الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البحث عن البيت السابع

علي هصيص

2010 / 5 / 26
الادب والفن



كان صيفاً حاراً ذلك الصيف الملتهب بجرح العراق الكبير، إنه صيف عام 1991، الجمهور يحتشد مبكراً في قاعة مجمع النقابات المهنية في إربد، الكل ينتظر الشاعر العراقي الكبير عبدالرزاق عبدالواحد ليخبر عن العراق الخبر اليقين.
كان الهدوء سيد الموقف، الشمس على وشك أن تودع النهار، ذاكرة الحرب والجوع والحصار تجول في خواطر هذا الجمهور الحائر الذي أخذ بصره يزيغ شيئاً فشيئاً، لولا صعود الشاعر المنصة، كان نظره بعيداً، يستشرف الأفق البعيد، ارتقى منصة الشعر، وقف والناس جالسون كأن على رؤوسهم الطير، صعد المنصة ونادى بصوته الجهوري:
أيها الأخوة:

تركت ذرى بغداد شطباً نخيلها
تركت بها نهراً لو الشمس أطبقت
تركت بها أهلي يقيمون زهوهم
ولم توصني بغداد أن أستجيرها
ولكنّ بغداداً، وعذراً لصرفها
مهيباً محياها على الحدثان
على الأرض لم يجفل عن الجريان
على حد سيف ما يزال يماني
على ضيق صدري واحتباس لساني
برت خافقي برياً من الخفقان

تململ الجمهور في جلسته،وصفق طويلاً، وراح عميقاً مع الشاعر إلى بلاد الرافدين ليزور الجميع في تلك الأمسية المهيبة تاريخ الفرات، وأرض حمورابي، وحضارة آشور، وأقاليم بابل، ورحلة جلجامش.
واصل الشاعر قراءته، وواصل الحضور حضوره، وتمكن الشاعر من أسر جمهوره وتملكه، فقد أنشد للعراق وغنى لبغداد وأبدع في رسم ماء دجلة وهو يمشي مجارياً أخاه الفرات.
يا لها من أمسية مرّت بنا ولم تزل تمر بخاطري كلما ذكر دجلة وكلما ذكرت بغداد وذكر العراق. لقد مرت تلك الأمسية ومرت الأيام والسنوات بعدها، ويزداد جرح العراق عمقاً، ويزداد فقره، ويكبر جوعه، وتكثر الخناجر والسهام في مهجته وكبده وقلبه الكبير الذي وسع كل القلوب وما وسعته القلوب.
أظنها سبع أو ثماني سنوات مرت على هذه الأمسية حتى عاد الشاعر ثانية إلى مدينة إربد، عاد وفي جعبته شيء جديد ليقوله ولكن هذا الشيء الجديد –على قلته- كان أكثر تعبيراً من قصائد ودواوين كثيرة لشعراء ماتوا ومات شعرهم قبلهم.
كانت الأمسية في بيت عرار ... وقف الشاعر وقد غابت الشمس وغارت عيناه أكثر من ذي قبل، لكن صوته كان كما هو، آتيا من ألحان بابل وأغاريد نينوى، وقف الشاعر بقامته وأعاد على مسامعنا الأبيات الخمسة السابقة، وكان الجديد في هذه الأمسية أنه أضاف إلى هذه الأبيات الخمسة بيتاً سادساً يقول فيه:
فإن تجدوا أني أجاوز ضفتي فبي حاجة الأنهار للفيضان
فعلا التصفيق، ودخل الجمهور أجواء المكان والزمان، وراح الشاعر يتنقل بنا بين تضاريس الرافدين وتاريخهما الحضاري الكبير، ورحت أتساءل: ألهذا الحد وصل العمق في جرح العراق وجرح بغداد حتى ضجر الشاعر، فتجاوز ضفته واحتاج إلى الفيضان مع الأنهار؟! الشيء الذي حيرني وزاد من قلقي أكثر وأكثر هو أنه عندما تذكرت هاتين الأمسيتين بعد سقوط بغداد، وبعد دخول المحتل إلى العراق، قلت في نفسي: إن الشاعر تجاوز ضفته وما عاد يطيق نفسه ومفاتيح بغداد كانت بأيدي أهلها، لقد ضاق الشاعر ذرعاً وما زال خير العراق لأهله وأبنائه، وما زالت أرض الرافدين لا يمشي عليها إلا أهلها وأحبابها.
أما الآن...
فقد بدلت الدار غير الدار، وجاءت شريعة الغاب لتسرق أول ما تسرق حضارة الرافدين، فدخلت متاحف التاريخ وسرقت حضارة آلاف السنين، وصارت المتاحف هي السجون المأهولة بأهل العراق، ولطخت الشوارع والأزقة والبيوت بدماء العراقيين الطيبين.
أما أنا ...
فما زلت أنتظر الشاعر حين يعود إلى مدينة إربد، لأستمع إليه هذه المرة باهتمام أكبر، إذ ربما استطاع أن يضيف بيتاً سابعاً يعبر فيه عما يجول في نفسه أمام هذه المفارقات العجيبة على أرض الرافدين.
والسؤال الآن:
هل يستطيع هذا الشاعر الكبير أن يأتي ببيت سابع يصف فيه هذه الحال كما استطاع أن يصفها سابقاً.
أعتقد أن الأمر جلل جلل، وأنه أكبر من كل الشعراء، إلا أنني سأظل أنتظر، ولكن الانتظار هذه المرة سيطول... لأن الرحلة هي رحلة البحث عن البيت السابع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعديل
علي هصيص ( 2010 / 5 / 27 - 06:13 )
شكرا للحوار المتمدن وأرجو تعديل الأبيات الشعرية كالآتي:
تركت ذرى بغداد شطباً نخيلها مهيباً محياها على الحدثان
تركت بها نهراً لو الشمس أطبقت على الأرض لم يجفل عن الجريان
تركت بها أهلي يقيمون زهوهم على حد سيف ما يزال يماني
ولم توصني بغداد أن أستجيرها على ضيق صدري واحتباس لساني
ولكنّ بغداداً، وعذراً لصرفها برت خافقي برياً من الخفقان




اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل