الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفرانكفونية: إيديولوجية استعمارية في عهد ما بعد الكولونيالية - الاستعمار الثقافي كبديل للاستعمار العسكري ( تتمة ) -3 -

إدريس جنداري
كاتب و باحث أكاديمي

(Driss Jandari)

2010 / 5 / 26
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


- 3 -
( .. ) من هذا المنظور انبرت النخبة الفرانكفونية للدفاع عن الاستعمار الجديد؛ و لو أدى الأمر بأحد رواد التيار الفرانكفوني في لبنان؛ إلى محاولة تبرير الحملة الاستعمارية الوحشية؛ التي قادها نابليون على مصر؛ و في هذا الصدد يقول (غسان تويني) الوزير و السفير اللبناني الأسبق؛ مخاطبا جمهوره؛ في أعمال ندوة (الفرانكفونية و العالم العربي : حوار الثقافات ) : " وأتذكر هنا على الخصوص فصلا ربما كان من أحلك الفصول وأغناها أيضا في تاريخ الحقبة التي تهمنا : وأقصد حملة نابليون على مصر. فهذه الحملة التي قلما تدرس من زاوية الحوار قد اكتسبت زخما وجوديا استمر بعد طي صفحة العنف وما صاحبه من القتل والدمار والاضطهاد، ليصبح مصدرا رائعا للاكتشافات المتبادلة، وبالتالي مصدرا لحوار بين الثقافات بأوسع معانيه، أي ذلك الحوار التي يتعدى نطاق التفكير النظري المجرد ليساهم في تغيير العادات والأفكار" . (1)
إن الحملة العسكرية؛ التي قدها نابليون على المشرق العربي –في نظر تويني- لا تعد استعمارا و حشيا؛ بهدف السيطرة على الموارد الطبيعية؛ لدفع عجلة الرأسمالية؛ كما لا تعد أيضا –من نظر تويني دائما- استمرارا للحملة الصليبية؛ التي كانت تسعى إلى قلب التوازنات الثقافية و الدينية السائدة . بل على العكس من ذلك؛ تعتبر هذه الحملة الاستعمارية (مصدرا رائعا للاكتشافات المتبادلة )؛ كما تعتبر ( مصدرا لحوار بين الثقافات ) . لكن المسكوت عنه في كلام (تويني) هو ما يعلن عن نفسه آخر الكلام؛ و لو خرج من دون قصد .
إن الهدف الحقيقي لهذه الحملة هو ( المساهمة في تغيير العادات و الأفكار). و هذا ما يناقض كل معاني الحوار و الاكتشافات المتبادلة؛ التي يعلن عنها (تويني) بداية المقتطف! إن الهدف الحقيقي – إذن- هو قلب التوازنات الثقافية و الدينية؛ المرتبطة بالامتداد الحضاري العربي الإسلامي – بالإضافة إلى الاستغلال الاقتصادي- و في المقابل زرع البذور الأولى لاستعمار ثقافي فرانكفوني؛ سيمتد ليعم كل منطقة الشام في المشرق العربي؛ كما سيعم منطقة المغرب العربي؛ عبر الحملة الاستعمارية على: المغرب و تونس و الجزائر؛ و التي اعتبرت في نظر الكثير من أشباه (تويني) حملة حضارية بامتياز؛ الهدف من ورائها تحقيق التواصل الحضاري؛ و الاكتشافات المتبادلة... و هلم جرا؛ من مثل هذه الفرقعات الإيديولوجية؛ التي تنفضح عند أبسط قراءة فاحصة .
لقد أجهضت الحركة الفرانكفونية كل النضالات التي خاضتها الشعوب العربية مشرقا و مغربا؛ بهدف التحرر من ربقة الاستعمار الفرنسي؛ الذي حول الجزائر إلى مقاطعة تابعة لفرنسا؛ و حول المغرب إلى مستوطنة كبرى و منجم لا ينضب من المواد الأولية؛ المساعدة على دفع الحركة الرأسمالية في فرنسا؛ و نفس المصير كان لتونس. أما في المشرق العربي فقد دشنت حملة نابليون لانتداب فرنسي؛ سيعم كل منطقة الشام؛ و سيحولها إلى امتداد اقتصادي و سياسي و ثقافي و لغوي تابع للمترو بول . و هذا ما يلخصه وزيرنا و سفيرنا السابق السيد (غسان تويني) في مداخلته السابقة: " (..) كل ذلك (يعني النضال ضد المستعمر) لم يمنعنا من البقاء في حظيرة الفرانكفونية. فنحن كنا نحارب فرنسا؛ ولكن الحوار الثقافي مع الفرانكفونية متواصل في المدارس والجامعات؛ وعبر الصحافة؛ ومن خلال الآداب والفنون خاصة." (2)
و قد كانت فرنسا على وعي تام بالدور الخطير؛ الذي تقوم به اللغة و الثقافة في تعويض الاستعمار العسكري؛ الذي أجهض على يد المقاومة؛ سواء في المشرق العربي أو في المغرب. لذلك فقد كان التوجه واضحا إلى دعم النخبة الثقافية؛ عبر توفير جميع الوسائل اللوجستية الداعمة للحضور الفرانكفوني . و قد مر هذا الدعم من خلال ما كانت توفره –و ما تزال- الوكالة الدولية للفرانكفونية؛ لمستعمرات فرنسا السابقة؛ سواء تعلق الأمر بإنتاج المناهج الدراسية؛ في علاقة بوزارات التربية و التعليم؛ أو تعلق الأمر بدعم الكتب الموجهة للشباب؛ و كذلك عبر الدعم الوفير في مجال النشر وفي مجال المساعدة للنهوض بالصحافة والإنتاج السينمائي . و كلها أشكال متعددة لدعم الحضور الثقافي و اللغوي الفرانكفوني في الدول و المجتمعات العربية .
و قد كان هذا الدعم يمر عبر مجموعة من المؤسسات؛ نذكر منها: صندوق الاستثمار في مجال الصناعات الثقافية" و"صندوق المساعدة للنشر" و"صندوق دعم الصحافة المكتوبة لبلدان الجنوب" و"الصندوق الفرانكفوني للإنتاج المرئي والمسموع" إضافة إلى "الصندوق الفرانكفوني للطرق السريعة للمعلومات ... (3)
و قد أدى هذا التأطير و هذا الدعم السخي –في الحقيقة- دوره بامتياز؛ و استطاعت فرنسا أن تحقق هدفها الرئيسي؛ و هو منح مستعمراتها استقلالا شكليا بلا روح ؛ مع استمرارية ارتباط الشعوب المستعمرة (بفتح الميم) وجدانيا و ثقافيا و لغويا بالمتروبول. و هذا ما كانت تعبر عنه النخبة المثقفة الحاملة لمشروع الفرانكفونية؛ حيث كان يصل بها الوجد و الاتحاد إلى درجات صوفية؛ و هي تعبر عن ارتباطها الوجداني العميق بالمستعمر الفرنسي؛ الذي تسوق صورته بوجه حضاري زائف .
و قد كـان من ألـمع هـؤلاء المثـقفين (شـكري غـانم) الذي كان ينشر مقالاته في Le Journal des Débats (صحيفة الحوار)، و كان كاتبا روائيا ومسرحيا وسياسيا في الوقت نفسه، واشتهر على الخصوص بمسرحيته الغنائية "عنتر" التي أدتها فرقة من الممثلين والمغنين الفرنسيين في مسرح Odon منذ سنة 1910.
وكتب غانم سنة 1918 في صحيفة Correspondance d’Orient التي كان أحد مديريها إلى جانب جورج سامني يقول : " ألم يحن الوقت ونحن نعيش لحظة من أمجد اللحظات، لنعانق الروح الفرنسية وتتوحد فيها جميع أجناسنا، ألم يحن الوقت لنرتقي إلى مستواها، ونعلن شوقنا وإعجابنا وتقديرنا وإخلاصنا الذي لا يتزعزع للأمة التي بذل أبناؤها بسخاء دماءهم فدية للعالم ؟ " (4)
إنها صورة وجدانية رائقة من احد أبناء العروبة؛ تعبر عن قمة الوجد الذي وصلت إليه النخبة الفرانكفونية؛ في علاقتها بالمستعمر؛ و هذا الوجد –في الحقيقة- لا يمكن استيعابه إلا من خلال شبكة المصالح التي نسجتها هذه النخبة مع المستعمر؛ و لذلك فهي غير قادرة على التضحية بهذه المصالح في سبيل تحقيق استقلال تاريخي شامل لأوطانها.
و بهدف المحافظة على هذه الشبكة من المصالح؛ بذلت هذه النخبة المؤدلجة مجهودات جبارة؛ في سبيل التسويق للنموذج الاستعماري؛ من منظور استشرافي فج؛ يعتبر أن الحضارة الأوربية (الفرنسية من المنظور الفرانكفوني) هي منتهى ما وصل إليه الإنسان؛ لذلك فلا بديل عن هذه الحضارة؛ لأن البديل هو حضارة (الشرق الرخيص)؛ كما روج المستشرقون و أتباعهم من الفرانكفونيين العرب .
لذلك فإن النخبة الفرانكفونية تحلم باستعمار جديد يعوض الاستعمار المدحور؛ و هذا الاستعمار هو من جنس الاستعمار الأوربي للقرن التاسع عشر؛ و الذي حول منطقة البحر الأبيض المتوسط إلى امتداد أوربي (فرانكفوني بشكل خاص)؛ بل إن بعضهم يحلم باستعمار أكثر عمقا و تجذرا؛ و يفوق في قوته الحركة الاستعمارية الرأسمالية الحديثة . إن مستقبل العالم العربي المتوسطي – حسب السفير و الوزير اللبناني الأسبق- يكمن في اكتشاف "روح هيلينية" جديدة؛ والوصول إلى مثل أعلى كوني الأفق، وهو مطمح لا يمكن أن يتحقق؛ في ظل هذه النزعة العالمية التي تريد أن تبتلعنا، إلا من خلال الفرانكفونية. (5)
و هذه الروح الهيلينية (أو الهيلينيستية) التي يحلم (تويني) بعودتها إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط؛ ترتبط بالحقبة الهلينيستية (وهي مستمدة من كلمة هيلين وهي الاسم العرقي الذي يطلقه اليونانيون على أنفسهم) و هي فترة متأخرة من الحضارة الإغريقية، وتمتد منذ أوائل القرن الرابع قبل الميلاد وحتى القرن الخامس الميلادي. وفى هذه الحقبة هيمنت الثقافة الإغريقية على جميع بلدان البحر المتوسط ؛ حيث كانت اليونانية هي لغة المهيمن و المسيطر الإغريقي؛ التي فرضها على الشعوب المستعمرة؛ كلغة للحضارة و العلم . و خلال هذه المرحلة سيطر اليونان على كل منطقة البحر الأبيض المتوسط ؛ حيث تشكلت إمبراطورية الاسكندر؛ و التي شملت بلاد اليونان والممالك الشرقية؛ بعد غزو الاسكندر لها.
ماذا بعد هذا الاستلاب الإيديولوجي؛ الذي يعبر عن نفسه بشكل فج يصل إلى مستوى أخطر مما نظر له المستشرقون و منظرو الحركة الاستعمارية أنفسهم ؟!
ألا يمكن الجزم بأن الفرانكفونية في العالم العربي؛ مشرقا و مغربا؛ هي أخطر ما تواجهه الشعوب العربية؛ لتحقيق استقلالها التاريخي المنشود ؟
هل حققت الشعوب العربية استقلالها –حقا- من خلال التضحية بملايين الشهداء؛ أم إن الخطر الاستعماري ما يزال جاثما؛ مستعدا للانقضاض في كل لحظة؟
و من هذا المنظور هل يمكننا –كشعوب عربية- أن نستسلم للواقع؛ و نقنع من هذا الاستقلال بالفتات الذي يمنحه المستعمر؛ أم إن الجهاد الأصغر انتهى؛ و يجب أن نظل في معركة الجهاد الأكبر (بلغة المجاهد الأكبر محمد الخامس رحمه الله) و هو جهاد أخطر من سابقه؛ لأن هدفه يتجاوز إنهاء الاستعمار العسكري؛ إلى إنهاء الاستعمار الحضاري؛ الممارس علينا؛ اقتصاديا و سياسيا و ثقافيا و لغويا ... ؟
إن مسؤوليتنا؛ كجيل جديد هي في الحقيقة أخطر من تلك المسؤولية التي تحملها الجيل السابق؛ الذي ناضل بجميع الوسائل لطرد الاستعمار العسكري؛ و مسؤوليتنا الآن تتجلى في تحقيق استقلال تاريخي شامل؛ عبر تحقيق حلم وحدة الأمة العربية مشرقا و مغربا؛ كأمة موحدة؛ تمتلك خصوصيتها الحضارية؛ و منفتحة في الآن نفسه على كل العالم؛ من منظور تحرري؛ لا مجال فيه للخضوع لأية قوة كانت؛ فرانكفونية أو أنكلوساكسونية ...


الهوامش:
1 - غسان تويني- أعمال ندوة الفرانكفونية و العالم العربي : حوار الثقافات أعمال الندوة التي نظمتها جامعة الدول العربية والمنظمة الدولية للفرانكفونية ومعهد العالم العربي بباريس، 31-30 مايو / أيار 2000 - إصدار الإيسيسكو .
2 - غسان تويني – المرجع السابق
3- مداخلة السيد ستيليو فرنجيس الأمين العام للمجلس الأعلى للفرانكفونية: "العربفونية"، واقع ومشروع " – أعمال ندوة: الفرانكفونية و العالم العربي – المرجع السابق
4 - شكري غانم – أنظر: غسان تويني – المرجع السابق .
5 - غسان تويني – المرجع السابق








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تجارة بائرة !
ادريس ( 2010 / 5 / 27 - 19:17 )
دائما في اطار كشف نفاق وازدواجية المعايير لذى العروبيين..
اليك بعض الردود على بعض المنكرات التي جاءت في مقالتك :
جاء في احدى منكراتك :لقد أجهضت الحركة الفرانكفونية كل النضالات التي خاضتها الشعوب العربية مشرقا و مغربا؛ بهدف التحرر من ربقة الاستعمار الفرنسي..
يعني كل ذلك النضال يا سيد جنداري وكل تلك التضحيات التي قدمها الامازيغ في المغرب لدحر الاستعمار انكرتها في بضع كلمات واهديتها للشعب ( العربي ) !!! ..لقد جئت قولا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الارض
تقول :إنها صورة وجدانية رائقة من احد أبناء العروبة؛تعبر عن قمة الوجد الذي وصلت إليه النخبة الفرانكفونية؛ في علاقتها بالمستعمر..
اطمئنك يا سيد جنداري ،فلعلك ستجد بعض العزاء والمواساة في بعض الامازيغ الذين يعبرون عن ارتباطهم الوجداني العميق بالعروبية ، وذلك بتقديمهم لسانهم الامازيغي قربانا يتقربون به لاله العرب الجديد ( العروبة ). حيث يقول الجابري وبكل سادية (يجب اماتة تلك اللهجات البربرية في المغرب) ،وكذلك يصرح كبير الاسلاماويين المغاربة عبد السلام ياسين ( مال هذه الامازيغية تريد ان تناطح سيدتها العربية) ..


2 - تجارة بائرة(تابع)..
ادريس ( 2010 / 5 / 27 - 20:13 )
تناولت في مقالاتك الثلاثة الاخيرة ما اسميته ( الايديولوجية الفرانكفونية الاستعمارية ) . وهنا يستوقفني مصطلح ( الفرانكفونية ) اي ( الناطقة بالفرنسية ) فمهما تكن هذه الايديولوجية تسعى الى الهيمنة و تكريس التبعية الثقافية والاقتصادية في استراتيجية كما قلت لترسيخ مصالحها..فلا اعتقد ان ذنبها يساوي شيئا امام ذنب (العروبية).على الاقل الفرانكفونية تقف في اسمها عند حدود اللسان ولم تسلب ولم تصادر نسب الشعوب التي استعمرتها ، على العكس من الايديولوجية العروبية التي لم تكتفي بتغيير لسان الشعوب التي جثمت فوق صدورها بل غيرت نسبها الى العروبة..
الفرانكفونية في (العالم العربي) ليست هي اخطر ماتواجهه الشعوب(العربية)،بل الاخطر منها هي القومجية العروبية التي تريد ان تلغي جزءا من مكونات تلك الدول وبذلك تعمل على تهديد وحدتها.
المغرب للمغاربة،امازيغ وعرب ،هذه هي الاولوية وليس العروبة.اما ما تتمناه من (تحقيق حلم وحدة الأمة العربية مشرقا و مغرب)عبر تحقيق حلم وحدة الأمة العربية مشرقا و مغربا عبر تحقيق حلم وحدة الأمة العربية مشرقا و مغربا،فاقول لك : اضغاث احلام!
بضاعتك تعاني الكساد..
شكرا

اخر الافلام

.. تعرف على تفاصيل كمين جباليا الذي أعلنت القسام فيه عن قتل وأس


.. قراءة عسكرية.. منظمة إسرائيلية تكشف عن أن عدد جرحى الاحتلال




.. المتحدث العسكري باسم أنصار الله: العمليات حققت أهدافها وكانت


.. ماذا تعرف عن طائرة -هرميس 900- التي أعلن حزب الله إسقاطها




.. استهداف قوات الاحتلال بعبوة ناسفة محلية الصنع في مخيم بلاطة