الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الآثار بين كارثتي النهب والإهمال .

الطيب آيت حمودة

2010 / 5 / 17
العولمة وتطورات العالم المعاصر


وأنا في تجوال عادي في ضواحي باريس السياحية ، وفي أكبر شوارعها وسط ساحة الكونكورد نصبت مسلة بلونها الداكن ـ تبدوا أنها غريبة عن المكان غربة البعض من ذوي الشعرالأسود العابرين قرب المكان ، وبدأ فضولي يزداد تدريجيا في معرفة المزيد عن هذه الرائعة المنصوبة المزدانة بخط صوّري هيروغليفي أخاذ ، لا علاقة له بالفرنج ، كل ما في الأمر وجود كتابة على قاعدة الصرح مكتوب عليه بالفرنسي الآتي : [في حضرة لوي فيليب الأول ملك فرنسا،تم نقل هذه المسلة من الأقصر إلي فرنسا ونصبت فوق هذه القاعدة بواسطة المهندس " لوبا " وسط تصفيق جمهور غفير "25 أكتوبر 1836م .].
***المسلات.... المنهوبة والمهاجرة :
تعد الحضارة الفرعوية من الحضارات الأصيلة إلى جانب حضارة وادي الرافدين ، لأن شعوبهما اعتمدا بالأساس على عوامل محلية في بناء صرح حضارتهما ، فالفراعنة اعتمدوا على الحجارة ، وأهل الرافدين اعتمدوا على الطين ، وكل منهما أبدع بالحجارة والطين !!!!
وأقف من هنا وقفة عرفان وتقدير على إبداعات المصريين أيام الفراعنة ، ومن ابداعاتهم الخالدة على سبيل المثال لا الحصر ... المسلات .
إنها تلك الأعمدة المنصوبة الشبيهة بالخنجر ، قاعدتها عريضة ، يتناقض عرضها تدريجيا حتى القمة التي تبدوا مدببة ، مزدانة بنقوش ورسومات هيروغليفية لها دلالاتها ورمزيتها للمتفقهين فيها ، مثل الذين فكُّوا رموزها على شاكلة شامبليون [1]، وأوضح لي أحدهم كان واقفا بجانبي بأن المسلة المنصوبة قبالتنا تعرف ( بحتشبسوت) ،جلبت من معبد الأقصر ، وهي هدية محمد علي باشا لإصدقائه الفرنسيين ، وهي واحدة من مجموع مسلات غادرت أرض الكنانة مهاجرة بلا عودة ، ولنقلها من موقعها الأصلي نحو باريس قصة وعبرة [2].
والحقيقة التي نجهلها أن الكثير من المسلات المصرية نهبت وحولت إلى خارج موطنها منذ عهد الرومان ، ففي روما وحدها يتواجد ثلاث عشرة مسلة عدا ما يتواجد خارجها ، أكبرها وأضخمها تلك المنصوبة وسط ساحة الشعب وسط روما منذ أوائل القرن الأول الميلادي ، ضف إليها تلك المنصوبة قرب مسجد السلطان أحمد باسطنبول التركية ، زيادة عن المسلتين التوأمين ، إحداها نصبت عند رصيف فكتوريا على التمسي بلندن عام 1878 ، وأخرى أهداها الخديوي إسماعيل للولايات المتحدة بمناسبة افتتاح القناة 1869 نصبت بالسنترال بارك بمدينة نيويورك سنة 1881 م. وبذلك تكون مسلات تحتمس الثالث السبعة قد غادرت موطنها بغير رجعة وبدون إرادة صاحبها وأهالي بلدها .
***الأهقار ...... المنسية .
أنا في الحقيقة لست هنا من أجل التنقيب على آثار الفراعنة ، لأن كل أمة لها تراثها ورمسها ، وما وقع لتراث مصر المنهوب الذي يتواجد بكبريات المتاحف العالمية في لندن وبرلين وباريس ، وقع لآثار أمم أخرى، مثل ما يقع عندنا في الجزائر من إهمال كلي للتراث والأثر القديم ، فمدننا التاريخية مهانة في معالمها ، رغم بعض المحاولات التي أبداها الفرنسيس في التنقيب بدافع اديولوجي همه اثبات قدم التواجد الغربي المسيحي في بلداننا ، وما يقع في صحرائنا الكبرى لا يقبلهُ عقل ، وبالضبط في موقع ( الأهقار) التي صنفت من قبل اليونيسكو ضمن التراث الأثري العالمي ، باعتباره منهلا للبحوث المتخصصة في الجداريات العظمية التي صارعت الزمن بعمر قد يصل إلى مليون سنة حسب تقدير المتخصصين ، وعلى مسافة تقدر ب 200 كلم ، وضمن ما يعرق بمنطقة الطاسيلي ترى الآف الجداريا ت المنقوشة على الصخر ، وأشكال صورية تحتاج إلى فهم ، وكهوف كثيرة تبحث إلى استكشاف ، ومتحجرات ورسوم حيوانات ثديية وطيور، وزواحف نادرة الوجود ، وهي تبرز بجلاء صراع الإنسان مع الطبيعة ، وهو ما يؤهل المكان ليكون موقعا هاما وخزانا رئيسيا للبحوث العلمية حول الإنسان والحيوان لو ازداد الفهم لقيمتها ، ورصدت الإمكانات لتثمينها .
***الآثار بين التثمين والإهمال :
في الوقت الذي تسعى الدول إلى تثمين موروثها الحضاري والإحتفاظ به ، فإن أمما تدوس على إرثها بالنعال وهي لا تعلم مقدار جرمها في حق من سبقها من الأجيال ، لجهل مركب فيها ،أوهي لا تعلم أصلا أن مخزونها التراثي يفوق مخزونها البترولي ، ففي بعض الدول الشمال إفريقي ( تونس) أو مصر ، تدر عليهما السياحة الترفيهية والتراثية مقدار ما تدره آبار البترول في حاسي الرمل وحاسي مسعود مجتمعين ، وإجرام السلطات في حق التراث عندنا في الأهقار والطا سيلي لا يغتفر ، هذا المتحف الإنساني المفتوح بشساعته و ضخامة مافيه من عبير الماضي ، الذي لا يوصف ، والذي تنبه إليه السواح الأجانب في غفلة منا ، فعاثوا فيه سرقة وتخريبا في محاولات منهم لتهريبه ، فعدد السياح القادمين من ألمانيا وأمريكا للمكان في تزايد مضطرد ، وهو يفسر قيمته التي تحتاج إلى استثمارات تعطيه هيبة ووقارا ، وتجعله بقيمة أهله ، ففيه ضريح ( تينهينان) [3] ، وفيه رؤية بدائع الغروب على قمة ( أسكرام) [4] التي بها طاولة التوجيه تعرف بضواحي المكان وتسمياتها و منها تظهر المنحوتات الطبيعية التي تضاهي في جماليتها ما يرى في خانق الكلورادو و صحاري أمريكا الشاسعة .
***هل حان للنفائس الأثرية أن تعود لأهلها .
ما يحز في النفس أن ترى آثار البابليين والآشوريين و العيلاميين والتدمريين والسومريين و الفراعنة ، تعرض في المتاحف العالمية في ظل تواجد قانون يحمي الإرث الحضاري لشعوبها ، وما يحز أكثر أن ترى أنظمة وحكاما تتساهل في أمر تراثها الحضاري والتاريخي بتركه عرضة للنهب والسرقة والإهمال ، وقد يكون ذلك قصدا كما يفعله السلفية بدعوى أنها إرث جاهلي يجب التخلص منه ( من العاديات)؟؟؟ !!! أو بسبب صراع محكم سري وعلني بين دهور العصور التاريخية .
غير أني أرى بأن الآثار لا قيمة لها إذا لم تثمن وتفعل ، ونحن معشر المسلمين قاصرين عن ذلك لعلل مدركة ، فالغرب منذ حملة نابليون على مصر ،وما أعقبها من استكشاف منها نجاح شامبليون فك رموز الهيروغليفية ، هي المنبه الحقيقي لقيمة الآثار ، وبها ازدادت الحفريات وتنافس المتنافسون عليها ، كمأ أن المسستشرقين بسلبياتهم ، لهم دور الأساس في تنبيهنا إلى قيمة موروثنا الحضاري ، فليفي بروفنسال [5]هو الذي أحيا كتب تاريخ المغرب الإسلامي ، وبفضله عرفنا الكثير من أمهات الكتب،منها كتاب العبر لابن خلدون الذي كان قابعا في إحدى البيوتات أو المساجد بدون تثمين .
ومن واجب الدول الحالية المطالبة باسترجاع ما يمكن استرجاعه من نفيس تراثها ، غير أن ذلك سيكلفها جهدا إضافيا في الحفاظ عليه حتى لا يتعرض إلى ما تعرض له تراث العراق من نهب أيام الاجتياح الأمريكي ، لأن الفكر السائد والنظرة الطاغية حاليا أن دول الجنوب لا زالت في حالة المراهقة الفكرية ، فهي غير مؤهلة للحفاظ على مقدراتها وتراثها ، ومن هنا فهي غير مؤهلة لامتلاك السلاح النووي الذي قد يعود بالوبال والكارثية على العالم جميعه ، بسبب جرة قلم طائشة من حاكم جاهل مستبد ،غير مؤهل حتى الحفاظ على أرشيفها التاريخي من الإندثار والزوال حرقا بأمر شفاهي من لدن الذين يخافون من المكتوب والملموس والدليل المادي ، حفاظا على المناصب والريوع لهم لذويهم والمقربين منهم ، و من نفوذهم وزبانيتهم وكل من يساندهم في غيهم وجبروتهم في السر والعلن .
خلاصة /
قليل هي الأمم التي أدركت قيمة التراث في حياتها الحاضرة والمستقبلية ، وقليل هي الأنظمة التي تحرض على سن القوانين الردعية ، التي تجسد نظرتها لمناطق الآثار باعتبارها مخزنا للمعرفة الإنسانية ، عن طريقها يمكن تبيان جهد الأجداد في بناء صرح حضارة عموم الإنسان ، فلولا ابن سينا ، والفارابي ، وابن رشد ، وابن الهيثم ، والإدريسي ، وابن خلدون وغيرهم ، لما بلغ الغرب هذ ا الشأن ، ولما صلت الحضارة إلى هذا الإنتشار العجيب والمرهب ، وقليل هي الدول الساعية إلى استرجاع آثارها التي عانت من الشتات والغربة عن أرضها وأهلها ، وهي آثار قيمتها عند العارفين بها، لا تقدر بأي ثمن ... وإن شئت قل هي بوزن أهرامات الجيزة ذهبا من عيار 24 قيراط .

الهوامش --------------------------------------------------------
[1] شامبليون ( Jean-François Champollion‏) علم فرنسي فك رموز اللغة الهيروغليفية اعتمادا على لوح ( حجر الرشيد) أكتشف أثناء حملة نابليون على مصر .
[2] لنقل مسلة حتشبسوت من الأقصر إلى باريس ( ساحة الكونكورد) تطلب الأمر دراسات وتجارب طيلة سنوات عديدة ( 1830/ 1836)، وتضحيات جمة منها إعداد سفينة خاصة لجرها عبر النيل والمتوسط ، وهو ما يشير إلى عبقرية الفراعنة في زمنهم .
[3] تينهينان ملكة أمازيغية اسطورية يشير إليها ابن خلدون بالمرأة العرجاء ، ومن أبنائها أهقار الذي أطلق على المكان ، يتواجد هيكلها العظمي بلباسه الأصلي بمتحف البارادوا بالعاصمة الجزائرية ، بعد نقله من مكانه الأول( أباليسيا) بالهوقار من طرفي بعثتين فرنسية أمريكية .
[4] أسكرام ، قمة جبلية في الهقار يبلغ علوها 2800م ، بعيدة عن مدينة تامنراست بحوالي 80 كلم / تعد مقصدا للسياح رغم وعورة مسالكها ، لمشاهدة روعة الغروب وأشكال النحت الطبيعي للجبال المحيطة .
[5] إيفارست ليفي بروفنسال (1894_1955) مؤرخ فرنسي شديد الإهتمام بالتاريخ الإسلامي ، مستعرب ،إنشغل كثيرا بتصحيح المخطوطات العربية ونشرها، ولد بالجزائر وتخرج من جامعتها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مبرك وحج مبرور
الشهيد كسيلة ( 2010 / 5 / 17 - 10:04 )
الغرب هو مكان الحضارة وانا اكون مطمئنا على تلك التحف الاثرية وهي في متاحف الغرب افضل مليون مرة من اعادتها الى الغجر

الا ترى في بلادك كيف اصبحت المواقع الاثرية اماكن تسرح فيها افواج الحشاشين والصعاليك والمراهقين وهي في حالة يرثى لها

الم تسمع عن ضريح مدغاسن الذي يحتضر فجيء له باحد المقاولين الذي يشتغل في الصرف الصحي لترميمه ويا ليته لم يفعل لان المعلم الهام آيل الى السقوط والانهيار
بسبب اسناد الترميم لمن لا يفقه شيئا في الترميم

اتمنى ان تكون لعمرة باريس آثارها الطيبة على الاستاذ الطيب


2 - البناء والهدم .
الطيب آيت حمودة ( 2010 / 5 / 17 - 14:42 )
مرور كريم للأخ الشهيد كسيلة ، وتحياتي على رأيكم المتعلق باستهجان قدرة أهل البلد الحفاظ على موروثهم الحضاري ، ومدغاسن أثناء زيارتنا له لا حظنا وجود حفر متعددة في محيطه الخارجي ، وتين عن طرق الدليل ، أنها كانت في الأصل مراكز التثبيت بين الحجارة محشوة بالرصاص ، أمر أحد الدايات أيام الحكم التركي استخراج ذلك الرصاص الذي جمع أكواما ، صنعت منه قذائف المدفعية لا أدري أن كان الأمر لاستغلالها دفاعا ، أم هجوما على السفن التجارية العابرة للحوض الغربي للمتوسط ؟؟.
أجيال تبني وتعمر ، وأخرى لا تقوى الحفاظ على الموروث ، وثالثة همها التخريب والهدم ، شعارهم ما لنا وهؤلاء الكفرة الفجرة قوم عاد وثمود .
تحياتي ( لكسيلة الشهيد ) الذي هو في حاجة إلى صرح أو ضريح يؤمه الخلق بالقدر ذاته الذي يؤمون فيه ضريح كسيلة الضار قريبا من بسكرة ..
أليست المواطنة مقدسة ؟؟؟


3 - حقيقة المدغاسن
الشهيد كسيلة ( 2010 / 5 / 17 - 23:20 )
لم يخبروك بالحقيقة
ما حدق ث هو الاهمال فقد بقي المعلم دون حراسة ولما ظهرت مودة نهب المعادن وتهريبعها الى تونس : حديد نحاس وكل المعادن

جاء اولئك اللصوص وكسروا الحجر وانتزعوا القطع الحديدية فتسبب ذلك في انهيار جزئي وهو ما ادى الى اسراع السكان المجاورين باخبار مديرية الثقفاية والولاية التي فعلت تلك الفعلة الشنيعة باسناد الترميم الى ما قلناه

اما الباي فقد كان ينوي هدمه لاستخراج الكنوز التي كان يشاع انه يختزنها

اخر الافلام

.. المناظرة بين بايدن وترامب.. ما أبرز الادعاءات المضللة بعد أد


.. العمال يحسمون الانتخابات قبل أن تبدأ، ونايجل فاراج يعود من ج




.. لماذا صوت الفرنسيون لحزب مارين لوبان -التجمع الوطني-؟


.. ما نسبة المشاركة المتوقعة في عموم أسكتلندا بالانتخابات المبك




.. لجنة أممية تتهم سلطات باكستان باحتجاز عمران خان -تعسفا-