الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصيدة البؤس

حمودي عبد محسن

2010 / 5 / 20
الادب والفن


قصيدة البؤس
لقد مرت شهور على أرض الرافدين ، شهور القمر ، الأشهر الحرام ، ومر شهر كانون قلب الشتاء ، وجاء شم النسيم ، وجاء اليوم الجديد ، وتجددت السنوات عبر التاريخ ، هذا التاريخ الذي ظل يواصل مسيرته في الحروب حتى يومنا هذا وسط الدمار والخراب والدخان الأسود ، وأفواه تصرخ ذات اللحظة في وجه العصور :
- لقد شئتم الحروب ، فهي لكم .
ويبدو واضحا من خلال هذه الصرخات أن لم يتجدد التوازن بين الأنوار والظلمات ، ولم يتساو الليل والنهار ، إذ لم يأت الاعتدال الربيعي ، ولم تتجدد دورة إخصاب الأرض ، بينما تموز – الابن الشرعي – البابلي المسكين في إسباله البالية ، مختبئا في كوخه المهتريء بإطراف الصحراء ، نائما في لباس الصوف ، يحتضن الناي ، وهو في حلم عجيب : آلة حربية حديثة تنحو إلى افتراس وجوه ، تكاد نظرات عيونها لا تعبر عن شيء ، متجه مباشرة إلى الآلة المكشرة عن أنيابها الحادة البيضاء ، آلة تفترس الوجوه ، تفترس الحياة من البشر ، هنا رأس مقطوع مرمي في زاوية من شارع مهجور ، قربه رجل مطعون يسبح في بركة دم وهو يهذي ، وحشود تركض فزعة مهيمنا عليها دخان أسود ، يتصاعد إلى أعلى ، وهناك عجوز تنتحب وتدور حول جذع نخلة معوج يكاد يلامس تاج سعفه الأصفر الأرض ، وفي البعيد طفل أشعث الشعر يعبث في مجرى ماء عفن ويلهو مع حشرات طائرة ، ثمة جثة حصان ميت تلتهمه حشرات في احتفال مرعب .
أنهضته صرخة مرعبة من نومه كما لو أنه أفاق بعد سبات دام قرون ، كما لو أنه سوف لن ينام أبدا بعد ما رأى في حلمه :
- ليس ثمة شيء سوى الأجل .
هذا في أيلول حيث يحزن البابلي ، حيث نضوب الخصب والخضرة ، وما كلمة أولولو البابلية إلا ولولة ونحيب . وقف في مقدمة كوخه جائعا قلقا من جراء عجزه ، متجهما صموتا منصرفا إلى نفسه . كان الصمت ثقيلا ، إذ لم يكن للصمت أن يكون أشد من ذلك . مسك خرزة قلادته الخضراء ، فلم تعد هنا مآثر مجد تستحق التبجيل ، ولا معجزات خارقة غير مألوفة ، ولا زمن أبطال ملاحم ، ليس سوى قيظ وحر وكوارث وعذاب أبرياء . رفع رأسه إلى السماء ، واستغرق تماما في تأمل نجمة الصباح ، كانت عظيمة وهي أشبه بثريا تتلألأ بألف نجم صغير ، ثم غير اتجاه نظراته ، فقد كان مرغما أن يقاوم هذا النفور العظيم ، و ذلك الاشتعال البغيض في وجهه ، شعر بخديه منتفختين ، وقلبه يخفق متسرعا لأن في عينيه نظرات حادة متكررة ، متكررة مثل مطحنة التاريخ حيث الاضطراب والفوضى ، وحيث البسطاء هم الضحايا ، فامتدت عيناه لتتعلقا بالدغل والحصى والرمال ، عيناه تائهتان في الصحراء .حملق بتركيز شديد ، فلا عجب أن طفرت من عينيه الدموع ، أراد أن يجري فاتحا ذراعيه نحو محبوبته عشتار ، يحتضنها ، يقبلها ، وراح يردد مع نفسه : تعالي حبيبتي وعلميني أغاني الطيور يا ياقوتة شرقية مخضلة بالندى ، وهو يناجي بلاد النهرين :
- أتموت في رحم التاريخ ؟!
بكى ليظل في الظل ، ظل العصور القديمة العظيمة متجاوزا غربته في موطن العزلة والوحشة والفقر والخطر والأرض المقفرة الخالية . أراد أن يخنق الصمت الثقيل في ذروة بؤسه لأنه لم يكن قادرا على فعل شيء مهما كان توقه إلى مستقبل أفضل ، ربما ثمة أزمنة أخرى ، لكن هذا الزمن هو زمنه ، فهو مطارد ، مختبئ ، ليس لديه حياة غير هذه الحياة التي يحياها في القحط والجفاف ودوي الانفجار ، والخراب لم ينته بعد ، صمت وانتظر ، وطال انتظاره ، حتى ارتفع في داخله صوت عال آت من الجنائن المعلقة ذلك الصوت الذي لم يصمت على الإطلاق ، الذي يأتيه من الماضي البعيد متحديا تلك الأصوات التي ترهق روحه بضجيجها وهو يواجهها كل يوم ، كل ساعة ، كل ثانية ،متخطيا الزمن المحيط به .
وضع مقدمة الناي في فمه وعزف عزفا صافيا مذهلا لبابل ، للعراق ، كأنه يناجي الصمت ، والتاريخ ، ويفسر العصور ، وهو يسعى يائسا أن يجد مخرجا ، ولكن لا مخرج من (عدالة فاسدة مفسدة ) ، فلا ثمة خلاص يلوح في الأفق . وحين انتهى من العزف جاءته عفاريت بأحذيتها السوداء ، مثيرة الغبار في مشيتها ، تمضغ الكلمات ( صوت الناي يزعج السلطان ) ، وجوهها مثل ضفادع إلا أنها تصفق وتخبط يدا بيد . أوثقوه بسلاسل حديد ، واقتادوه إلى سجن سري في بغداد لتكون تلك اللحظة بداية لحقبة من المحاكمات والاتهامات ، لم يتوانوا بضربه بالعصي ، ويدقون مسامير طويلة تنفذ إلى جسده ، أشعروه بالمذلة في وطنه ، ثم رموه بين القنوات والترع لتأكل لحمه الطيور ، وتشرب دمه الحشرات . نزلت زوجته عشتار من إلوهيتها المقدسة إلى العالم العلوي السفلي بغداد ، وانتحبت على مصير تموز ، ومصير العراق ، تشكو بلحن حزين هذا الرعب والتدهور ، وذروة الخوف البشري ، خوف الكارثة والفناء ، كانت تتلفت خوفا من خنازير برية تهجم على تموز ، وتقتله ، أخذته بين ذراعيها ، وصعدت به إلى عرش الآلهة ، وهي تردد :
- تموز الحزين ، صوت الناي الحزين .


حمودي عبد محسن
18 / 5 / 2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مواجهة وتلاسن بكلمات نابية بين الممثل روبرتو دي نيرو وأنصار


.. المختصة في علم النفس جيهان مرابط: العنف في الأفلام والدراما




.. منزل فيلم home alone الشهير معروض للبيع بـ 5.25 مليون دولار


.. إقبال كبير على تعلم اللغة العربية في الجامعات الصينية | #مرا




.. كل الزوايا - وزارة الثقافة تعلن أسماء الفائزين بجوائز الدولة