الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كلمة تأبين الفقيد محمد عبد اللاوي - ألقيت بمقبرة الجلاز

شكري لطيف

2004 / 8 / 4
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


ما أقسى أن تتحدَث عن أخ ورفيق عزيز بصيغة الماضي !

وما أصعب أن تستعرض مآثر وخصال رجل حييَ ناكر للذات نذر حياته للآخرين ومقت كل تقديس أو تحنيط للأفكار أو للأفراد أيا كان شأنهم .

فمحمد ولد في حيَ شعبي وعاش وقضى في حي شعبي . كان رجلا بسيطا ودودا زاهدا متواضعا . لم يطمح في حياته لكسب مال أو جاه أو منصب , وقنع منها ببسمة طفلة وتفتَح وردة وترنيمة عصفور . كانت الحياة في تفاصيلها الصغيرة , شغفه الكبير . وكان بإحساسه المرهف يجول في ثنايا تلك التفاصيل ويستجلي من أدقها أسرار وحدة الوجود وعظمته وجماله .

وكان على تواضعه ووداعته صلبا شديدا المراس في الحق . لا يخاف فيه لومة لائم , يقاوم الظلم ولا يقبل الإهانة . فلم يهن ولم يحن رأسه لكائن من كان . وقد عانى جراء ذلك الكثير في حياته العامة والخاصة و المهنية , ولكنه واجه كل أشكال المضايقات و التعسَف والتهميش بجلد كبير . فعاش عزيزا ومات كريما.

وكان مناضلا تقدميا ووطنيا شريفا من خيرة ما أنجبت حركة اليسار التونسي طيلة عقود , تعددت تجاربه التنظيمية ولكنه انسحب منها جميعا وفضل البقاء " خارج السرب " .فقد كان يرفض " منطق " الصفقات والمساومات وأنصاف الحلول وكانت البوصلة الوحيدة التي تقوده هي الانحياز الكلي والمطلق وآللا مشروط لأبناء شعبه المسحوقين ولحقًهم في الكرامة والحرية والسيادة .وهي الثبات على الوفاء لقيم اليسار في تحديث المجتمع وتحريره من كافة أشكال التخلف و الاستغلال و التبعية.وهي الوقوف ضد التيًار في زمن المتاجرة بالمبادئ و الارتداد والانزياح المريع نحو الترويج لقيم السوق

الرأسالمالية " وإنجازات " الاستعمار أو هستيريا الشعوذة السلفية .

وكان انتمائه الشعبي العربي متوهجا وثابتا دون عصبية بدائية أو شوفينية عنصرية .وكان الجرح الفلسطيني جرحه الذي لا يندمل , وقد ازداد الجرح نزفا بعد احتلال العراق .وكانت قضية تحرير كل فلسطين وكل العراق , ودحر الصهيونية و الإمبريالية وعملائها قضية مصيرية وحيوية بالنسبة له .لذلك فانه كان من الأوائل و من أكثرنا حماسا في السعي لتأسيس اللجنة الشعبية لنصرة الشعب الفلسطيني ومقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني بتونس في 2002/04/16 .

وكان مناضلا أمميا صميما ينتشي فتبلغ نشوته درجة الوجد الصوفي عندما كنت أردًد على مسامعه كلمات الشاعر الفقيد المختار اللغماني *

كن عربيا فيما تشعر

* كن عربيا فيما تكتب
* لكن لا تنسى أن العالم أرحب ... لا تنسى أن العالم أرحب
فكان لا ينفكً عن تأكيد رابطة الأخوة الثورية التي تجمع الدغباجي بهوشي منه , وعمر المختار بايميليانو زاباتا, وأبي جهاد بشي غيفارا. كان مؤمنا إيمانا راسخا بوحدة نضال شعوب وأمم العالم المضطهدة ضدً هيمنة و غطرسة ووحشية النظام الرأسمالي العالمي, ومن أجل عالم تسوده الحرية و العدالة و الأخوة البشرية , عالم يخلو من الاستغلال و الاضطهاد و الاستعباد .

ومحمد كان قبل كل هذا , و مع كل هدا مثقفا وفنانا ومبدعا خلًاقا , يفضَل الصمت على اللغو , ومطالعة كتاب على نقاش عقيم , والاستماع إلى الشيخ إمام وفيروز على صخب " الفن " الرسمي السائد .كان يتابع السنما مشاهدة ونقدا وتحليلا . وكان يكتب الأقصوصة يبثُ فيها ما يختلج في صدره من آمال وآلام . وقد اصطدم أثناء إصداره أعماله القصصية بمقصَ الرقابة وبمافيا الثقافة والإعلام وبلصوص وقراصنة النشر فحال ذلك دون أن يسعد برؤية أعماله منشورة مجتمعة بين أيدي القراء .ولم يزده ذلك إلا إصرارا على التشبث بصفته ككاتب حر وعلى الذود عن حرية التعبير وحرية المبدع التونسي .

أعترف أنني مازلت لحدَ هده اللحظة مذهولا وغير مصدَق أن الموت اختطفك من بيننا .وحين أقف الآن على شفا هذا القبر الذي سينغلق بعد قليل على جسدك الطاهر , يتملكني شعور كاسح بعبثية الوجود , إن مصاب فقدك عظيم .غير أن المآثر الجليلة التي تحلَيت بها . والقيم النبيلة التي ناضلت من أجلها. والنضالات الشريفة التي خضتها تذكَرنا وتؤكد لنا حين نستحضرها , أنك أعطيت بما قدمته وبما رمزت له , معنى فعليا وإيجابيا للوجود .

فنم هانئا أيها الأخ الكريم والرفيق العزيز

إن ترجَلت اليوم , فسيحمل الراية اليوم وغدا فرسان أوفياء للعهد مستكملين للدرب.

تونس في 30 جويلية 2004

شكري لطيف








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التلفزيون الإيراني: تنظيم الانتخابات الرئاسية في 28 يونيو


.. مقتطفات من لقاء سابق أجرته الجزيرة مع الرئيس الإيراني الراحل




.. لحظة دخول مساعدات لشمال قطاع غزة


.. بعد اتهامات طهران لها بتدبير الحادث.. واشنطن تؤكد أن لا علاق




.. بايدن وترامب والملف الإيراني | #أميركا_اليوم