الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل ستكون الطائفية جسرا لتقسيم العراق أو أضعافه ، وعلى عاتق من تقع المسؤولية التاريخية ؟ ( 1 )

زكي رضا

2010 / 5 / 18
ملف: الانتخابات والدولة المدنية والديمقراطية في العراق



يختلف الكثيرون حول اسم العراق ، كدولة كان لها موقعها التاريخي المتميز منذ عصور سحيقة ، أو كدولة بحدودها الجغرافية المعروفة اليوم . والتي تأسست بعد الاحتلال البريطاني لها ، اثر تقاسمها والفرنسيون لتركة الامبراطورية العثمانية ، من البلدان العربية الواقعة شرق المتوسط بعد نهاية الحرب العالمية الاولى ، والتي كان العراق جزءا من تلك الامبراطورية ( الاسلامية ) . وليكون تابعا للتاج البريطاني حتى العام 1958 ( على الرغم من تشكيل اول وزارة فيه خلال العام 1921 وتتويج الملك فيصل الاول ملكا عليه في شهر آب / اغسطس سنة 1921 ، ونيل العراق في الثالث من تشرين الاول / اكتوبر من العام 1932 استقلاله ليصبح دولة مستقلة (شكليا) حسب القانون الدولي حينها ، والعضو السابع والخمسين في منظمة عصبة الامم ) .

ولو تجاوزنا هنا تأريخ بلاد ما بين النهرين او ميسوبيتيميا ( وفق تسمية المؤرخين الاغريق ) ، منذ العصر الحجري القديم والمتوسط ، وحتى العام 539 ق . م . عندما سقطت الدولة البابلية الثانية على يد كورش الاخميني . وتتبعنا اسم العراق كبلد في أشعار العرب ، ومنها المعلقات في العصر الجاهلي ، وأشعار العديد من شعراء القرن الهجري الاول ( 1 ) ، أو ما جاء به الأخباريون والمؤرخون المسلمون . لوجدنا ان العراق كبلد وبهذا الاسم تحديدا ، قد تشكل حتى قبل الغزو الاسلامي له ، والذي قادته القبائل العربية بعد نجاح الاسلام في تثبيت سلطته في بلاد العرب ( شبه الجزيرة العربية ) . ويكتب ابو الحسن المسعودي عن العراق فيقول ( السواد وهو العراق ، حده مما يلي المغرب ، وأعلى دجلة من ناحية آثور وهي الموصل القريتان ، القريتان المعروفة أحداهما بالعلث من الجانب الشرقي من دجلة وهي من طسوج مسكن ، ومن جهة المشرق الجزيرة المتصلة بالبحر الفارسي المعروفة بميان روذان من كورة بهمن أردشير وراء البصرة ( 2 ) ، اما ابن رسته فيكتب ( أن حد السواد " العراق " الذي تم مسحه في صدر الاسلام هو من لدن تخوم الموصل ، مارا الى ساحل البحر من بلاد عبادان ، من شرقي دجلة طولا ، وعرضه منقطع الجبل " حمرين " من ارض حلوان ( بعد خانقين ) الى منتهى طرف القادسية مما يلي الغرب ) ( 3 ) ويضيف المسعودي قائلا ( العراق أشرف المواضع التي أختارها ملوك الامم من المنادرة ، وهم ملوك السريانيين الذين تسميهم العرب النبط ثم ملوك الفرس على طبقاتهم من الفرس الاولى الى الساسانية ، وهم الاكاسرة ، وهي حيث تلتقي دجلة والفرات وما قرب ذلك ، وهي من السواد البقعة التي حدها الزابي (نهر الزاب) فوق سر من رأى مما يلي السن وتكريت وناحية حلوان مما يلي الجبل ، وهيت مما يلي الفرات والشام وواسط من اسفل دجلة والكوفة من سقي الفرات الى بهندف وبادرايا وباكسايا وهي بالنبطية ترقف من أرض جوخى ( 4 ) ، هذه من الناحية الجغرافية .

أما عن الاقوام التي أستوطنت هذه الارض فأنها عديدة ، منذ ان شكل الانسان في هذه المناطق أولى التجمعات القروية والبشرية الكبيرة في جارمو شرق كركوك بين 6500 – 5000 سنة ق . م . والى يومنا هذا . خصوصا وان العراق ونتيجة لوجود نهريه دائمي الجريان ، وخصوبة أرضه وجوه المعتدل وثرواته وموقعه الاستراتيجي ، كان عامل جذب ليس للباحثين عن حياة أفضل فقط ، بل وللطامعين الذين توالوا على أحتلاله حتى الاحتلال الامريكي اليوم . وأتساءل كما يتساءل الكثيرون اليوم عن ما تبقى من العراق ؟ ومنهم الكاتب رشيد الخيون الذي يقول ( وكم يشوقنا أهل المعرفة ، على حد رواية المسعودي ، حين قالوا في تأريخ العراق الحضاري المفعم بالانجازات الانسانية مثل الكتابة والعجلة والطب والعمران ، الى الماضي السحيق ونحن نقلب رماد تلك النار ولا نجد فيه حرارة علم وفضل ، ولم يبق من ذلك غير حفائر وذكرى تتهاوى في لجج من الالام والخراب ، تقول لك ماذا بقي من العراق ) ( 5 ) . وهل العراق في ظل هذه الفوضى التي طالت كل شيء فيه ، سيستمر كبلد موحد قدم للبشرية عبر تأريخه الطويل الكثير من الانجازات ؟ وأن طاله خطر التقسيم ( وهو مقسم بالفعل عرقيا منذ عام 1991 وطائفيا منذ عام 2003 ) ، فمن هو المسؤول عن هذا التقسيم ؟

وكي لا ندخل في غمار التاريخ ، الذي لم يبقى لنا منه ألا ما تحتفظ به ، جامعات ومتاحف العالم من مخطوطات وتحف أثرية ، بعد ان فشلنا حتى في الحفاظ على آثارنا وتراثنا . دعونا نتابع تاريخ العراق السياسي الحديث ، اي منذ قيام الدولة العراقية الحديثة في العام 1920 وليومنا هذا . ودور العاملين المذهبي والقومي ، في تفتيت النسيج الاجتماعي العراقي ، وأحتكار السلطة وتهميش الاخر ومحاولة الغاءه ، واستخدام العنف والقسوة التي وصلت في منعطفات تاريخية معينة ، الى حد ابادة البشر والارض ، من اجل الحفاظ على السلطة . التي لم تستطع ولعقود الخروج من العباءة الطائفية ، لا بل انها مارستها احيانا بأكثر اشكالها بشاعة . كما علينا ونحن نراجع هذا التاريخ ان نكون صادقين مع انفسنا ، في تعاملنا مع المسألة الطائفية في العراق منذ تأسيسه ولليوم . ولان التشخيص الصحيح هو نصف العلاج ، علينا ان نعترف ودون ان نضحك على انفسنا ، من ان العراق كسلطة ودولة ولعشرات العقود ، وشعبا وسلطة ودولة منذ عقدين من الزمن تقريبا ، يعيشون وضعا طائفيا استثنائيا أثر كثيرا على المزاج العام للمجتمع العراقي وموقفه من الطائفية التي عانى منها طويلا ولايزال .

والان لنسأل انفسنا السؤال التالي ، من المسؤول عن ممارسة الطائفية ، وترسيخها كجزء من سياسة السلطة والدولة تجاه ابناء شعبها ؟ هل هم الشيعة ، ام السنة ( والحديث هنا يدور عن النخب السياسية ) ؟ وللاجابة على هذا السؤال علينا ان نقسم تاريخ العراق السياسي الى فترتين ، اولاهما تبدأ من بدايات تأسيس الدولة في العام 1920 وتنتهي في نيسان من العام 2003 ، والثانية تبدأ في نيسان 2003 ولليوم . ولكن قبل مناقشة هاتين الفترتين ، علينا ان نتطرق ولو بشكل سريع الى الوضع في العراق اثناء الاحتلال العثماني ، وطبيعة ذلك الأحتلال من الناحية المذهبية ، وتفضيله السنة على الشيعة لقرون طويلة ، ليحتلوا اكثر المراكز الوظيفية في البلد واهمها ، على حساب الشيعة ( وبقية مكونات شعبنا ) ، الذين كانوا يشكلون اكثرية عددية بين العرب المسلمين ( ولايزالون ) ، وهذا ما تناوله آداموف القنصل الروسي في مدينة البصرة عام 1912، اذ كتب يقول كما جاء في النشرة العثمانية الرسمية الخاصة بولاية البصرة لسنة 1898 – 1899 ( ان عدد الشيعة فيها يبلغ ( 662.845 ) نسمة مقابل أهل السنة وعددهم ( 261.850 ) ، اي بفارق ( 401.000 ) ويشمل هذا الاحصاء التقريبي المنتفك ( الناصرية ) والعمارة ( ميسان ) والحسا " حاليا ضمن اراضي المملكة العربية السعودية " ) ( 6 ) ،

كما وان السلطات العثمانية حصرت تقريبا ونتيجة صراعها الذي دام لقرون مع الصفويين ، الوظائف في السلك العسكري ( وغالبية الوظائف المدنية وخصوصا المهمة منها ) بابناء الطائفة السنية ، وكان خريجو مدارسها ومعاهدها العسكرية من ابناء هذه الطائفة تحديدا . وهم انفسهم الضباط الشريفيون الذين جاءوا بصحبة فيصل الاول ، بعد تعيينه من قبل الانكليز ملكا على العراق . وقد تسنم 9 من هؤلاء الضباط وبعضهم لمرات عديدة منصب رئيس الوزراء . وعليه فأن الدولة العراقية الحديثة تكون قد ورثت من العثمانيين نظاما سياسيا طائفيا ، وقوميا (لاحقا ) بعد تبلور افكار القومية العربية بشكل جنيني في نهايات الحكم العثماني ، واتساعها لاحقا اثر انتشار مباديء حركة تركيا الفتاة القومية وأفكار الثورة الفرنسية وتأثيرات ثورة اكتوبر الاشتراكية في سنوات لاحقة. الا انها اي الافكار القومية لم تستطع ازاحة العامل الطائفي والعشائري ، بل تعايشت معه وتأثرت به صعودا ونزولا ، حسب طبيعة الوضع السياسي والاقتصادي لكل فترة من فترات الحكم المختلفة .

وما ان بدأ العراق عهدا جديدا كدولة ( مستقلة ) ، حتى برهن حكامه الجدد لطائفيتهم وضيق افقهم السياسي ، من انهم سيفشلون ( وفشلوا على المدى البعيد ) في بناء اسس دولة مواطنة عابرة للطوائف والقوميات ، قادرة على انصاف ابناء بلدهم من الشيعة والكرد ، والقوميات واتباع الاديان والمذاهب الاخرى ، الذين عانوا لقرون من ظلم واضطهاد العثمانيين وتمييزهم . فبدلا من ان تقوم السلطة الجديدة بطي آثار الصراع العثماني – الصفوي ، الذي سالت بسببه أنهار من دماء ابناء البلد الواحد ، بعد ان كان العراق مسرحا لمعارك الدولتين . وذلك بترسيخ مبدأ المواطنة بين ابناء البلد ، وتوزيع الثروات والوظائف على الجميع دون اي تمييز كما العثمانيين . نراها قد احتكرت لنفسها الوظائف والمناصب المؤثرة في البلد ، تاركة للاخرين الفتات منها على الرغم من ان ( عناصر عراقية مهمة مثل رجال الدين الشيعة والاكراد وجماعات المعارضة الاخرى تنازلوا عن كثير من مطالبهم السياسية لكي يضمنوا نشوء الدولة الجديدة وتأسيسها بروح الوطنية ) ( 7 ) . أن هذه الاوضاع وغيرها والشعور بالغبن والتهميش والاقصاء احيانا من قبل السلطة الطائفية ، واهدارها للحقوق واحتكارها للمناصب ، جعلت مؤرخا كعبد الرزاق الحسني ( شيعي ) ان يشكوا ويكتب بمرارة قائلا ( انني انتقد ولازلت انتقد ، ان الاصرار على احتكار الوظائف في طائفة دون اخرى ، وعدم التسوية بين الجميع في الحقوق فيما يتعلق في هذا الامر لما يورث في قلب الطائفة المحرومة ، مما يؤدي الى الضرر بوحدتنا والوهن في قضيتنا ) ( 8 ) . وعلى اي حال فأن عبد الرزاق الحسني وبمرارة اكبر حيال طائفية السلطة يذهب بعيدا في نقده ليكتب ( تجد في العراق 14 لواء ( محافظة ) ولكل لواء متصرف ( محافظ ) ولا يوجد بين جميع هؤلاء المتصرفين متصرف جعفري ، في العراق عدة أقضية ولكل قضاء قائم مقام وليس فيهم رجل جعفري البتة ، وكذلك مدراء النواحي فلا اعلم بوجود جعفري بينهم ، وهكذا توجد وظائف مركزية كثيرة وليست احداهن مودعة الى جعفري ، وفوق كل ذلك في الاهمية أمر القضاة والحكام فأنا لا نجد في جميع انحاء العراق سوى حاكم واحد وقد عين اخيرا ) ( 9 ) . ويبدو ان الملك فيصل قد شعر بالتذمر الشيعي والكردي بعد ان تناولت الصحف العراقية حينها هذه المسألة فكتب مذكرة جاء في الفقرة الثالثة منها ( أن العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني وهذه الحكومة تحكم قسما كرديا واكثرية شيعية منتسبة عنصريا الى نفس الحكومة ، الا ان الاضطهادات كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم وعدم التمرن عليه والذي فتح خندقا عميقا بين الشعب العربي المنقسم الى هذين المذهبين ) ( 10 )

وقمعت الدولة الحديثة التأسيس ، انتفاضات وحركات عديدة ، قامت في مختلف مناطق العراق بقسوة مبالغ فيها . كما جرى في قمعها لانتفاضات الاكراد في كردستان العراق ، او في قمعها للحركة الاشورية ( والتي حصلت وللأسف الشديد على تأييد الكثيرين ومنهم جعفر ابو التمن وغيره من الساسة الوطنيين نتيجة دعاية السلطة والمؤسسة الدينية ضد الاشوريين ) ، والحركة الايزيدية ، ومناطق العشائر في الجنوب العراقي . ومن دون الدخول في اسباب هذه الانتفاضات والحركات ( هنا ) ، التي لم تبتعد في مجملها ، عن مطالب قومية مشروعة تعلقت حينها بالاستقلال الاداري والثقافي . او بنزاعات عشائرية فيما بين العشائر احيانا ، او بين العشائر والحكومة حول نسبة الضرائب وحصص المياه أحيانا اخرى ، ولان استخدام تلك القسوة المفرطة ( التي وصلت الى هدم دور قرى بأكملها كما حدث في الرميثة وسوق الشيوخ على يد بكر صدقي في حزيران 1935 ) في القمع ، لم يكن لها ما يبررها على ما يبدو حينها ، فأن الاطراف التي تعرضت للاضطهاد من السلطة ، اعتبرت الامر تمييزا قوميا وطائفيا ، وهو فعلا كذلك .

ونتيجة لشعور الشيعة بخيبة الامل من الحكومة في حصول اي تغيير ولو طفيف لصالحهم ، فأنهم وبمبادرة من قبل علماء الدين في النجف وكربلاء ورؤساء العشائر في منطقة الفرات الاوسط . حاولوا في العام 1932 تكوين جمعية بأسم ( جمعية شباب الشيعة ) ، كما حاول قسما اخر منهم تأسيس جمعية سرية اسمها ( الصباح ) ، وغيرها من الجمعيات التي لم يكتب لها النجاح . ( وبدافع موقف السنة المتشدد نحو زيادة مشاركة الشيعة في السلطة ) (11 ) فأن وفدا شيعيا برئاسة محمد رضا الشبيبي ، اجتمعوا بالزعيم الوطني والشخصية الشيعية المعروفة محمد جعفر ابو التمن ، لاقناعه بتأييد حركتهم لتأسيس حزب شيعي ، الا انهم فشلوا في اقناعه واعتذر عن الامر لالتزامه التنظيمي بالحزب الوطني ولعدم ميله الى العمل في تنظيمات طائفية .

وخلال العهد الملكي كانت السلطات تغلق العديد من الصحف ، وتمنع دخول الكثير من الكتب التي لا تتفق مع سياساتها ، ولكن هذا لم يمنعها في العام 1933، من ان تسمح ببوادر نزاع طائفي في ان يطفو الى السطح ، نتيجة سماحها لموظف يعمل في وزارة المعارف ( التعليم ) حينها بنشر كتاب تحت عنوان ( العروبة في الميزان ) . ارجع فيه المؤلف ( عبد الرزاق الحصان ) أصول الشيعة الى المجوس الاوائل ، وانهم ليسوا عربا ( ومثل هذه الاتهامات ستعود الى الواجهة كما سنأتي على ذكره لاحقا بشكل اكثر بشاعة وبذاءة بعد ما يقارب الست عقود ) ولذا فأن ولائهم ليس للعراق بل لايران . واثر نشر الكتاب قامت أحتجاجات وأعمال عنف في العديد من المدن والبلدات الشيعية ، وخصوصا المقدسة منها . مما اجبر رشيد عالي الكيلاني على مصادرة الكتاب ، وسحب نسخه من الاسواق ومحاكمة المؤلف وسجنه . ولم تمر سنتان على هذه الحادثة حتى اندلعت مصادمات بين الاهالي وقوات الشرطة في مدينة الكاظمية ، بعد رفض الاهالي قيام السلطات البلدية بأنشاء دائرة للبريد فوق ارض مقبرة خاصة بالشيعة ، وقتل وجرح العديد من الطرفين في هذه المصادمات . وحال انتهائها ( منعت الحكومة الجديدة في 3 نيسان / ابريل مسيرات التعزية الدينية " السبايات "في بغداد والكاظمين بأمر من متصرف بغداد وبتوجيه من رشيد عالي الكيلاني وزير الداخلية ) ( 12 ) وعلى الرغم من كل ذلك يجب التأكيد على ان الشيعة بشكل عام ، كانت لهم الحرية الكاملة في ممارسة طقوسهم طيلة العهد الملكي . عكس ما كان في عهد الاحتلال العثماني حيث كانوا يمارسون طقوسهم في المناطق المقدسة فقط ، اما في الاماكن الاخرى ( وتحديدا في البصرة وبغداد ، فقد كانوا ممنوعين من ممارسة شعائرهم بحرية ) ( 13 ) .

ولم يفت من بال المؤسسة الحاكمة حينها العمل ، على تغيير ديموغرافية بعض المناطق المهمة ( اقتصاديا ) والحساسة قوميا وعرقيا في مدينة مثل كركوك مثلا . لتجعل بسياستها تلك المدينة اشبه ببرميل البارود القادر في حال انفجاره ، على تعقيد الوضع السياسي والامني في كل العراق ، بل وتهديد وحدته الوطنية وتعريض البلد بأكمله الى الخطر . حيث عملت السلطات وبمبادرة من السياسي المخضرم نوري السعيد ، على نقل الموظفين الكرد والتركمان وقسم من العرب الى مناطق اخرى ، لتأتي بدلا عنهم بموظفين عربا (غالبيتهم من السنة ) لا ليعملوا فيها فقط ، بل ليقيموا فيها بشكل دائم . وليضيفوا جراء هذه السياسة وسياسات شوفينية وطائفية أخرى لسلطات ستأتي بعدهم ، مشاكل كبيرة على كاهل العراق المثقل بالمشاكل اصلا . ولم تكتفي السلطات بتعريب المدن ، بل عملت كما ستعمل غيرها مستقبلا على تعريب المواطنين من غير العرب ، سواء بالتهديد او بالترغيب . كما مارست السلطات اضافة الى التعريب عمليات التهجير الاولى في تاريخ العراق الحديث ، حيث تم تهجير العديد من عوائل الكرد الفيليين الشيعة الى ايران ، بعد قمعها لانتفاضة الحي في العام 1956، في سياسة عقاب جماعي نتيجة اشتراك ابناء تلك العوائل ومساهمتهم في تلك الانتفاضة وانخراطهم في النضال الوطني . كما وان السلطات كانت مستمرة طيلة فترة حكمها ، بابعاد العديد من رجال الدين الشيعة عن البلد واسقاط الجنسية عن العديد من المناوئين لها وجلهم من الشيعة ايضا .

ومن خلال سياسة بعيدة المدى من اجل اسلمة المجتمع العراقي او اضعاف الاديان الاخرى التي وجدت في العراق قبل الاسلام بقرون ( سوف تتكرر بعد عقود ضد المسيحيين ) وللسيطرة على السوق التجاري الذي كان لليهود العراقيين فيه تأثير كبير ( حيث كان عدد التجار اليهود العراقيين او من اصل عراقي من الذين حددت اعتباراتهم المالية خلال سنوات 1938- 1939 بين 22500 – 75000 دينار ، بتسعة تجار يهود مقابل تاجر عربي مسلم سني واحد ( 14 )، كما كان عدد اعضاء غرفة تجارة بغداد من اليهود في السنة المالية 1935 -1936 ، تسعة أعضاء يهود بينما كان عدد الاعضاء السنة 4 والشيعة 2 ( 15 )) وبحجة العمالة لاسرائيل ، قامت السلطات في نهاية اربعينيات القرن الماضي بتهجير اليهود العراقيين ( خدمة للدولة العبرية ) من بلدهم ، الذي استوطنوه قبل الغزو الاسلامي له بعشرات القرون . بعد اسقاط الجنسية عنهم ومصادرة املاكهم ( وهذا ما سيقوم به نظام البعث الطائفي ايضا في سبعينات وثمانينات القرن الماضي بحق الكرد الفيليين ومئات الالاف من العرب الشيعة كما سنرى ) . علما ان نفس تلك السلطات كانت تمنح الجنسية العراقية وبسهولة ويسر ، الى العرب الوافدين والاتراك والشيشان والافغان ، بل وحتى الجنود الهنود الذي جاءوا الى العراق مع المستعمر البريطاني . وقد كتب العديد من المتابعين السياسيين والقانونيين الكثير عن تلك الحالات حينها ، كما وان الصحافة العراقية تناولت منح الجنسية للاجانب على حساب ابناء الوطن ، بمقالات تهكمية معبرة ( 16 ) . واذا عرفنا ان قانون الجنسية العراقي (ولليوم) يعتبر الكثير من الشيعة من ذوي اصول ايرانية ، فاننا نستطيع ان نكتشف وبسهولة ان الجنسية العراقية كانت تمنح الى اجانب من الطائفة الاخرى ، في محاولة لتغيير ميزان نفوس البلد لصالح السنة ( وتمارس بعض بلدان الخليج كالبحرين اليوم نفس هذه السياسة ) .

وعلى العموم فأن الدولة العراقية الحديثة التكوين ، كانت قد فوتت على شعبنا ووطننا ، فرصة قلما يجود الزمان بها ، كي يساهم الجميع ببناء وطن معافى ، ليسير بثقة وأطمئنان الى بناء مستقبل زاهر لابنائه ، وذلك بعد التلاحم الشيعي السني أثناء التحضير لثورة العشرين وخلالها ( 17 ) ، والتي قربت بين ابناء الطائفتين من العراقيين بشكل لم يكن مسبوقا قبلها ، حيث كانت الاحتفالات الدينية تقام في جوامع السنة وحسينيات الشيعة بشكل مشترك وبالتناوب .

و بعد فشل تلك الارهاصات الاولى لأعلاء مصلحة الوطن فوق المصالح الطائفية ، من قبل سياسيي العراق حينها ، ظلت الطائفية كظاهرة هي التي تتصدر المشهد السياسي العراقي وليومنا هذا . اذ يكتب حسن العلوي بعد اكثر من سبعين عاما متناولا الظاهرة الطائفية بشكل عام قائلا ( الظاهرة الوحيدة المستقرة ، وفي بلد يفتقر الى التقاليد السياسية والدستورية كانت الطائفية تقليده الثابت ، وقد أخذت معنى من القداسة لم يأخذه الدستور ) ( 18 ) .

وقبل ان نختتم هذا السرد السريع للواقع الطائفي اثناء العهد الملكي ، فمن الضروري التأكيد ، انه على الرغم من ان نفوس الشيعة كان ( ولايزال ) هو الاكبر بين عرب العراق ، الا ان ذلك لم يتناسب اطلاقا وعدد الوزارات التي قاموا بتشكيلها . فمن مجموع 58 وزارة تم تشكيلها كان نصيبهم 5 وزارات فقط ، وكانت فترة حكمهم سنتان وثلاثة أشهر من مدة 36 سنة و10 أشهر هي فترة الحكم الملكي منذ تشكيل اول وزارة في ايلول 1921 وحتى انهياره في 14 تموز 1958( 19 ) .



( 1 ) فتغلل لكم ما لا تغل لاهلها ...... قرى بالعراق من قفيز ودرهم " من معلقة زهير ابن ابي سلمى ) .

تفهق بالعراق أبو المثنى ....... وعلم قومه أكل الخبيص " الفرزدق "

(2 ) المسعودي ، التنبيه والاشراف ، ص 32-38 عن الاديان والمذاهب بالعراق ، رشيد الخيون ص 6
( 3 ) فاروق فوزي ، تاريخ العراق في عصور الخلافة الاسلامية ص 21 ، عن المصدر السابق ص 5 - 6 .
( 4 ) المسعودي ، التنبيه والاشراف ، ص 32-38 .، عن الاديان والمذاهب بالعراق ، رشيد الخيون ص 6 .
( 5 ) الاديان والمذاهب بالعراق ، رشيد الخيون ص 7 .
( 6 ) آداموف ، ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها ،ص 129 عن الاديان والمذاهب بالعراق ، رشيد الخيون ، ص 291 .
( 7 ) محمد جعفر ابو التمن ، دراسة في الزعامة السياسية العراقية ، د. خالد التميمي ص 335 .
( 8 ) الاكثرية الشيعية في العراق ، مجلة العرفان ، حزيران 1925 ، باب المراسلة والمناظرة ، عن الاديان والمذاهب بالعراق ، رشيد الخيون ص 290- 291 .
( 9 ) المصدر السابق ، ص 312-313 .
( 10 ) تاريخ الوزارات ، عبد الرزاق الحسني ، الجزء الثالث .
( 11 ) محمد جعفر ابو التمن ، دراسة في الزعامة السياسية العراقية ، د. خالد التميمي ص 314 .
( 12 ) المصدر السابق ص 361 .
( 13 ) العراق ، الكتاب الاول ، حنا بطاطو ص 62 .
( 14 ) المصدر السابق ص 283 .
( 15 ) المصدر السابق ص 311 .
( 16 ) جاووش البلدية ومودة التجنس ، مقالة لنوري ثابت حبزبوز ، كتاب بغداد الجامع من المفيد والظريف الجزء الاول ، فخري الزبيدي ص 381- 383 .
( 17 ) في ذكرى وفاة الامام علي ابن ابي طالب كان موكب الاعظمية يسير في صحن الكاظمية وهو يهزج قائلا :
ابو بكر وعمر حزنانين ....... عالوصي حيدر
وملائكة السما وجبريل .............. لاجله تكدر
لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ، د.علي الوردي ، الجزء الخامس ، حول ثورة العشرين ص 192 .
( 18 ) حسن العلوي ، الشيعة والدولة القومية في العراق ، ص 9 – 10 .
( 19 ) العراق ، الكتاب الاول ، حنا بطاطو ص 212- 217 .




الدنمارك
10 / 5 / 2010










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المقال جميل بتاريخه
محمود ( 2010 / 5 / 18 - 16:35 )
تحية للسيد زكي رضا
وقائع وتاريخ مدون ونضال الشعب العراقي مترابط ولا ينفصل فالانتفاضات التي قام بها الاكراد والعرب والمسيحين وباقي المكونات تدل على هذا الترابط الذي يجب ان يفعل الان وان محاولة شيعتنا انه ذاك تكوين جمعية شباب الشيعة او جمعية الصباح او الحزب الشيعي ولم يكتب لها النجاح --- لماذا علما ان هناك في نفس الوقت جمعية مكافحة الاستعمار والاستثمار ----- وقد لبت هذة متطلبات الشعب في الانعتاق من الاستعمار وتحولت الى حزبا وطنيا يرعب السلطة ويخافه الطائفيين والقوميين واعداء الشعب


2 - الفتاوى ياعلماء الدين
محمود ( 2010 / 5 / 18 - 16:44 )
اين ما اقراْ ارى فتاواهم عورتا تلطخ وجه التاريخ فتاوى ضد الالاف من البشر تحرض على القتل والتعذيب والماْسي متناسين ان قتل انسان سيترك ارمله وطفل او طفلين او اكثر ياللعار لهذه الفتاوى الرخيصة
مع التحية


3 - مقال رائع
ايار ( 2010 / 5 / 18 - 21:08 )
شكرا استاذ زكي المحترم مقال تاريخي ملئ بلوقائع والاسانيد اشد على يدك متمنيا لك دوام التقدم والازدهار


4 - الاستاذ زكى المحترم
على عجيل منهل ( 2010 / 5 / 18 - 22:05 )
تحية مباركة المقال قيم ومسبوك وموثق تحياتى لك

اخر الافلام

.. ماذا جاء في تصريحات ماكرون وجينبينغ بعد لقاءهما في باريس؟


.. كيف سيغير الذكاء الاصطناعي طرق خوض الحروب وكيف تستفيد الجيوش




.. مفاجأة.. الحرب العالمية الثالثة بدأت من دون أن ندري | #خط_وا


.. بعد موافقة حماس على اتفاق وقف إطلاق النار.. كيف سيكون الرد ا




.. مؤتمر صحفي للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري| #عاج