الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محاكم التفتيش الجديدة والثقافة الاعتباطية.1-

رائد الدبس

2010 / 5 / 29
مواضيع وابحاث سياسية



محاكم التفتيش الجديدة والثقافة الاعتباطية.1- رائد الدبس.
تحت عناوين مثيرة جداً من قبيل: "محمود درويش، فدوى طوقان، وأحلام مستغانمي خَوَنة" ..و"محمود درويش روّجَ للسلام مع القَتَلة".. ومحمود درويش نصفه يهودي ونصفه فلسطيني. و"غادا فؤاد السمان تحاكم قامات إبداعية كبيرة" ... انتشرت مؤخراً عبر بعض المواقع والصحف العربية مقابلات مع الصحفية والشاعرة غادا فؤاد السمّان، تتحدث فيها عن كتابها "إسرائيليات بأقلام عربية" وتطرح وتشرح مواقفها عمّا أسْمتهُ كشف المستور في مسيرة حياة وإبداع هذه الأسماء الثلاثة وانبهارهم وتماهيهم مع الشخصية اليهودية وانكسارهم وانبطاحهم أمامها والتطبيع معها، وهو الأمر الذي شكّل الجسر الأساسي لعبورهم نحو الشُّهْرة وغير ذلك من الاتهامات والأحكام الخطيرة المطلَقَة على عواهنها جزافاً على طريقة محاكم التفتيش في القرون الوسطى. وبلغة تتحدث عن نفسها وتكشف عن مكنوناتها من حيث المفردات والمصطلحات المستخدمة من قبيل: الخيانة ، التماهي مع المستعمر، الانبهار بالعدو، وقاحة الداخل، المرور عبر اللوبي الصهيوني إلى العالمية، تشريع محاكمة هذه الرموز الثقافية، التصويب على الرأس كي تتراجع الأذناب والى آخر ذلك... وبداية قبل البداية لا بدّ من التنويه أن القائلة ليست الكاتبة والأديبة المعروفة غادة السمّان، بل الصحفية والشاعرة غادا فؤاد السمّان، وهذا التشابه بالأسماء تَطلّب واقتضى التنويه.
بدايةً كنتُ أتساءل: لماذا اختيار هذه الأسماء الثلاثة تحديداً ووضعها ضمن مثلث التصويب ؟ وبصورة أدقّ : لماذا تمّت إضافة أحلام مستغانمي إلى فدوى طوقان ومحمود درويش؟ فمحمود درويش وفدوى طوقان كلاهما الآن في ذمة الله. أما أحلام مستغانمي فهي حاضرة على قيد الحياة، ولا تزال شهرتها وكتبها في العالم العربي من مَشْرقه إلى مَغْربه تحقق أرقاماً قياسية بالمبيعات. وبما أنها على قيد الحياة –جسديّاً- فهي تستطيع أن تَرُدّ وأن تدافع عن نفسها إذا شاءت أو ارتأت ضرورة لذلك. أما محمود درويش وفدوى طوقان فهما الغائبان جسدياً اللذان لا يمتلكان الآن أية إمكانية للرد أوالدفاع، سواء رغبا بذلك أم لا. وإذا ما أجّلنا قليلاً موضوع محمود درويش وفدوى طوقان والاتهامات الموجهة إليهما بالتطبيع والخيانة والتماهي مع العدو والانبهار به، وبصرف النظر عن كتابات أحلام مستغانمي، إلا أن الأمر المُحيّر فعلاً هو أن اسم الكاتبة أحلام مستغانمي لم تسبق الإشارة إليه أبداً بشُبْهة التطبيع ولا بشُبْهة التماهي مع المستعمر.. وبالتالي فكيف ولماذا تَمّت عملية جمع هذه الأسماء الثلاثة ضمن قفص اتهام واحد، ألا وهو قفص المُطبّعين والخونة المتماهين مع العدو المستعمر والمنبهرين به؟ فهذا في حد ذاته أمر يستدعي التساؤل على أقل تقدير. وفي جميع الأحوال، فلنترك هذا السؤال مفتوحاً دون الغوص في أي تحليل للنوايا من وراء هذا الجمع الاعتباطي للأسماء الثلاثة في بوتقة قفص اتهام واحد أمام محكمة التفتيش الجديدة التي أنشأتها الصحفية-الشاعرة، ومن حولها بعض القضاة من الشعراء والنُقّاد .
أولاً وبعد البداية لا بد من التذكير، بأن كل شخصية عامة سواء في عالم الإبداع الأدبي أم في عالم السياسة والفكر والمجتمع، يجب أن تبقى خاضعة لسلطة النقد، هي وإنتاجها وأفعالها وأقوالها، وهذا ينطبق على محمود درويش وفدوى طوقان وكل القامات الأخرى، الأحياء منهم والراحلين عن عالمنا. فالمتنبي وشعره لا يزال خاضعاً للنقد بالرغم من مرور ألف عام تفصلنا عن مسيرة حياته.. ولعل في هذا تفسيراً لأهميته وعظمة شعره... ومن هنا فإن الأمر ذاته ينطبق على درويش وفدوى طوقان. فالنقد أمر ضروريّ وصحيّ تماماً، يمكن من خلاله أن تتفتّح آفاق جديدة ومُلهِمة. لكنّ للنقد أصولاً مُتعارفاً عليها ناهيكَ عن أخلاقه ومزاياه. فأول أصول نقد الشاعر هي دراسة وتمحيص تجربته الشعرية ونقدها من خلال ما تقدمه كتجربة شعرية .. وهذا ما لم يحدث أبداً في كل الأحاديث والمحاكمات المليئة بالاتهامات التي أدلت بها الشاعرة والصحفية غادا فؤاد السمّان وأؤلئكَ الذين اشتركوا معها من القضاة-الشعراء والنُقّاد. وباستثناء تناول قصيدة محمود درويش بعنوان "عندما يبتعد" باعتبارها دليلاً على تماهيه مع العدو وإعجابه به وانكساره أمامه، فلا نقاش ولا حديث عن شعره أبداً، بل عن مواقف سياسية لها علاقة بفترة انتمائه للحزب الشيوعي الإسرائيلي في الستينيات وغير ذلك.. وهذه أسطوانة مشروخة أكل الدهرعليها وشرب.والأدهى من ذلك أنها تجزم بأنه لم يكن هنالك من خيارات أمام الفلسطيني سوى العمالة للاحتلال أو الانتماء للحزب الشيوعي الإسرائيلي.. وسوف نعود إلى هذه المسألة لاحقاً. لكن المُبكي والمُضحك في آن معاً، أنّ هذا التناول السطحي وما ترتّبَ عليه من ادعاءات من خلال تناول قصيدة واحدة للشاعر فقط ، هي قصيدة "عندما يبتعد"..وهذه القصيدة على وجه التحديد، يبدؤها محمود درويش بقوله: "إلى العدوّ الذي يشربُ الشايَ في كوخنا" . إذاً،الاتهامات والأحكام كلها سياسية، وذلك بشهادة باقي القضاة الذين اجتمعوا حولها في هذه المحاكمة التي اكتستْ طابعاً سياسياً وإن لم تكن سياسيةً تماماً بل سياسويّة واعتباطية. القضاة الأربعة هم الشاعر محمد علي شمس الدين والشاعر غسان مطر والدكتور رضوان السيد والشاعر لامع الحر، الذين ناقشوا كتابها بعنوان"إسرائيليات بأقلام عربية". وفي الحقيقة فإنه لم يكن هنالك أية مناقشة لما طرحته غادا فؤاد السمّان في كتابها بقدر ما كان إجماعاً وإعلان انحياز لكل ما ورد فيه من اتهامات بالخيانة والتماهي مع العدو والانبهار به. ولنأخذ ما قاله الشاعر محمد علي شمس الدين عن محمود درويش كنموذج لهذه الأحكام التي لا تنم إلا عن اعتباطية ثقافية مليئة بالأوهام والتناقضات الذاتية. فبعد أن أثنى على جرأة غادا فؤاد السمان وكتابها و"لغتها المِبْضَعيّة" وأنه "لأول مرة في الأدب العربي يتمّ التصدي لرموز ثقافية كبيرة مكرّسة..وأن الصراع العربي الإسرائيلي معقد وشائك وملتبس إلى درجة أن الضحية صارت تلتمس للقاتل أعذاراً..وأن من الواضح أن الشاعر محمود درويش كان حنوناً وعادلاً مع القاتل.. ومن الواضح أنه كان مأزوماً من الناحية الفكرية. ومن خلال شعره أستطيع أن أقول أن نصفه يهودي ونصفه فلسطيني"... لكنه استطرد قائلاً : "لكن الخطاب الشعري عند درويش أرقى من إسرائيل ومن الاحتلال" ..وهذا في حد ذاته كلام شديد التناقض والاعتباطية. فكيف يكون راقياً من يلتمس أعذاراً لقاتله؟ وكيف يكون خطابه الشعري أرقى من إسرائيل ومن الاحتلال طالما أنه مأزوم فكرياً ونصفه يهودي ونصفه الآخر فلسطيني؟ في الحقيقة،وأمام هذا الاتهامات والأحكام الجاهزة والجازمة وما تتضمنه من تناقضات جوهرية، مشفوعة باستطراد شكليّ تجميليّ منافق، وأكثر سطحية وتناقضاً من الاتهامات والأحكام التي سبقته ، لابد من التذكيرأن نذكّر بأنّ فجميع قصائد محمود درويش منذ الديوان الأول حتى الأخير، ومقابلاته ومقالاته ورسائله ومسيرة حياته بكل ما فيها من كبرياء وأخلاق الفرسان، ستبقى ناطقة نيابة عنه. أما مكانته الشعرية لدى ملايين الفلسطينيين والعرب والقراء حول العالم، فستبقى عصيّة على النيل منها. يكفي أن الناس يرددون قصائده ويحفظونها عن ظهر قلب.. أما من يحاولون النيل منه، فعلى الأغلب أن قليلاً من الناس يعرفون شيئاً من شعرهم. فالنيل من الشاعر ومكانته الشعرية شيء، وتناول تجربته الشعرية بالنقد الأدبي شيء آخر مرغوبٌ تماماً. لكن كيف تستقيم كل هذه الاتهامات مع القول بأن خطابه الشعري كان أرقى من إسرائيل ومن الاحتلال؟ هذا سؤال على ذمة من نصّبوا أنفسهم قضاةً لهذه المحاكمة الهزيلة.
تستطرد غادا فؤاد السمّان في سياق توجيه الاتهام لمحمود درويش مستشهدة برسالة من سلسلة رسائل بين شطري برتقالة، كان قد أرسلها لسميح القاسم خلال مرحلة الثمانينيات حين كان يقيم في المنفى في باريس. تقول غادا فؤاد السمان: "وفجأة تدرك أن الفارس قد ترجّل، وترك الميدان لفراغ مريب ويُمكن إدراج أمثلة لا تحصى وردت في "إسرائيليات بأقلام عربية" أكتفي بواحدة منها، اقرأ مثلا هذه الرسالة التي وجهها محمود درويش إلى سميح القاسم، وأضعها دون أي تعديل بل بكامل علامات الترقيم الدّالة كما وردت في كتاب الرسائل. عزيزي سميح، السيدة شيرلي هوفمان أمريكية - إسرائيلية تعيش في مدينة القدس. التقيت بها منذ أسابيع في مهرجان الشعر العالمي في روتردام... قالت إنّ أسباب الحروب الدائمة في الشرق الأوسط هي غيرة النساء، الغيرة التي اندلعت نارها بين جدتهم سارة وجدّتنا هاجر... ضحك الجمهور الهولندي، واشتدّ ضحكهُ حين تصافحنا على المنصّة، وقلت لها اللعنة على جدتك وعلى جدتي أيضا".
ثم تستطرد غادا فؤاد السمان وتتساءل قائلة:
"ولنعد إلى الرسالة أعلاه، إذ مهما كان الموقف مدعاة للسخرية، هل يُمكن إسقاطه بهذه البساطة على تجربة كفاح مريرة استمرت أكثر من خمسين عاما والدم الفلسطيني يُراق بهذه الشراسة؟".
تدرك غادا فؤاد السمّان أن هذا الموقف العابر الذي واجه محمود درويش في روتردام قد يواجه أي مثقف أو شاعر عربي في أي مهرجان دولي. ثم إن ردّهُ كان لافتاً في سرعة بديهته ولاذعاً في سخريته مما قالته شيرلي هوفمان في تلك اللحظة وذاك الموقف العابر الذي لا يمكن تحميله أكثر مما يحتمل، ولا يمكن قراءته إلا في سياقه الظرفيّ الطارئ والعابر...ثم إنها أخذت هذا المقطع من رسالة من بين سلسلة رسائل تبادلها الشاعران وكانت كلها تفيض بالشاعرية وبالحنين إلى الوطن وجماليات الكتابة الأدبية وبوضوح الرؤيا أيضاً. أذكر مقطعاً من تلك الرسائل على سبيل المثال ،يقول فيه درويش لسميح القاسم:
إذا ضَلّتْ الروحُ خارجَهَا
ضَلَّلَتْ روحَ داخِلها .

سنكتبُ ، لا شيء يثبت أني أُحبك غير الكتابة
أُعانق فيك الذين أحبوا ولم يفصحوا بعد عن حُبِّهم .
أُعانق فيك تفاصيل عمر توقَّف في لحظةٍ لا تشيخُ .
هنا قلبُ أُمّي . هنا وجه أَمِّك .
هنا أوَّل الشِعْر والسخرية .
هنا أول السُلَّم الحَجريِّ المؤدّي إلى الله والسجن والكلمةْ
هنا نستطيع انتظار البرابرة المؤمنين بجحشٍ
توقف في أرضنا قبل ميلاد عيسى عليه السلام ،
وأسَّس دولته بعد ألفيّ سنة .
أتحسبُ أن الزمانَ يُضَيِّعُ حَقَّ الحمير بقتلِ العربْ ؟

سنكتب ، لا شيء يثبتُ أنَّ الزمانَ طويلُ اللسانِ
سوى الكلمات التي لا تَصُدُّ سوى موتِ
صاحبها
فقُلها
وقُلها
وخفّف عن القلبِ بعضَ التلوثِ والأسئلةْ
وقُلها
وخفّفْ عن الناس ساديَّة العصر والأخوةِ – القَتَلَةْ.
لم تقرأ الصحفيّة هذا المقطع على مايبدو أو لم ترغب بذلك. فكانت مثل روحٌ ضلّتْ خارجَها فضلّلت روح داخلِها. وجاءت أحكامها الاعتباطية ، مليئة بالأوهام ومجافية للمنطق والحقيقة والبرهان..والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف نجا سميح القاسم في هذه المحاكمة من الاتهام بالشراكة الجرميّة مع محمود درويش؟؟ لم أجد سبباً منطقياً سوى أنه ما زال على قيد الوجود الجسدي، مما يعني أنه قادرٌعلى الرد والدفاع المناسب.
أخيراً، وإذا ما تصرفنا انطلاقاً من النوايا الحسنة واعتبرنا أن هذا المنزلق الذي انزلقهُ هؤلاء في إصدارهم لأحكامهم، ناتج عن مجرد أوهام وعن اعتباطية ثقافية، فلابد من العودة إلى عالم الاجتماع بيير بورديو الذي قد يعطينا تفسيراً لمثل هذه الحالات التي تظهر أحياناً لدى بعض المثقفين العرب.
يقول بورديو في سياق حديثه عن مفهوم الاعتباطية الثقافية: "يجب تحرير المثقفين من أوهامهم، وابتداءً من كونهم يتوهمون أنه ليس لديهم وهم".
وخلاصة القول. أيّها المثقفون العرب والفلسطينيون:انتبهوا جيداً واستعدوا لمرحلة قادمة سيتمّ فيها إطلاق مزيد من أعشاش الدبابير للنيل من رموزكم الثقافية والتطاول عليها وخلط الأوراق بصورة اعتباطية، وليس ممارسة النقد البريء والبنّاء...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. !ماسك يحذر من حرب أهلية


.. هل تمنح المحكمة العليا الأمريكية الحصانة القضائية لترامب؟




.. رصيف غزة العائم.. المواصفات والمهام | #الظهيرة


.. القوات الأميركية تبدأ تشييد رصيف بحري عائم قبالة ساحل غزة |




.. أمريكا.. ربط طلاب جامعة نورث وسترن أذرعهم لحماية خيامهم من ا