الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المقهى 1 - قصة قصيرة

حوا بطواش
كاتبة

(Hawa Batwash)

2010 / 5 / 10
الادب والفن


كان المقهى هادئا على غير العادة. بضع أناس فقط جلسوا حول الطاولات الصغيرة المستديرة التي ملأت المكان. دخلت وأنا ألقي السلام الى صاحب المقهى بإشارة من رأسي, واتّخذت مجلسي في مكاني المعتاد, في الزاوية اليسرى البعيدة المطلة على البحر. كان المنظر رائعا في ساعة المغيب, حيث الشمس أرسلت خيوطها الصفراء الواهية, المشوبة بحمرة خفيفة, وكأنها تغازل البحر الساجي, الصامت, قبل ان تعانقه مودّعة وتنحدر الى مغربها.
ظهر النادل الى جانبي بوجهه البشوش وسألني عن حالي, فتبادلنا بعض عبارات الأدب واللطافة, وطلبت منه فنجان قهوة مع سكر زيادة.
جلست أتأمّل حولي قليلا, حتى لفت نظري دخول شاب الى المقهى في بذلة رياضية, قوامه طويل ورشيق, شعره أشقر ومتموّج, عيناه رماديتان, تأتلقان ببريق ساحر, وشفتاه قانيتان, ممتلئتان. خطى بين الطاولات وجلس على بعد طاولتين مني في طرف المقهى, واضعا حقيبته الرياضية بجواره على الأرض, نادى للنادل وطلب ما أراد, ثم أخرج جريدة من معطفه وأخذ يتصفحها.
خالجني شعور غريب وانا أتتبّع حركاته بفضول, وكأنني رأيته في مكان ما... في زمان ما... قبل هذا اليوم. وكأنني كنت أعرفه. صوّبت نحوه نظرة طويلة. أين رأيت تلك العينين الرماديتين, ذات البريق اللامع, الخلاب؟؟ متى؟ وكيف؟
ولكن الشاب صغير ويبدو انه ما زال في العشرين ربيعا, فكيف لي ان أراه في مكان ما... في زمان ما... وتسحرني عيناه الرماديتان ويخلبني بريقهما اللامع, أنا المرأة الخمسينية العانس, الجبانة, التي لم تبادر يوما رجلا بالكلام؟ لا بد أنني أهذي.
اقترب منه النادل وقدّم له كوبا من عصير البرتقال, فرفع اليه الشاب نظره للحظة, شكره بانحناءة من رأسه, وعاد ليقلب صفحة الجريدة. كم تمنيت لحظتها أن يمدّني بنظرة. ولكنه كان منشغلا بقراءة وتصفّح تلك الجريدة الحمقاء... ومعها يرتشف عصير البرتقال.
حاولت أن أنشغل عنه, فتأمّلت نحو النافذة الزجاجية وقد أخذت العتمة تغطى الأفق وتستدرك مسارها نحو الليل.
حين عدت بنظري الى الشاب العشريني الذي أمامي بطاولتين, فوجئت برجل يقترب منه ويجلس الى جانبه في الطاولة, لابسا هو الآخر بذلة رياضية. في البدء, وجدت نفسي أحدّق فيه دون سبب واضح, ودون أن أعي من هو. ولكن, خطر لي أنه والد ذلك الشاب بسبب التشابه الكبير بينهما. ثم أطبق الذهول على كل حواسي حين أدركت فجأة من هو! وعادت بي ذاكرتي اكثر من ثلاثين عاما الى الوراء, وارتمت أمام عينيّ صور كثيرة من الماضي البعيد... من حارتي القديمة... من حبي الأول... حبي الوحيد.
يــاه! كيف يركض بنا الزمان دون ان نحسّ! وكأنه كان بالأمس فقط!
كنت مراهقة في السابعة عشر من العمر, وهو شاب من شباب الحارة... وأي شاب! جسمه طويل وقوي, ينبض بحيوية دافقة, وجهه يزخر بالرقة والجمال, وشعره الأسود المتموّج يزيّن جبهته. وكان يلعب كرة المضرب ويحرز الألقاب والكؤوس. هكذا كنا نسمع في الحارة, رغم أن معظم من في الحارة لم يشاهدوا مباراة واحدة من مبارياته, لأنها كانت تجري في مدن وبلدان بعيدة. ثم ترك الحارة مع أهله وأخذ يطوف العالم. وانا لم أرَه منذ ذلك الوقت ولم أسمع عنه شيئا.
اختلست النظر اليه, أكاد لا أصدّق أنه هو. عيناه الرماديتان ما تزالان تحتفظان ببريقهما الخلاب, رغم مرور السنين, شعره الأسود المتموّج بات مشوبا بالرمادي, جسمه الطويل والقوي أصبح مائلا الى الإمتلاء, ووجهه فقد من نضارته ورقته القديمة.
كيف جمعنا الزمان من جديد في هذا المكان بعد طول السنين!
وفجأة, التفت اليّ... لمحني... توقّفت نظرته لدي... نظرة فضولية, مندهشة.
أتراه يذكر؟؟
ابتسمت لنفسي... وماذا تريدين ان يذكر؟؟ نظرة؟؟ ام ابتسامة؟؟ ام سلام؟؟
أيتها الجبانة الحمقاء! لم تتغيّري. ما زلت تعيشين في أوهامك. أوتظنين أنه شعر يوما بالملل حتى يتذكّرك؟! لا بد أنه كان مشغولا بنفسه طوال هذه السنوات. وها هو الآن مشغول بولده. ترى, من تكون زوجته؟؟ أهي من هنا؟ أم من بعيد؟ وما شكلها؟
في لحظة ما, بدا وكأنه على وشك ان يبادرني بالكلام. فقد انفرجت شفتاه الممتلئتان, وراح ينظر اليّ وكأنه عرفني. ولكنه لم يقُل شيئا.
سخرت لحماقتي! وماذا تتوقّعين ان يقول الآن, وهو الذي لم يقُل لك شيئا حين جمعتكما حارة واحدة؟!
جاء اليّ النادل بفنجان القهوة ليقطع عليّ سلسلة أفكاري, وضعه أمامي على الطاولة, فشكرته بتأديب, وذهب. انتبهت حينها لعدم وجود السكر الذي طلبت, فأردت ان أناديه... ثم عدلت, فقد كان بعيدا, وانا لم أشأ ان ألفت النظر اليّ بسبب سكر.
ثم رأيت الشاب وقد قام من مكانه, ووراءه والده, رفع حقيبته من مكانها... وذهبا.
وانا بقيت وحدي جالسة في مكاني المعتاد في المقهى, أعيش في تأمّلاتي وأفكاري. وما زلت أتساءل في نفسي: أتراه تذكّر؟؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي


.. الفنان السعودي -حقروص- في صباح العربية




.. محمد عبيدات.. تعيين مغني الراب -ميستر آب- متحدثا لمطار الجزا


.. كيف تحول من لاعب كرة قدم إلى فنان؟.. الفنان سلطان خليفة يوضح




.. الفنان السعودي -حقروص- يتحدث عن كواليس أحدث أغانيه في صباح ا