الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عاصفة الظلام

عبلة الفاري

2010 / 6 / 1
الادب والفن


قصة قصيرة

كان الوجه صافيا يعكس نقاء الروح وصفاء الضمير وراحة النفس ، لولا هذه الخريطة الجغرافية المتشابكة المتاهات والخطوط والتجاعيد والحكايات ، فكل رمز فيها هو حتما تسجيل لحكا ية أو تخليد لذكرى أو لحظة تفنن الزمن بزجها على هذا الجبين .
رغم أنها لا تحب المرآة ، لكنها هذه المرة أطالت النظر والتفرس في معالم وجهها عبر العينين الواسعتين رغم ذبولهما حيث إنعكس الهدوء الموشح بمسحة حزن ارتسمت عبر سوادهما الضارب لظلام الليل ولون الهموم .
شيئا فشيئا بدأت أناملها بكل خفة تتحسس تضاريس وجهها المتشعبة الى أن وصلت الى شعرها الأبيض فأطالت الامساك به ، صارت تارة تتفقد التجاعيد و الشعر الابيض تارة أخرى ، وكأنها تجلس لأول مرة أمام المرآة ، أو أنها مندهشة من هذه الملحقات والتضاريس التي الصقها بحركتها وكيانها الزمن في غفلاتة الكثيرة التي غالبا ضحيتها الانسان .
كلما تحركت طقطق كرسيها الخشبي المخلع نادبا تعس حظه، رافضا لهذا الصمت المهيمن الذي لا يجرؤ على شقه سوى أغنية شجية قديمة منطلقة من جهاز خشبي عتيق مركن في إحدى الزوايا المعتمة ، لكن رغم روعة الصوت الممزوجة بخشخشة الجهاز يبقى اللحن الأصيل عاجزا عن التسلل الى ما وراء جدران الروح والوصول الى خزائنها المقفلة حيث يعشش الصمت الأبدي المتراكم على مرّ السنين ، ولا يجرؤ على فك أقفالها الصدئة سوى سهم القدر القاسي أو الملتهب بنار الموت في أغلب الأحيان .
مرّت الدقائق وأقلعت من ورائها الساعات ،وهي على حالها محملقة بالمرآة الى أن حلّ الظلام متزامنا مع هبوب العاصفة الهوجاء المحملة بالمطر والخيرات والويلات والمصائب في آن واحد .
كان اجتياح الظلام لنفسها ليحجب الرؤية رغم عينيها المحملقتين في العتمة ومعه صفير العاصفة الذي اخترق أذنيها ليدوي في الأعماق بمثابة سوط لاسع أيقظها من سباتها الدنيوي الطويل ، فقفزت مرتعدة خائفة راجفة من هذا الوحش الهمجي الذي دق بابها المهجور من جديد وهو يتزين بثوب الدنيا المزركش بأحلى الوان الربيع وأغلى حلل العطاء رغم ما يخفي داخل أذياله من مصائب وويلات لينادي من أعماقها دم الشباب الساخن ليصحو من بياته الأزلي.
صارت تجيء وتذهب وتدور باحثةعن شيء ما في زوايا البيت المعتم القديم المزدان بالطحالب والشقوق التي رسمتها الرطوبة بلوحة فنية طبيعية يعجز عن رسمها أمهر الرسامين ، بالرغم من أنّ كل محتويات البيت هي مجرد أطلال ماض حمل الزمان حاضره وذرته الريح بعيدا في أرض ما هي بأرضه لينبت زرعا غير الزرع الذي خلقت لأجله هذه الأرض.
طال البحث عن هذه الضالة الضائعة بين أطلال الماضي وأكداس الغبار المتراكم فوق خرائب الذاكرة وبقايا أطلال الحكايات ، وهي مندهشة من سر هذه القوة العجيبة وروح الشباب التي استيقظت بداخلها عند بوابة العبور الأخيرة.... مرّت الدقائق والتحقب بها الساعات وتسلل الزمن صوب الغروب ، وهي تبحث وتبحث، دون جدوى الاهتداء لسر ضالتها لأنها لم تكن تدري عن ماذا كانت تبحث ، وأثناء رحلة البحث الطويلة عثرت على بعض حبات من التمر ، التقطت حفنة ودستها في حزامها ، لكن رحلة البحث عن هذا المجهول تواصلت، وفي إحدى محطات البحث المستمر وقعت يدها على كتابها المقدس تناولته بسرعة وأخفته في صدرها ، وبلمح البرق اللامع عبر الارجاء إندست في ثوبها الأسود المهترئ المرقع، فالعاصفة هائجة تنفذ عبر مسامات الجسد لتدغدغ ما غفل الزمان عن ايقاظه من أعصاب اعتادت أن لا تستفيق إلا للسعات الألم وصفعات الدهر وطعنات خناجر الظلمات .
لفت رأسها بخرقتها السوداء علها تقيها زخات المطر الغزيرة ودست قدميها النحيلتين في حذائها "البلاستيكي" الممزق كي يقيها برد السيول الهائجة التي دمرت اليابس والأخضر .
بكل ما في الدنيا من عنف والوان الوحشية والغضب إنقضّت على جرّة الفخار القديمة المركنة الى جانب قنديل الزيت المحتضر لترفعها عاليا وتقذف بها المرآة لتجعلها كومة من حطام... وجرت مياه الجرّة لتمازج مياه السيول ، أحست براحة نوعا ما لأنه هين على الانسان أن يحطم كل الأشياء ، لكنه قاس وقاتل أن يكون الانسان حطاما يكسوه الغبار وتنبت من بين أشلائه الطحالب والأشواك البرّية وتسدل عليه الأيام ستائر نسيانها الكالحة البالية....
بصوت البركان الثائر والرعد المزمجر خلف شباكها الشرقي المخلع ... اندلفت منها قهقهة عالية دوّت في الأرجاء ، هزت كل ذرة من المنزل المتداعي للسقوط ، وظل رنين القهقهة يدوي في محيط السكون المحكم بصمته على المكان الى أن تلاشى كليا ، عندها فقط اندفعت خارج الباب المفتوح ودون نظرة وداع شقت كتل الظلام مسرعة تدوس العتمة ، وكأنها جزء من الليل لا تأبه لزخات المطر وهمجية العاصفة ، لأنه حين ينطق الصمت تنخرس الكلمات، فالدم يغلي في العروق ، والشباب قد استيقظ الآن على صوت الارادة القادم من الأعماق... وظلت تطوي المسافات الى أن تلاشت كليا وسط الظلام .
مرّت الأيام والتحقت بها السنوات بخيرها وعجفها والناس يحكون لصغارهم الذين كبروا الحكايه الواحدة بعدة روايات عن ذلك الكوخ المهجور وثورة صاحبته التي شاهد بعضهم شبحها الأسود يغادر الكوخ ويذوب في العتمة ليلة العاصفة ، وكل راو يضع نهاية كما يشاء ، منهم من قال أنها ماتت والعاصفة بداخلها ألقت بها في عاصفة السماء ، فقد كان لون المطر في تلك الليلة أحمر ، ومنهم من قال أنها القديسة الطيبة المباركة التي أحب الجن صبرها دهرا وهذا أكبر من أيّ طاقة احتمال للبشر لذلك أخذوها عندهم ، أما الآخرون فأكدوا أنها لم تمت وقالوا أنها حية ترزق فهي تعود الى كوخها ليلا لأنهم يرون أحيانا شبحا أسود يتنقل داخل الكوخ يحمل قنديل زيت يحتضر ويردد موالا شرقيا حزينا حين ينام الناس......








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان