الروسية النظيفه .. لقد وفروا مترجما من بين صفوفهم لينظم العلاقة بينهم وبين الجهات الفنية الاخرى والتي ترافقهم بالعمل ، جميع التقارير والحسابات وسجلات الحركه مكتوبة بذات اللغه .. إنها خلية تتحرك بانسيابية تدعو للاعجاب ، ضمن فرق مقسمة مسبقا حسب التخصص ، لا يزاحم بعضها بعضا ، وسط ازيز الالات وغبار حركة الناقلات ، والجميع يتخاطبون باللغة الروسية دون الانتباه لمن يكلمهم بغير لغتهم ، ولم اشعر بان احدهم كان يستحي من ذلك .. كما لم اشعر بان احدا من الفريق العربي العامل بمعيتهم يتحدث بلغته حرا طليقا ، دون أن يتعثر في مطبات ما يخلقه لنفسه من رطانة تدعو للشفقه .

لقد خيل لي وفي لحظات متفرقة ، بأن معركة مع الطبيعة ، تجري على أشدها في ذلك الموقع .. مطارق ضخمه ترفعها زنود العمال لتهوي بها على صفائح الحديد ، وهبوط يتبعه صعود من خلال السلالم الملتويه ، وهياكل بشرية تسابق الوقت ، وهي تسحن ما تحتويه اكياس المواد الكيمياوية المرافقة لعمليات الحفر .. الروائح المنبعثة من اعماق الخزانات الضخمه ، وما يرافقها من انبعاثات الطين المبعثر تحت اقدام العاملين ، كل ذلك يبعث على الرغبة في عدم التوقف والاستسلام لظاهرة السكون .. إنه عالم يتحرك بجميع فواصله ، وافضل ما فيه ، هو انه يتخاطب وبلغة واحدة ، تنساب حاملة معانيها بسلاسة متناهية ، لا تدعو للتأخر في ترجمة الاقوال بما تشير له من أفعال .

المصيبة الأعم ، هي أننا نحن العرب ، ممن كانوا موجودين في ساحة العمل ، كنا نختلف ليس في فهمنا لبعضنا ضمن ما نستخدمه من لغة مشوهة فحسب ، بل كنا حتى عندما نتحدث بيننا وبلغتنا العربيه ، نحتاج لوسيط كي يترجم لنا ما نطلقه من معاني .. وعندما يحلو لاجنبي ان يطلب العون من احدنا لمعرفة اسم لشيء ما ، كي ينطقه بالعربية من باب الفضول ، كان يجده مختلفا عند كل منا فتبدو عليه علامات الدهشه .

إنه التشضي بعينه ، ذلك الذي يبدو واضحا على كل جمع عربي يقدر له أن يعمل وسط فريق فني اجنبي .. معاناة وتكلف في اختيار وسائل التخاطب لدى العرب ، يقابله تمركز ذهني في رسم الخطط وتنفيذها لدى الطرف الآخر .. ويشكل هذا التشضي اللغوي والنفسي عاملا مهما في تدني مستويات الاداء الفني لدينا عموما ، حينما يصار الى عقد مقارنة محايده بين قدراتنا على تنفيذ مشروع فني ما ، وبين ما تنتجه طاقات اخرى من بقية الشعوب ، لو عمدت الى تنفيذ ذات المشروع .

كم هو جميل عندما تحترم الشعوب لغاتها ، وكم هو تعيس حال من يغادر لغته ، مرغما ليس طائعا ، ليغرق نفسه ومن يخاطبه ، في لجة بحر من الرطانة غير المفهومة ، سعيا منه لدعم الذات الناقصه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - في متاهات لغة العرب اليومية
الحكيم البابلي ( 2010 / 5 / 9 - 17:58 )
الصديق العزيز حامد حمودي عباس
الحالة اللغوية الغريبة التي تتحدث عنها أجدها أمامي في الأسواق العربية التي أتسوق منها إسبوعياً في منطقة سكن الجالية المسلمة في مدينتنا الأميركية
هناك تجد اللبناني والعراقي واليمني ، وأعداد قليلة من بقية الدول المختلفة ، كذلك تجد كل الإختلافات في اللباس العربي للمرأة ، فمن الحجاب للنقاب للعباءة العراقية والسفور المحتشم والسفور الغربي الحر ... والخ من الملابس المختلفة بشراسة والتي تُشعرك بأنك في حفلة تنكرية لا يجمعك بالحاضرين فيها غير بضعة كلمات عربية
وحين يحدث أن تتكلم مع أي منهم فلا يسعك إلا الإبتسام والتخبط في متاهة اللغة
مرة .. كنتُ أنتقي بعض البامية ، وقفت بجانبي فتاة شابة و راحت تسألني كيف نطبخ البامية ! لأنها لا تعرف غير طريقة سلقها بالماء الحار !!! المهم إستعملتُ كل عقلي ولغتي وشطارتي لأيصال الفكرة لها ، وإنصرفت شاكرة بعد أن سجلت طريقة طبخ البامية على ورقة صغيرة
لا أعرف لماذا نسيتُ أن أسأل من أي بلد عربي هي ، لإنها كانت تستعمل الأنكليزية والعربية الفُصحى والعامية وبعض المصري واللبناني والخليجي مما دعاني للإعتقاد بكونها كوكتيل عربي
تحياتي


2 - اللغة أداة
عبد القادر أنيس ( 2010 / 5 / 10 - 08:37 )
مستوى اللغة يعكس مستوى أهلها. الغريب أننا نحول تحميل اللغة العربية ما عجزنا عن تحمله. مجامع اللغة تجتمع دوريا وتضع مصطلحات تقابل مصطلحات اللغات الأجنبية التي نشأت في المخابر والمصانع بينما نفتقر نحن لكل هذا. أليس هذا من المضحكات.
تحياتي


3 - عزيزنا الأستاذ حامد
قارئة الحوار المتمدن ( 2010 / 5 / 11 - 05:58 )
لماذا لم يجد مجمع لغة عربية واحد من كل البلاد العربية مصطلحاً للعشرة سنتمتر التي تكاد لا تفارق يدك ومستعد للعودة من نصف الطريق إلى بيتك لاستحضار هذا العفريت الذي إن نسيته ضاع من عمرك بعيد عنك الكثير ؟؟ حزر فزر ما اسمه ؟؟ جوال ؟ محمول ؟ خليوي ؟ سيلفون ؟ سيلولار ؟ هاند فون ؟ موبايل ؟ ولأن العرب ما في شي أدامهم ووراءهم وما في شي لاحقهم وروحهم طويلة فإن المزاد ما زال مفتوحاً وهم لا يعلمون أن هذا العفريت قد أصبح شريحة داخل الكف ! تشكر دوماً أخي حامد قراءتك لأمور الحياة ممتعة


4 - الله يرحم سيبويه
رسلان ( 2010 / 5 / 11 - 14:33 )
التشظي وليس التشضي يااستاذنا العزيز

اخر الافلام

.. استمرار البحث عن مروحية كانت تقل الرئيس الإيراني ووزير الخار


.. لقطات تحولت ا?لى ترندات مع بدر صالح ????




.. التلفزيون الرسمي الإيراني يعلن هبوط مروحية كانت تقل الرئيس ا


.. غانتس لنتنياهو: إذا اخترت المصلحة الشخصية في الحرب فسنستقيل




.. شاهد| فرق الإنقاذ تبحث عن طائرة الرئيس الإيراني