الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
اختناق العصافير
بدر الدين شنن
2010 / 5 / 25الادب والفن
أبي الغالي
لوأنني أعرف في أي قبر جماعي مجهول دفنت .. لكنت وضعت هذه الأوراق مع حزمة من الزهور على المكان الذي دفنوك فيه .. بعد أن غدروا بك .. لترطب التراب الذي يلف جثمانك .. ولو أنني أعرف في أي بلد تشردت لأرسلتها إليك لتستأنس بها في غربتك .. الشبيهة بالدفن الحي .. بما سطرته يداي الصغيرتان في الأيام ، التي غبت وغيبوك عنا ، قبل عشرين عاماً . لكنها ومضة من أمل ، أن تكون مازلت حياً ، تعلقت بها ، دفعتني ، أن أوزع هذه الأوراق في كل اتجاه ، لعلها .. في وقت ما .. بطريقة ما .. تجد طريقها إليك .
إنها ليست كما الأوراق التي يكتبها الكبار كما سترى ، لكنها عبرت في حينه ، عن انعكاس عالم اللاحرية على الوعي في رأ سي الصغير ، وعن قدر من ثمار إصرارك على تعليمي القراءة والكتابة ، منذ أن كنت في الثالثة من عمري .
لاأدري بالضبط متى رحت أكتب هذه الأوراق ، ولم أعرف كيف ينبغي أن تكون ، فجاءت موجزة محدودة التعبير ، على قد أصابعي الصغيرة ، وعلى قدر كلماتي القليلة . وجاءت خالية من الإشارة للزمان والمكان . وحسبي الآن ، أن مايعفيها من ذلك ، أن الأيام التي عشناها لاتختلف كثيراً عن التي نحياها الآن ، وأن الأمكنة التي نعيش فيها ، هي متشابهة البلاء واليأس والبؤس .
وأملي إن كنت مازلت حياً .. أن تومض كلماتي الأمل عندك .. أن نلتقي .. عندما يتوقف اختناق العصافير ، ويورق الربيع .. وتنطلق الطيور والناس تغرد بحرية .
أبي الغالي
أوراقي بين يديك ..
- 1 -
أنا سعيد جداً لأن أبي قد جاء الليلة إلى المنزل قبل أن ننام . جاء ومعه الكنافة التي وعدنا بها . وبعد أن لبس ثياب النوم ، لعبنا معه أنا وكامل .. وغنينا .. وضحكنا . ونام معنا في فراشنا . عند الصباح لم أجد أبي في فراشنا . لقد كان في الغرفة الثانية في فراش أمي .
- 2 -
اليوم عند المساء حضر إلى بيتنا أصدقاء أبي . أدخلهم أبي كالعادة إلى غرفته . بعد قليل جلبت لهم ماء وجلست معهم . أنا لاأفهم كل مايقولون ، خاصة تلك الكلمة التي يرددونها كثيراً أثناء حديثهم ، والتي يبدو أنهم يحبونها ، مثلما أحب أنا .. العيد .. والكنافة .. وسوزان .. هي كلمة .. حر .. ر .. ية .
- 3 -
زارتني اليوم سوزان ، وأطعمتني قطعة حلوى . ودخلنا إلى غرفة جدتي ولعبنا وكامل عدة ألعاب . أنا أحب سوزان وهي تحبني .. كم أحب الشرائط الحمراء والزرقاء والبيضاء في شعرها . وكم أحب تلك اللحظات عندما نختبيء معاً في مكان صغير لايرانا فيه أحد ، وأقبلها وتقبلني ، ثم نخرج من مخبئنا ، ونفاجيء أهلنا ضاحكين كالعصافير .
- 4 -
اليوم عرفت أن الكلمة التي يحبها أبي وأصدقائه ، هي أكبر من العيد والحلوى . فعندما سألتني الآنسة في المدرسة .. هل تحب المدرسة ؟ .. قلت :
- نعم وأحب الحر.. ر .. ية .
ابتسمت الآنسة وسألتني :
- ماذا تحب ايضاً ياهاني ؟ ..
قلت :
- أحب أمي وأبي وجدتي وكامل .
- وماذا أيضاً ياهاني ؟ .
قلت :
- أحب العيد والحلوى وسوزان .
اقتربت مني الآنسة وقالت لي :
- يجب أن تلفظ هذه الكلمة العظيمة هكذا .. حرية .. حرية .. ويجب أن تتعلم معناها أيضاً . وحينها ستحبها أكثر من الحلوى .
قلت :
- وأكثر من أمي وأبي و ..
قالت :
- لابل من أجلهم ، ومن أجل أن يكون عندك دائماً حلوى ، وأن تفرح دائماً بالعيد .
- 5 -
صباح اليوم قالت لي امي لاتذهب إلى المدرسة ياهاني ، لأن المدرسة مغلقة . سوزان لم تذهب هي الأخرى إلى المدرسة . ولعبنا مع أولاد الجيران على سلم البناية .
- 6 -
لم اذهب اليوم ايضاً إلى المدرسة ومنعتني أمي من الخروج من البيت .
- 7 -
صباح اليوم مر أمام بيتنا أناس كثيرون يقولون بأصوات عالية .. حرية .. حرية .. وكلمات أخرى لم أفهمها ، ومن حولهم جنود ورجال يحملون مسد سات ، مثل التي جلبتها لي ولكامل جدتنا أم أمي ، وأشياء أخرى يطلقون منها الرصاص على الناس .. لم تسمح أمي لي ولكامل أن نستمر بالنظر عبر النافذة إلى الشارع ، وأغلقت النافذة وأجلستنا على الأرض . بعد ذهاب الجنود نزلت أمي ونساء كثيرات إلى الشارع . ركضت وراء أمي ووصلت إلى الرصيف . كان رجل نائم على الأرض وقميصه أحمر . وكان طفل ممدد على الأرض ورأ سه أحمر أيضاً . إحدى النساء حملت الطفل وانطلقت به تبكي وتصرخ .
- 8 -
الليلة قبل أن ننام نهض أبي وبدل ثيابه . وتكلم مع أمي وجدتي بصوت خافت . لم أفهم ماذا قال لهما . ثم دنا مني ومن كامل . وأخذنا إلى صدره وقبلنا . وقبل أمي . وقبل يد جدتي .. وغادر البيت .
- 9 -
بعد ذهاب أبي بقليل ، سمعنا أصوات رجال يصرخون ، ويضربون باب بيتنا بقوة بأرجلهم ، ثم كثروا الباب . ودخلوا البيت وبأيديهم مسد سات كبيرة وصغيرة . وصرخ أحدهم سائلاً عن أبي . تعلقنا أنا وكامل يأذيال أمي واختبأنا مذعورين خلفها .. وبكينا .. جدتي صرخت بهم وهي بلباس النوم حاسرة الرأس : الله يخرب بيوتكم .. نحن حريم وأطفال . وبعد أن فتشوا البيت ، بقي قسم منهم معنا ، والآخرون أخذوا الكثير من كتب وأوراق والدي وذهبوا . همس أخي في أذني .. إنشاء الله أن لا يعود أبونا الليلة . ونمنا أنا وأخي وأمي في فراش جدتي .
- 10 -
مرت أيام كثيرة ولم يعد أبي إلينا . وكلما سألت أمي عنه تقول لي .. إنه سيعود ذات يوم .
لقد ا شتقت إلى أبي .. إلى اللعب معه .. إلى رؤيته جالساً يقرأ في كتبه .. أو يكتب ..
بعد غياب أبي أصبحنا ننام أنا وكامل وأمي في فراش واحد . وقبل النوم تحكي لنا أمنا حكايا حلوة . وتحدثنا عن أبينا .. كم يحبنا .. ويحب الناس .. ويحب الحرية .. والكتب .. وتلفنا بذراعيها وننام .
- 11 -
بعد أن نمنا الليلة ، ا ستيقظت على أصوات الرصاص وصراخ رجال في شارعنا ، ووجدت أمي وجدتي جالستين في الظلام . وعندما رأتني أمي أتحرك وضعت أصبعها على فمها وقالت هامسة " هسّ " . وضمتني إلى صدرها وهي ترتجف وتمسح الدموع بكفيها . واقتربت جدتي وطوقتنا معاً بيديها قائلة .. ا ستر يارب .. احمنا يارب ..
- 12 -
عاد الليلة أولئك الرجال إلى بيتنا . قرعوا الباب بقوة . نهضت جدتي وفتحت لهم الباب قبل أن يكسروه مرة أخرى . فتشوا المنزل . قلبوا كل شيء فيه . وفجأة أمسك أحدهم بذراعي وهزني بقوة سائلاً .. أين ابوك " ولك " . آلمني جداً وصرخت ، وقلت ، إنه في الكويت . بعد أن ذهبوا سألتني جدتي وهي تضمني إلى صدرها .. كيف خطر على بالك أن تقول أبوك في الكويت .. أتعرف أين تقع هذه الكويت . وضحكنا ثم لفنا الصمت والخوف . وتجمعنا في فراش جدتي ونمنا حتى الصباح .
- 13 -
بعد أيام .. في آخر الليل ، عاد الرجال المسلحون إلى بيتنا . فتشوا مرة أخرى كل مكان فيه حتى خزائن المطبخ . وتوقف أحدهم في غرفة جدتي وقال لها .. أنت تعرفين أين يوجد أبو هاني .. ويجب أن تقولي لنا أين هو وإلاّ . ردت جدتي .. لاأحد يعرف اين هو . وإذا عرفت فلن أدلكم عليه .. وأرجو من الله أن أعيش لأرى اليوم الذي ستدفعون فيه ثمن أفعالكم بحقنا وحق غيرنا .
- 14 -
نجحت اليوم إلى الصف الثاني . وقد أعطتني مديرة المدرسة بطاقة امتياز وكيس صغير فيه جائزة وصفق لي التلاميذ . فرحت وركضت إلى البيت لأفرح معي أمي وكامل وجدتي . عندما وصلت البيت فتح كامل الباب وهو يبكي .. وقال .. لقد جاؤا وأخذوا أمنا . رميت كل شيء من يدي وركضت إلى جدتي . أخذتني بيديها وضمتني إلى صدرها . بكيت .. وبكيت قائلاً .. أريد أمي .. أريد أمي وأبي .
آلمني صدري وشهقت .. وشهقت .. وشعرت أني أختنق . ثم وجدت جدتي تمسح وجهي بالماء وتقول لي .. لاتخف يابني سوف تعود أمك ويعود أبوك .. لاتحزن يا قلب قلبي .. ياعيوني .. كل شيء سيعود كما كان .. كل شيء له نهاية ..
- 15 -
اليوم جاء خالي ومعه ابنه أحمد الذي أحبه كثيراً . جلس أحمد بيني وبين كامل ملتصقاً بنا . وجلس خالي مع جدتي يتحدث إليها . قال لها .. سيعيش الأولاد عندنا حتى تعود أمهم من السجن .. أو يفرجها الله . سألت خالي :
- السجن .. ماهو السجن .. ومن الذين أخذوا أمنا إلى هناك ؟ ..
قال خالي :
- السجن ياخالو مكان كبير يضعون فيه الناس الذين يسرقون أو يقتلون أناساً آخرين والذين لايحبون الحكومة ، والذين يأخذون الناس إلى هناك هم رجال الأمن .. رجال الحكومة .
- وماهي الحكومة ؟
- صاحبة السجن .
ولكن أمي لم تقتل ولم تسرق وهي لطيفة جداً .
- لقد أخذوها كي يسلم أبوك نفسه إليهم ليأخذوه إلى السجن .
- وماذا فعل أبي ليأخذوه إلى السجن ؟ .
- لأنه لايحب الحكومة .
- هل انت تحب الحكومة ؟ ..
صمت خالي ، ثم نهض ولملم أ شياءنا التي جاءت بها جدتي ، وانطلق بنا إلى بيت جدتنا الثانية .
- 16 -
هذه أول ليلة ننام فيها بدون أمنا . وقبل أن ننام طلب كامل مني أن أحكي له حكاية ، مثلما كانت تفعل أمنا كل ليلة . وضعت يدي فوق جبينه ، وحكيت الحكاية التي حكتها لنا الآنسة قبل أيام .. وهي حكاية الطائر الذي يموت إذا جردوه من حريته ووضعوه في القفص . وقبل أن أنهي الحكاية نام وهو يمسك بكلتا يديه يدي الثانية .
- 17 -
نقلوني إلى مدرسة أخرى . الآنسة في الصف الجديد تشبه أمي . وعندما أردت أن أناديها آنسة ناديتها ماما . فخجلت وارتبكت . لكن الآنسة ابتسمت وقالت .. لاعليك ياهاني .. أنا هنا ماما أيضاً . حزنت وبكيت من أجل أمي .. و.. آلمني صدري واختنقت . وصحوت فوجدت الآنسة وآنسات كثيرات عند رأ سي . وإحداهن تمسح وجهي بالماء . وأصوات تتساءل أين الطبيب ..
- 18 -
أيام وأيام لم تعد أمي .. ولم يعد أبي ..
- 19 -
رجعت اليوم من المدرسة إلى بيت جدتي . وعندما ’فتح الباب كانت أمي تقف أمامي . قفزت .. طرت إلى صدرها .. تعلقت بعنقها .. احتضنتني . قبلنا بعضنا بعضاً . جلست في حجرها .. طوقت رقبتها بذراعي ورحت أ شم رائحتها .. وألصقت وجهي بعنقها وصدرها .. ثم أخذت كفيها بيدي وقبلتهما أصبعاً .. أصبعاً .. وراحة بعد راحة . لم أدرلماذا لم تكن أمي سعيدة ..
- 20 -
لم نستطع أن ننام الليلة كالعادة . لقد حضر كثير من أقرباء أمي . كان الجميع يقبلون أمي ويسألونها عن صحتها .. ويسألونها .. هل " أمسكوه حقاً " . وفهمت أنهم يتحثون عن أبي . وشعرت أني لن أراه أبداً . ودنوت من أمي وأمسكت بيدها . ودار ألم شديد في رأ سي وصدري .. صحوت فوجدت رأ سي مبللاً بالماء .. وأمي تفرك صدري بيدها وتصرخ إلحقوا هاني .. هاني ..
- 21 -
عدنا إلى بيتنا .. إلى جدتي أم أبي . آه ما أعظم جدتي هذه وما أطيبها . أجلستني أمامها على سريرها ، ومسحت شعر رأ سي بيدها وقالت لي .. أنت الآن رجل البيت ياهاني .. أنت حللت محل أبيك .. وقبلتني من جبيني . وفجأة أحسست أني كبرت وكبرت حتى تصورت نفسي أني كأبي حقاً .
بعد أن عدنا إلى بيتنا لم أشاهد سوزان على سلم البناية ولم تحضر لزيارتي . وحين سألت جدتي عنها قالت .. بعد أن قتلوا أبوها في الدكان ، انتقل أهلها ليعيشوا في مكان آخر .
- 22 -
رجعت إلى مدرستي الأولى .. إلى زملائي وآنستي الذين أحبهم ويحبونني . وصباح اليوم سألتني الآنسة في الاستراحة .. هل تعلمت معنى الحرية ياهاني ؟ .. قلت .. نعم .. إنها .. إنها تعني أن يعود أبي إلى البيت .. وأن لايزورنا رجال الأمن ويكسروا باب بيتنا .. وأن لايأخذوا أمي إلى السجن .. وأن تعود الكتب إلى أبي .. ويعود أصدقائه الذين يحبون الحرية لزيارتنا ..
- 23 -
لم تحضر آنستنا اليوم . جاءت آنسة أخرى . إنها جميلة جداً . لكنها لاتتحدث إلينا مثل آنستنا السابقة . ولاتنظر في عيوننا مثلها . سألتها أين آنستنا ؟ .. تطلعت نحو الخارج عبر النفذة وقالت .. سوف تعرفون فيما بعد . ثم نظرت إلينا كما كانت تنظر آنستنا وقالت .. أنا أعرف أنكم تحبونها .. وأنا أحبها مثلكم .. كلنا نحبها . وأدارت ظهرها لنا بعض الوقت ، ثم ا ستدارت إلينا وهي تمسح دموعاً بللت خديها وقالت .. ولأننا نحبها .. ونحب ما تحب .. يجب أن ندرس ونتعلم جيداً .. حتى نحصل على ما نحب .. ثم بدأت تلقي علينا الدرس ..
5 - 3 - 2000
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
التعليقات
1 - سلمت يداك يا أبا حميد
الحارث السوري
(
2010 / 5 / 26 - 01:05
)
ستعود العصافير وكل الطيور إلى أوطانها وسيفر الطغاة والقتلة الذين يخشون زقزقة العصافير وشدو البلابل ويطلقون الرصاص عليها ويصدرون أحكامهم العرفية على الصقور منها.. ويدمروا الأغصان وقمم الجبال يخشون نسمات الغوطة وشموخ قاسيون والقلمون فدمروها وبنوا مكانها قطع الإسمنت الكالحة كوجوههم .. وسيجتمع الأحباب ويلتم الشمل من جديد ؟؟ مع التحية
2 - حضرة الكاتب المحترم
قارئة الحوار المتمدن
(
2010 / 5 / 26 - 07:10
)
الورقة الرابعة حلوة جداً , الورقة التاسعة ذكرتني بتلك الليلة السوداء التي لا أستطيع نسيانها , مقالك مفعم بالانسانية ولا أبالغ إن قلت ان كل ورقة شدتني لذكريات حميمة في وطننا المشترك وما كنت تستطيع أن تشد ذكرياتي بهذا الشكل لولا لغتك الرائعة البسيطة العميقة , تحية حارة إليك وأرجو أن أقرأ لك في الأدب كثيراً وشكراً
3 - ابكتني كلماتك والمني الم هاني والم كل هاني
داليا علي
(
2010 / 5 / 26 - 09:20
)
تلاحقت انفاسي مع كل قفزة,, وخمد كل امل وحلم بالنهاية .. اما للقمع من نهاية
شكرا
.. تفاعلكم الحلقة كاملة | حملة هاريس: انتخبونا ولو في السر و فن
.. -أركسترا مزيكا-: احتفاء متجدد بالموسيقى العربية في أوروبا… •
.. هيفاء حسين لـ «الأيام»: فخورة بالتطور الكبير في مهرجان البحر
.. عوام في بحر الكلام | مع جمال بخيت - الشاعر حسن أبو عتمان | ا
.. الرئيس السيسي يشاهد فيلم قصير خلال الجلسة الافتتاحية للمنتدى