الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المقهى 2 - قصة قصيرة

حوا بطواش
كاتبة

(Hawa Batwash)

2010 / 5 / 16
الادب والفن


كان المقهى على ارتفاع من المدينة, يطل على شاطئ البحر الجميل, حيث الأمواج تكسّرت وتراجعت الى الوراء خجلى, متناهية, على خلفية السماء الخريفية التي غطّتها سحب رمادية, حائمة, حيرى.
جلست في الزاوية اليمنى البعيدة, وحيدا, شاردا, حائرا... أنتظر... وفي قلبي أمل مرتقب... علّها اليوم تأتي.
مرّ أسبوع بكامله منذ أن رأيتها في المقهى صدفة, بعد خمسة وثلاثين عاما من الغياب, الغربة... والوحدة. رأيتها جالسة هناك, في تلك الزاوية اليسرى البعيدة, تحيط بها هالة من الفتنة. جلست وحدها, هادئة, جميلة, مشرقة... تماما كما في تلك الأيام الماضية البعيدة, ايام الحارة القديمة والشباب الجميل, نظراتها نقية, مستغربة, متعجّبة... ولكم تمنيّت لحظتها ان تتفجّر الكلمات من كهفها السحيق, بعد سنوات الصمت والكبت. ولكنها ظلت عالقة هناك, عاصية, خجلة, جبانة... كما في الأيام الخوالي.
تساءلت في نفسي: أتكون قد تزوجت؟ لا بد انها متزوجة ولديها أولاد وبنات تسعد وتفخر بهم. ترى من يكون زوجها؟ أهو شخص أعرفه؟ وهل ما تزال تسكن في الحارة؟
أسئلة كثيرة قفزت في خاطري خلال أجزاء صغيرة من الثانية, وأفكار كثيرة مشتتة تلاطمت داخل رأسي, وبقي الصمت سيد الموقف. الا ان نظراتها ظلّت عالقة في ذهني كما رأيتها. ومنذ ذلك اليوم, وانا أجلس كل يوم في الزاوية اليمنى البعيدة في المقهى... وأنتظر... علّها تأتي.
كان المقهى هادئا... حزينا. جلست أتأمّل منظر البحر وقد أخذت العتمة تتسلّل الى الأفق, والقمر معلّق في السماء وحيدا, شاحبا, بين السحب التي بدأت تسافر من البحر ثقيلة... رمادية.
اقترب النادل مني حاملا لي القهوة التي طلبتها. شكرته بابتسامة صغيرة, فخطر لي في تلك اللحظة أنه ربما يكون يعرفها. فسألته ان كان يعرف امرأة في سنوات الخمسين من عمرها ترتاد المقهى, ووصفتها له. ففوجئت به يقول انها تأتي الى هنا كل يوم وتجلس في تلك الزاوية اليسرى البعيدة, الا أنه لم يرَها منذ أسبوع في المقهى.
تملكني شعور غريب بالفرحة ممزوج بالدهشة. فإن كانت حقا ترتاد المقهى كل يوم, أين هي الآن؟؟ لماذا لم تعد تأتي الى هنا منذ أسبوع؟؟
ربما تكون مريضة... او مسافرة... او مشغولة.
فتحت الجريدة التي أمامي وبدأت أقلّب صفحاتها دون اهتمام. شردت بفكري.
لماذا أريد رؤيتها بهذه الرغبة؟ ماذا أريد منها؟ وماذا أقول لها بعد هذا العمر؟
أأقول لها كلام المراهقين الذي لم تنطقه حنجرتي في وقته, ولا حتى في أي وقت آخر؟ حتى ان أميلي رحلت قبل ان تسمع مني شيئا من ذلك خلال اكثر من عشرين عاما من الزواج!
أكانت هذه ما تسمّيه أميلي برود المشاعر؟! أم هو الجبن؟ أم أنه حياء الرجولة؟
كيف تنطلق الكلمات الآن, وقد بقيت عالقة, مستعصية, في ذلك العمر الذي كانت تتأجّج فيه المشاعر وتمرح الأفكار في سماء الخيال؟!
ما أجمل تلك الأيام!
أحسّ فجأة بحنين الى الحارة. تلك الحارة التي تركتها في قمة انتصاراتي, ولم أعد اليها, ولم يخطر ببالي شيئ يذكّرني بها... الى أن رأيتها.
هل ستأتي الى هنا؟ ام انني أضيّع وقتي عبثا؟!
ربما أراها لو ذهبت الى الحارة. ترى, هل سيتذكّرني أحد هناك؟!
ولكنها هي تذكّرت. نظراتها اليّ كانت تقول بأنها تذكّرت. ما زلت أتساءل ان كانت تبادلني نفس المشاعر؟ لكم تمنيّت أن أعرف الإجابة على هذا السؤال! ربما لو عرفت كانت أسعفتني الجرأة بالكلمات! ولم أكن تورّطت مع تلك الفرنسية الغريبة!
كل شيء هناك كان غريبا. خمسة وثلاثون عاما كلّفتني حتى أدرك ذلك. وها قد عدت الى هنا, بعد ان افترقت أخيرا عن أميلي فراقا لا ابديا, وانتهت غربتي, وحصلت على ما أردت, على ابني, الذي بات كل حياتي وكل كياني.
عدت... ورأيتها هنا في المقهى, وكأن الزمان أراد أن تستقبلني هي بالذات لدى عودتي, وتعيدني الى تلك الأيام الحلوة, أيام الحارة القديمة, والحبيبة الأولى, القريبة, البعيدة.
ولكن انتظاري لها قد طال, وها قد هبط المساء وأرخى سدوله. قمت من مكاني وغادرت المقهى.
في الخارج, كانت أضواء المدينة تأتلق باهرة, وريح خريفية هبّت من البحر باردة. استنشقت الهواء العليل, المنعش, الذي تعبق فيه رائحة الأشجار, وحاولت أن أفرغ رأسي من التفكير. خطوت على الطريق المؤدي الى موقف السيارات. وعندما وصلت... رأيتها!
كانت في طريقها الى المقهى. خطت نحوي مقتربة. وحين رأتني... توقّفت. تجمّدتْ في مكانها, وجمدْتُ في مكاني, وأمتار قليلة تقف بيننا... والصمت. نظرَتْ اليّ بعينين مدهوشتين, ونظرْتُ اليها متفاجئا. أحسّ بخفقات قلبي المسرعة, ونفسي المضطربة, ويجفّ حلقي. لم تقُل شيئا. ولم أقُل شيئا. وبعد لحظتين... أرخت نظرتها... وذهبت في حال سبيلها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي


.. الفنان السعودي -حقروص- في صباح العربية




.. محمد عبيدات.. تعيين مغني الراب -ميستر آب- متحدثا لمطار الجزا


.. كيف تحول من لاعب كرة قدم إلى فنان؟.. الفنان سلطان خليفة يوضح




.. الفنان السعودي -حقروص- يتحدث عن كواليس أحدث أغانيه في صباح ا