الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل الرقابة على الأفلام -المزعجة- اختصاص فرنسي ؟

ياسين تملالي

2010 / 6 / 5
الادب والفن


اتهاماتٌ بأن الفيلمَ "حرف الحقائقَ التاريخية"، ضغوطٌ على القنوات التلفزيونية العمومية كي لا تشتركَ في إنتاجه وعلى مسؤولي "مهرجان كان" كي لا يدرجوه في القائمة الرسمية لأفلام هذه السنة، طلباتٌ متكررة من رئاسة الجمهورية لمشاهدته قبل افتتاح هذا الموعد السينمائي... ومطالباتٌ بمنع عرضه "حمايةً للنظام العام" !

لا يحدثُ هذا في دولة "متخلفة" تُداس فيها حرية الإبداع بالأقدام. يحدث في فرنسا، التي اختصت بعض نخبها في تقديم دروس الحضارة لسكان "العالم الثالث". الفيلمُ المعني بالأمر هو "الخارجون عن القانون" ("Hors-La-Loi") للسينمائي الفرنكو-جزائري رشيد بوشارب، صاحب "أنديجان" ("Indigènes") الذي يروي مشاركة المستعمَرين (المغاربيين والأفارقة السود) في تحرير أوروبا من النازية وما كان جزاؤُهم على ذلك من جحود ونكران.

ما سببُ هذه الضجة يا ترى ؟ سببُها أن "الخارجون عن القانون" يشيرُ إلى مجازر 8 مايو 1945 التي ارتكبها الاحتلالُ الفرنسي في حق عشرات الآلاف من المظاهرين الجزائريين الذين تجرأوا على المطالبة بالاستقلال في يوم تحرر فرنسا من الحكم النازي. ويزيدُ هذه الضجةَ غرابةً أن لا أحدَ شاهد الفيلم بعدُ (عدا طاقمه وبعض المؤرخين) وأن الأحداثَ المذكورة، حسب تصريحات مخرجه، مجرد خلفية تاريخية لسيناريو هو أساسا قصةُ ثلاثة إخوة جزائريين رحلوا إلى باريس بعد هذه المجازر والتحق اثنان منهما بجبهة التحرير الوطني.

منذ إعلان عرض هذا العمل في "كان"، تتوالى البياناتُ المنددة بتجنيه على "الذاكرة الفرنسية". إيلي بيزيي، نائبُ تجمع الأغلبية الرئاسية (الحاكم) ورئيسُ مجموعة عمل برلمانية عن "المرحلين" (أوروبيي الجزائر الذين غادروها بعد الاستقلال) أدان "استخدامَ المال العام لشتم الجمهورية"، وأندريه مايي، زميله في الحزب ومسؤولُ "دار المرحلين" لمدينة "كان"، طلب منعَ عرض فيلم بوشارب حماية "للأمن العام" بعد أن دعا هو ذاتُه إلى احتلال سلم القصر الذي يحتضن المهرجان !

ودون أن يشاهدَ الفيلمَ هو الآخر، لم يتورع نائب ثالث في كتلة الأغلبية الرئاسية، ليونيل لوكا، عن الحديث عنه وكأنه أطروحةٌ تاريخية لا إنتاجٌ فني، منتقدا تمويلَه من طرف المركز القومي للسينما وداعيا وزيرَ قدامى المحاربين، هوبير فالكو، إلى بذل قصارى جهوده لعدم إدراجه في قائمة الأفلام الفرنسية المشاركة في "مهرجان كان". وقد كللت هذه الجهود بنجاح كبير، نتجت عنه مفارقةٌ مذهلة : "الخارجون عن القانون" سيمثل الجزائرَ لا فرنسا في هذا الملتقى الفني العالمي مع أن تمويله فرنسي بنسبة 59 بالمائة وجزائري بنسبة لا تفوق 20 بالمائة.

ورغم أن فرنسا ليست "بلدا سوفياتيا"، طلبت حكومةُ فرانسوا فيون رسميا من إحدى هيئات وزارة الدفاع رأيَها في سيناريو "الخارجون عن القانون". وردت عليها هذه الهيئة بتقرير لجنرال حقيقي اسمه جيل روبير (نشرته اسبوعية "Minute" اليمينية المتطرفة) قال إن المخرج "يريد إيهام المتفرجين بأن مجازرَ عمياء اقترفت يوم 8 مايو 1945 بحق الجزائريين، والحقيقةُ، بإجماع المؤرخين، أن قام به الأوروبيون لم يكن سوى ردة فعل على ما قام به الجزائريون". وبطبيعة الحال، اعتمد وزيرُ قدماء المحاربين على هذا التقرير بالغ الموضوعية ليعلن أنه "دفاعا عن الذاكرة (الوطنية)"، سيسهر على تفادي أي تبن رسمي" لعمل بوشارب.

وللأسف، ليست هذه أولَ مرة تثورُ فيها ثائرةُ اليمين الفرنسي على إنتاج فني يتطرق إلى المغامرة الكولونيالية الفرنسية، بل يمكن القولُ إن فرنسا، مقارنةً بامبراطوريات استعمارية أخرى، اختصت في حظر الإبداعات التي تلقي نظرةً نقدية على هذا الشق من تاريخها. تكفينا، لندرك ذلك، نظرةٌ إلى الأعمال السينمائية التي منعتها خلال الثورة الجزائرية (أغلب أفلام الشيوعي الفرنسي روني فوتيي، "الجندي الصغير" للسويسري جان لوك غودار، "لن تقتل أبدا" للفرنسي كلود أوتان-لارا، إلخ...) وحتى بعد قيام الدولة الجزائرية المستقلة في 1962 (حظر "معركة الجزائر" للإيطالي جيلو بونتيكورفو رسميا من 1966 إلى 1971).

وزاد حدةَ الضجة السوريالية المثارة حول "الخارجون عن القانون" عاملان اثنان. الأول هو التوترُ الذي تعرفه العلاقاتُ الجزائرية-الفرنسية منذ سنوات والذي كان أحدُ أسبابه صدورُ قانون فرنسي يرمي إلى تخليد مساعي فرنسا "التحضيرية" وراء البحار (قانون 23 شباط/ فبراير 2005). أما العامل الثاني، فإخراج الفيلم في خضم النقاش الذي افتتحه الرئيس نيكولا ساركوزي حول "الهوية الفرنسية" في منتصف نوفمير 2009.

وليس من المبالغة القولُ إن التصويتَ على قانون 23 شباط/ فبراير 2005 وافتتاحَ هذا النقاش الغريب وجهان لعملة واحدة : التغذيةُ المستمرة لما تسفر عنه الأزمة الاقتصادية من تساؤلات لدى الناخبين (من قبيل : "هل أحفادُ المستعمَرين يهددون هويتنا؟" و"هل من إسلام فرنسي متسامح؟") بغرض تحقيق الإجماع على نظرة اليمين إلى بعض المسائل التاريخية (مهمة الاستعمار "التحضيرية") والهوياتية (لا مكان للهويات "الدخيلة" في الهوية الفرنسية الديموقراطية الأبدية-الأزلية). ويتمثل هدف العملية برمتها في توسيع القاعدة الانتخابية اليمينية لتشمل قسما من اليسار يستهويه الدفاع عن العلمانية ضد "الخطر الإسلامي" وقسما من اليمين المتطرف ترمي الإشادةُ بالاستعمار إلى كسب ود أهم مكوناته، ("المرحلون"، قدامى عساكر المستعمرات، إلخ).

هل ستصلُ رغبةُ الحكومة الفرنسية في "الحفاظ على النظام العام" إلى درجة منع "الخارجون عن القانون" بعد انتهاء "مهرجان كان" ؟ قد يبدو السؤال سخيفا لكن لا شيء مستحيلٌ في جمهورية ساركوزي، حيث تُعرض سيناريوهات الأفلام على وزارة الدفاع. ولاشيء يستعصي على اليمين المتطرف حين يستفيد من تواطؤ السلطات، فتاريخ الفن السابع يذكر بأسى أن محاولات التعريف بـ"معركة الجزائر" في فرنسا سنةَ 1970 باءت بالفشل تحت ضغط "المرحلين"، ما أخر اكتشاف هذا الفيلم في "وطن الحرية" إلى 2004 !

ياسين تملالي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب


.. عاجل.. الفنان محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان في رسالة صو




.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق


.. جولة في عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2024 | يوروماكس




.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم