الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قابض الأرواح

ثامر مهدي

2010 / 6 / 6
الادب والفن


-1-

" .. وبعد أن عذّبتَ هذا الجسد المهين
وقبضت الروح الهائمة
بجبروت قبضتيك
بقى أمَامَكَ هذا الجَمَالُ كلّه
في كلّ ما عشتُ
في كل ما رأيت"

بهذا أتمّ هجائيته ووضع النظارة السوداء على عينيه بعد أن طوى الورقة على عَجَلٍ وارتشف بقية القهوة الباردة دفعةَ واحدة. ظنّاً منه أن الأسوء قد حدث، قد مرّ في حياته وانتهى موليّاَ، ولقد انتقم لنفسه وبطريقة نبيلة من الأذى الذي أكاله له الآخرون. ودون أن يجرح شعور صديق أو حبيب أياً كان، وبهجائيته الفظّة فقط وكخطوة استباقية من ذلك المرسل الذي سيقبض روحه
أيضاً كما نقلنا. لم يبق في أجندته سوى أن يزور ويتأمل المقبرة في ذلك اليوم المطير والتي سيستقر فيها مرتاحاً وللأبد.

-2-

حيّاهُ خادم المدافن ببرود وهشّ بيديه بعض الذباب المتساقط على مائدة التمر ودلة القهوة. ولكون زهرة الحقل متدلية من جيبه، توغّل بين الشواهد وثلاث أو أربع ذبابات بينهن ذكر حلّقن حوله، هش دون جدوى ثم تجاهل الأمر .. راح يقرأ الأسماء بعشوائية، متفادياً بعض القبور القديمة والتي بدت عليها علامات الانهيار، لاحظ أن المقبرة مهملة، اللهمّ من بعض القبور التي انتظم زائروها على المجيء والعناية بها، وسقاية ريحانها ونفض الغبار عن الأسماء والعبارات المقتبسة والتي اختيرت بعناية من الشعر والكتب المقدسة.

-3-

استدار بقامته المستقيمة ثقةً وعزماً، وأخذت عيناه تجوبان نواحي المقبرة المحدودبة السطح، وفكر في ما يمكن لو دُسّ جسده الفاني هنا أو هناك. وبينما هو كذلك، أحسّ بكفّ ثقلية تهوي على كتفه الأيمن وتقعي به أرضاً دون إيلام. لقد نسي لحظتها أنه في فضاء الأموات، تحت سطوة الهول الخاطف الذي استولى على كيانه. لم ير أحداً ولم يتسنى له أن يصرخ، لكنه أحس وكأن جسده أضحى ماكينة خرساء. فراغ خفيف .. لا كما تعود الوعي على تصوّر الفراغ، وبرد .. برد .. برد .. لا كما ترسمه قوانين الثيرموداينميك ولا أي العلوم الطبيعية الأخرى، وأخيراً دهشة جليدية ناصعة لا متناهية الأطراف. جزء صغير من الدماغ بات يحدثه ويتفاعل مع كل ذلك الإبهام ولا شيء سوى ذلك. أنه يرى .. ولكن ليس بعينيه، وكذلك يسمع ويحس ولكن ليس بفضل جسده الذي اُختزل بتلك القبضة الهائلة وصار متلاشياً وممتزجاً بالهواء والتراب الرطب وشعاع الشمس الآفلة - الشحيح.

-4-

وبعد .. حيث لا بعد ولا قبل .. طابور من الناس القاعدين والواقفين والشاخصة أبصارهم وخادم المدافن أيضاً .. يتحدث.

كان الصوت يأتي قريباً .. قريباً .. بسرعة .. ثم يبطئ .. ثم يتضاءل ويختفي ثم يـأتِ من جديد ..

واستمر الحال حتى أن النهار لم يعقبه ليل واللحظة ذاتها لا تتحرك. مما لا شك فيه أنهم يقيمون مسرحاً أو مؤتمراً أو حفلاً .. وأنه موضوع أو جزء من موضوعهم لأنهم يتلفتون ناحيته. لا آلية ولا اختراع يقيس المسافة،
فهم بعيدون جداً.. ولكنه بينهم، وهم غرباء لكنه يعرفهم واحداً واحداً.

الجزء الصامد في الدماغ وحده من يحاول التشبث بالزمن لذلك هو جامد في الحياة الأولى ويحاول إدراك معنى هذا الكرنفال المدهش والمخيف بالنسبة إليه. لقد أعطى ذلك الدماغ المشوش إشاراته بأن خادم المدافن هو قابض الأرواح ومطلقها الذي لن يتغاضى عن، ولن يغفر له تلك العبارات الفَضَّة المقتبسة من الهجائية الطويلة. ها هم ينفذون إلى خلاياه وتصوراته جميعاً معتصمين بمعاول وسفافيد ومساحي، وكذلك آلات خياطة وأزاميل للنحت وأجهزة لابتوب وكل الأدوات المتعلقة بالمهن المعروفة.

-5-

- نحنُ لسنا كذلك ... (قابض الأرواح/خادم المدافن)

أقشعرّت روحه، وأحسّ بوطأة أخفّ من تلك التصورات التي احتفظ بها ذلك الدماغ المهين، الدماغ الذي كان مشاركاً في بناءِها بلا ريب في موضوع الهجاء.

- ((فلننتهِ)) .. وكأنما خليط من الألوان يتكلم ..

وبسلام لا يشبهه أي سلام، وبارتياح يبلغ ارتياح الكون الذي ينعم بهدوءه الأثيري، كان مُصْلُ العالم الآخر يُحقنُ في ذلك الجزء من الدماغ الثرثار .. آهٍ، يا للخلاص من كلّ هذا.

-6-

لقد صار كل شيء له مذاقه الخاص، لكنه مألوف أيضاً وكأنما فطرة أخرى كامنة ترشده كيف سيتحرك في هذا الذي كان غيباً سخياً على خياله.

- خذ هذا .. (إزميل على هيئة ريشة)

نظر إلى يديه وكان يلمح بياض عينيه الكامل، ما سأفعل بهذا ؟!!

- نقشاً، .. ستعملُ نقشاً ... الناس هنا يعملون .. ..

((كلهم يعملون .. لا يوجد بينهم عاطل)) .. والفوج ينظر إليه دون أن يستطيع تمييز مشاعرهم، فالأحداق الجامدة والدهشة التي خلفها الموت جامدة كما هي .. (( إنهم يعملون !))
ما زال الدماغ يقاوم المزيج الكثيف، إنه أثقل من ماء الحياة الأبيض، ويغمر البقايا من الأفكار الدنيوية، لكنها تطفو، تقاوم، تأخذ نفساً .. ثم تغطس.. وهكذا

(إنهم يعملون ؟! ..) ... يختلط عليه استيعابها أحياناً، وأحياناً لا ..
فيرى ذاته منطلقاً بالإزميل الريشة نحو عمله وكأنه امتلك إدراك الصخر بأنه صخر.

(إنهم يعملون !! ..) وهكذا تبددت فكرة إن الموتى هم أجساد محشورة بين الجنادل والأتربة وحسب، أو أرواح تتعذب أو تنعم كما جاء في الهجائية .. بل إنهم يعملون ولكن دون ثواب .. إنهم يتوقون لعالمٍ أجمل، عالمٍ نقيض لما مرّ من حياة ليست بسهلة الهضم، عالمٍ مبددِ لهاجس الحفرة والغربة الفظيعة.

-7-

بات أمر الدماغ وبقايا الماضي النابضة، أمراً غير محبّب حيث أن الألفة في هذا الافتراض الناعم الجليل أعمق بكثير من جميل الماضي المبهرج بالتذكر ...

-8-

إن الذباب يطنّ قريباً ,, يطنّ بشكل مؤذي لكل الحواس، ومخرباً لـ "إنهم يعملون ..."

بدأت حرارة الحاضر تشده من إصبع في قدمه اليسرى ..

ثم اليمنى وهكذا تنساب إلى كامل جسده. خادم المدافن على هيئته يهش الذباب،
مرّ من جانبه وغادر المقبرة

سيعود للهجائية ,, حتماً وسيعمل على تحسينها










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح


.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص




.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع