الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شفير الهاوية [الجزء 2]

رويدة سالم

2010 / 5 / 28
الادب والفن


أبدى قيصر تبرّمه من شرودي فوضعت أمامهما ما وصلني حديثا من كتب. أخذ طالب الفلسفة يتصفحها. إختار بعضها و سلَّمني المال ثم دفع نور أمامه و خرج.
في تلك اللحظة, دخلت هند ضاحكة.
جاءت لتحدّثُني عن العرس و جمال العروس.
هند ذات الأثنتين و عشرين ربيعاً. طالبة بكلية العلوم. عنصر فاعل في إتحاد الطلبة. تُناقِش بجرأة و تُطالب بالحقوق الطلابية بوقاحة. لا تخشى العقاب. تتحدى الكل و تفرض رأيها و تُسمِع كلمتها لكل متعنِّتٍ رافض.
هي أيضا جميلة مكتنزة الجسد و حلوة الملامح تفيضُ أنوثةً. شعرها أسود طويل و ثائر. عيونها عسلية حالمة. صوتها عذبٌ غَنوج ، يُطربني اذا غَـنَّتْ. تُحسِنُ العزف على العود. تتفجّر حيويةً و نشاطاً... تُحسِنُ (ككل الشابات في سنها) كل فنون الإثارة. تَعِدُ بوصلٍ لا تمنحهُ. تُعَلِّقُ القلوب بها ثم تمضي ساخرةً مستهترة بعذاب الآخرين. عجبتُ من عدم إكتراثها لما يقوله الناس حول سلوكِها. كانت تستمتع بكل ذالك العبث. أعرف روحها المعذبة و الثائرة و أثقُ بها كثيراً و أحتاج وجودها. حلمْتُ دوماً ان تكون لي أخت و رفيقة. و مع الايام صارت هند الاثنتين معاً. تعلَّقَتْ بي ... كنتُ بصمتي الوحيدة التي لم تُدِنها و التي تفهَّمَتْ ما تمر به فتاة بظروفها و ماضيها.
معها صرتُ أسمع الموسيقى الصاخبة و استمتع بصدى ضحكاتها الرنانة و أنا أُحاول ان أتمايل مع الأيقاع مثلها عندما تعلمني الرقص.
أُعجِبْتُ كثيراً بطلاقة لسانِها و جرأتها. قالت انها تبحث عن سكن فدعوتها للإقامةِ معي. قبَّلتْني و في الغد كانت تقف ببابي. بعثَتْ الحياة بذالك البيت الذي تعوَّدَ السكون. لم نكُن , انا و ابي, نتكلم حتى. إعتدنا ان نقضي امسياتنا نتصفح المجلات او نقرأ. كان يهرب من مواجهة إعاقتي و عجزه عن مساعدتي الى المطالعة. ككل الآباء حَلُمَ ان تُسعد وحيدتُهُ و أن يلعب أحفاده في حضنِه. ومع بقاء بابي موصدا إستسلمَ لإحباطِهِ و تعوَّدَ الصمت مثلي.
بعد رحيله عشت في وحدة و عزلة. إخترتُهُما طواعيةً لأن رحيله ثم رحيل "الحبيب" الذي سكنني منذ تيقَّـظتْ مشاعري حطَّم كل آمالي و أحلامي الأثيرة والكبيره.
ذالك اليوم, طرقَتْ الباب بعنف فقمتُ مسرعة. قلتُ لنفسي
- يا لها من فتاة غريبة الأطوار.. نسيَتْ مفتاحَها كالعادة.
كان برفقتِها زميلُها نوفل. كان يبدو متأثراً بما يحدث. تركَتْـنا واقفَيْن و دخلَت مباشرةً إلى غرفتِها باكية و أغلقتْ الباب بعنف.. كانت في حالة مُزرية فلم تقبِّلني كعادتها بل لم ترد على تحيَّتي. بعد برهة سمعتها نشجها المرتفع.
دعوتُهُ للجلوس مُعتذرة عمّا فعلتْهُ رفيقتي فإبتسم وحين لاحظ حيرتي قال :
- أنه الماضي الذي حطّم هند طفلة و شابة في ثوب جديد. ساعديها إنها تحتاجُكِ.
نوفل أكثر أنوثة من أغلب الفتيات : صوته و مشيته و حركات يديه. حتى أحاديثه و إهتماماته. يعرف أخبار الموضة و آخر الإبتكارات. هو من صفف شعر زميلاته و من وضعَ الماكياج ليلة عرس ليال. لكنَّهُ شاب مؤدب جداً.
حاول قيصر طالب الفلسفة الفظ الاعتداء عليه ذات ليلة. لكنه ضربهُ و دفعهُ فوقع أرضاً و قُطِع جزء من لسانه. سعدتُ عندما حدث لذلك الهمجي الذي يسرق كتبي و يتهمني كذباً بالافتراء عليه. و فرحتُ أيضا لأن عالمي إزداد فرداً آخر محكوماً بالصمتْ.
تركته بالمطبخ يُعِـدُّ القهوة و فتحتُ باب غرفتها و اقتربتُ منها. كانت ممددة على السرير. عيناها مُغْـمَضتان و دموعها لازالت تسيل بصمت. قالت بصوتٍ متقطّع :
- نورة حامل منذ أربعة أشهر. يجب أن نُساعدها. لن نظلم كائنا بريئا بسبب أخطاء لا مسؤوله.
- تعلمين يا عزيزتي أن الإجهاض جريمة إنسانية. ثم ليس من حقي التدخل كما انه عليها تحمّل مسؤولية خطأها. ماذا لو ساعدتها و أعادت ذات الخطأ مرة أخرى.
- لو كانت ليال لما طلبت مساعدة أبداً. لكن نورة مسكينة تُسيء التصرف لأنها عاطفية جداً. ثم ما ذنب الطفل الذي سيحمل عاراً لا ذنب لهُ فيه حيثما حلَّ ؟
في غمرة حزنها لم تفهمُني. قالت بأني خذلتُها و اني كغيري ممن يُسيء التصرف و يقوم بذات الأخطاء لكننا نَجِدُ الحلول و نَمْحُوا كل ما هو سلبي بحياتِنا ثم نُحاسب البسطاء إذا أخطئوا. همستُ بألَم :
- المسكينة هند ... جَنَتْ عليّها أمّها بدون ذنب.
هند هذه الباكية الكسيرة تبدو أحيانا عابثة, سليطة اللسان و جريئة حد الوقاحة. تتكلم بكل المواضيع بطلاقة. تتحدث عن الجسد و اللذة و المتعة دون حياء. في داخلها رغبة مُلِحّة للانتقام من الجميع و من كل شيء. ظنَّ الكل أنها سهلة المنال و أن لها علاقات سريّة.
لَكَمْ وعدت بوصلٍ لم تمنحه و لكم عبِثَتْ بقلوبٍ و سَـخِرَت من عذاب الهوى الذي تفنَّنت في تقديمه لعشّاقِها.
أخبرني نوفل أنه أُغرِمَ بها حد الجنون و أنه كان مستعداً لفعل المستحيل لأجلها وبعد يأسه منها صار الأخ الذي يحميها و يقف إلى جانبها دوماً.
بعد أن مرّت السحابة التي كدَّرت صفوها و عاد لها إشراقُها جلسنا ثلاثتنا نتسامر في الحديقة.
تحدثنا عن ذكريات رسمت ماضينا.
أبو نوفل رجل سيء بكل المقاييس. لطالما أهان الأم أمام أبنائها. عنفها دائماً حتّى سقمت و اشتدَّ بها المرض قبل موتها. رحيلها جعل الإخوه يفترقون إلى الأبد. كم تمنّى نوفل رحيلهُ .. لكن الشر تمسَّك بالحياة و رحلت الزهرة الوحيدة التي منحتْهُ و أخواته الحب و الحماية.

في حين أنا, لم أعرف أمي. بعد رحيلها, أبي لم يتزوج غيرها. ربما كان وفاءاً أو ربما حباً من نوع آخر. حاول أن يكون أباً صالحاً لكنه فشل. أحببتَهُ كما أحبَّـني كثيراً لكن الصمت سجننا في زنزانتين انفراديتين إلى ان رحل. لم يكن يحتضنني حين أمرض .. و كنت أرى بعينيه دموعاً تلمع. كان متفانياً لكنه لم يوفَّق في إسعادي.

كانت معاناة هند مختلفة. وجدَت نفسها بملجأ للأيتام دون عائلة او أسم .
"أبنة زِنا" كان اللقب الذي يمنحها إياه كل من يراها.
كان السَـوْط الذي تُجلَد به في كل مكان تقصده. في سن السادسة او السابعة تبنّاها زوجان و واعدا بالرحمة و الحب. عندما رُزِقا بطفلٍ صارت الطفلة المُتبناة الخادمة ابنة الملجأ.
صرخَتْ في سكون الليل
- ما ذنبي ؟؟
لم يَرحمها أحد. و كان البيت البارد أرحم من الشارع .
كبرت الخادمة ابنة الملجأ و برزَت بجسدِها تشكيلات مُثيرة لأنوثةٍ صارخة.
شعرت بسطوة ذاك الجمال الوليد فإنتقمَتْ من الكُل.
- أتعلمان أني أغويتُهُ قبل أي رجل آخر. أهانني و زوجته بعد وعود وردية كبيرة. أُمرتُ أن أنسى كلمتي "بابا" و "ماما" ففعلت. أُمرتُ أَلّا أجلس إلى الطاولة ففعلت. قصَّ شعري لأبدو كولـدٍ مشوَّه فقبلت. لكني كنتُ دوماً إبنة الزِنا. أغويتُهُ حين اكتشفتُ أني صرت أجمل. فتنَهُ جسدي الغض وصدري الثائر و بشرتي النديّة. طلبتُ منه مهراً لودّي و وصالي. قبل المغفَّل المتصابي. كان إعترافه السلاح الذي حطَّمتُ به أركان البيت قبل رحيلي.
- آهٍ ... ما اجمل العم سليم وما ألطفه .. كان يختزن كل حب الآلهه بقلبه الطيّب الرحيم....
العم سليم مدرس العربي بالمعهد الذي درستُ به كان الوحيد الرحيم بي إنّـهُ أبي الروحي. منحني كل المال الكافي لإنهاء دراستي بكرامةٍ و شرَف. لكم واساني و قال انه سيكون لي شأن. شجَّعني و دعمني في أحلك فترات حياتي. كان دوماً أباً حقيقيا.لازلت احتفظ بشعر كتبه لأجلي. ما أروع ما كتب ذاك الإنسان الفاضل :

سأواصل الصراع لأُثبتُ للكل أني إنسان. إنسان مسؤول عن أخطائه و عما يفعله هو لا عن أخطاء الآخرين. أخطاء لا ذنب له فيها. أتفهمان الآن لماذا يجب أن تُجهَض "نورة" ؟؟؟
كثيرون يعانون دونما ذنب فهل من العدل أن نضيف مُعذَّباً آخر في هذا المجتمع الذي يرتدي ثوب التقوى في حين يستقر في هوة سحيقة من المجون و الكبت ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. الفنان محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان في رسالة صو


.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق




.. جولة في عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2024 | يوروماكس


.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم




.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب