الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليلة الثلاثاء

حمودي عبد محسن

2010 / 5 / 27
الادب والفن


ليلة الثلاثاء
لقد أظلمت غرفتي تماما بعد أن أطفئت النور ، واستلقيت في سريري لأتحد مع عتمة دامسة اعتدت عليها ، واعتدت على صمت مطبق ، خانقا كل شيء ، تعجبت لهذا السكون من حولي ، سكون عميق غامض ، فقد أحسست بانفصالي عن ذاتي ، واغترابي في هذا الكون ، وأنا أغمض عيني ، وأفتحهما ، واستذكر ليالي حميمة ، وأياما قد تغير محتواها ، فلم أشعر بميلي إلى النوم الآن ، لقد تغيرت ، وتغير العالم ، إذ أن ليلة هذا اليوم يبدو أنها لا تشبه الليالي الأخر ، يبدو أنها طويلة جدا ، وهادئة تماما ، أنها تمضي ببطء شديد كاسحة كل الليالي ، خاصة بعد أن تغضنت أخاديد في جبيني ، وتغيرت قسمات وجهي ، حينئذ انبجست الدموع من تحت أجفاني لتهدهد مخدتي البيضاء المطرزة بورود حمراء ، وكذلك تهدهد كل الليالي التي انطوت في سعيها وراء آفاق ملونة فاتنة التي بالكاد اتسعت لي ، واتسعت لتوقي إلى أفق بعيد ، إذ تلوح لي لحد الآن بقايا انفجار مرح لقبلة خجلة على فمي ، يا لها من قبلة أنيقة رائعة في طرفة عين ، في صيف سويدي ، في محطة باص ! ذلك كان قبل أعوام طويلة ، زينتني بعقد أخضر خصب ضد كل أنواع الأشواك ، والأدغال ، زينتني قبلة سريعة نموذجية احتذيت بها ، ذات لغة شاعرية مناصرة للحياة ، ذات سمات جمالية طفولية لامرأة ، أضفت البعد الناضج من ثنايا رموشها السوداء التي تراقصت عفوية في مزاج روحي لا ينضب ، حينها كدت أنسى في أي بقعة من الأرض أقف ، وأنا أحدق بثبات إلى الأسفل ، وأقرأ اللحظة المستحيلة ، الأزلية ، مستغرقا في السكون أشبه بسكون حلم لا يزول ، مستغرقا في طيف وديع بقدر من الارتياح ، ثم جاء صوتها المرتعش الذي خمد على صدري : أنا أحبك . بعدئذ طالت ابتسامة سخية جريئة على شفتيها ، وأنا انغمس حينها في تعابير وجهها حينما نطقت ، لأكون صامتا من الدهشة ، أجل ، التزم الصمت في بعد منير ، في ألوان وجهها المضيئة الفاتحة ، في نظراتها ذات التعبير الهادئ كأنها نظرات منذ الأزل ، وستظل كذلك إلى الأبد ، فعيناها فيهما من الفرح ما يكفي للبشرية كلها ، فيهما ما يشبه التصميم على الحب ، فيهما تلقائية من دون أن تكلف الروح قسط عبأ ، أما الشفتان فراحتا ترتجفان بصرامة مدهشة لتلبساني رداء السعادة . طال صمتي لأسكن ظلال عصور عظيمة قديمة بسطت أجنحتها من قلب الحب التي لا يفصلني عنها شيء ، ووجهي يشي احمرارا بنفوذ غياب كبير لتلك العصور كي أرتل توهجي وأرتل الكلمات بنعومة وبطء ، وأترك فمي يقول : أنا أيضا أحبك .
لم نتبادل خاتمي العرس في حفل أو مهرجان ، ولم نقع في غواية الشتاء البارد ، وخديعة الصمت التام ، بل سبرنا أغوار الحب في تكتم تام ، حتى أن سحره وصفاءه بارك دموعنا ، وشغف عناقنا في طقوس معتادة ، في ليل أو نهار ، حتى إذا جاء القيظ اكتمل في دفء جسدينا ، لذلك كنا نجوب بانتشاء سواحل بحار ، وبلدان ومدن تعود لسلالة نبلاء ، وأمكنة منظورة تزهو بالمياه والخضرة ، وحدائق تفيض برائحة الزهور ، وذات ليلة ثلاثاء في صيف منعش في جزيرة النخيل من جزر الكناري تسلل نسيم البحر إلى خلوتنا ، وتسلل ضوء القمر الساطع البهي الذي أضاء جسدينا ، وكون ظلالا عليهما ، فلبثنا رهينة القمر ، رهينة طغيان ضوءه ، لقد كانت تلك الليلة شيء آخر ، فأخذنا نعوم في الضوء ، ونسبح به ، شعرنا بأننا متعلقان به ، ومتعلقان ببعضنا ، وفي لحظة حاسمة أصغيت إلى كلمات محبوبتي الحسنة :
- هذه الليلة حلوة ، وجميلة .
حينها أغمضت عيني ، ورددت مع نفسي :
- ليلة حلوة ، وجميلة .
ثم أدرت وجهي إلى الزمن ، وجدته يمضي ، كما هو عليه ، عندئذ أقبلت بوجهي إلى ضوء القمر ، ورحت أحلم ببلادي : سطوة سيف جلاد ، برك دماء تفيض رائحتها في لظى امتعاض ، وغواية سلطة ومناصب ورتب ، وزيف مال في خفي خداع .

الآن ، يمر علي حلم متاهة في لمحة واحدة ، أرى التاريخ كله وما اندثر منه وما ولد منه ، أراه في لحظة مدهشة تلخص الأزلية وبداية الخلق والمصير النهائي ، إذن سوف أنام في هذه ليلة الثلاثاء ، وسوف أواصل الحلم في ليلة الأربعاء ، وما تليها من ليالي تراتبية ، وستكون أحلامي متشبعة ومتوحدة ، قد أرى نفسي في السماء ، قد أرى جلجامش وصديقه أنكيدو يصارعان ثور السماء وينقذان العراق ، قد أرى أسدا يعبث في غرفتي وينقذ علي ويسفك دماء . لا ، ها أنا أعانق ظل محبوبتي في ليلة الثلاثاء ، إذن لا أريد أن أرى حلما مشوشا ضعيفا يصيبني بالخوف ، يحطم ليلتي ، وينهضني هلعا من سطوة سيف جلاد ، أراه داكنا وحادا يقطر دما فوق مجرى الفرات – أنه الكابوس – الكابوس الذي ينهض النيام من نومهم في هلع رهيب ، دقات رعب على باب الدار ، سيف الجلاد في انتظار . نهضت من سريري نهوض خارق ، وأنا أقف في ظلام غرفتي ، إذ صرت في ضرب الخيال ليس مع سيف الجلاد ، بل في ضرب الحب الذي لم يخمد ، وقد قيد بالسلاسل منذ قديم الزمان ، لم يمت ، أنه حي ، أنه ينبثق في صيرورة جديدة بعد كل هذه الأعوام ، أنه يظهر من تحت أعماق ليلة الثلاثاء تلك ، ومن مخابئ كينونتي ، أنه مميز يطفو فوق السطح بعد أن خرج من الأعماق ، لذل رحت أتنغم بالكلمات : آه ، الحلم شيء محير ، يضرب في الخيال . فأخذت أردد :
- ليلة حلوة ، وجميلة ، ليلة الثلاثاء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد


.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي


.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض




.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل