الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وتريات النواب: مراجعة جديدة

اسماعيل محمود الفقعاوي

2010 / 6 / 14
الادب والفن


إهداء: إلى رفيق نهاية العمر

مدخل

عندما يسود قهر وظلم وظلامية الحاكم وطبقته أمة ما يصبح الرمز أكثر أدوات المضطهدين تعبيراً عن أشواقهم وأمانيهم بالتحرر من الاستبداد. بالتأكيد لا تنتهي أشكال التعبير الأخرى عن الأماني الجماهيرية ولا تتوقف من واقعية ومباشرة وخطابية بل يظل يخوض غمارها الأدباء والفنانون الأبطال الذين تتصف كتاباتهم باستثمار الرمزية لخدمة المكشوف هؤلاء الكتاب الذين نذروا انفسهم للشهادة بكل وضوح وشجاعة.

لقد قابلنا أمثال هؤلاء الكتاب البواسل في المغرب وتونس ومصر العمل والأهالي وجريدة مصطفي بكري وفي سوريا وغيرها من بلدان المعتقلات والمقاصل العربية. وشاعرنا مظفر النواب أحد أبرز هذه القلة التي استعير لفظ الزعيم الراحل الكبير ياسر عرفات في أفعاله العظيمة وفي أخطائه الفادحة أيضاً، فأصفهم بكلمته "مشاريع الشهادة". مظفر النواب هو الخالد بشخصه وشعره ما بقي الظلم في الوطن العربي وما بقيت ظلاميته وما بقيت محبة روائع الأداب تجد من يجلها ويجتلي متعتها، فقد عاش النواب وضوح الانتماء للفكرة والمبدأ والأمة وفضح الاضطهاد بما يلائمه من بشاعة وقبح وسوءة السلوك وبما يليق به من لغة وصلت في روعتها حد النزول والهبوط إلى المستوى الساقط الذي وصل إليه النظام العربي المحير في انهياراته واسفافاته وابتذاله وامتهانه وهوانه على نفسه قبلما على الأخرين وتدنيه. إن النواب بشخصه ومعاناته وأدابه (شعره) هو بيان الإدانة التاريخي لأنظمة القهر العربية الجبانة الغائبة عن التاريخ لا فاعلة فيه ولا مفعولة له. إن هذا الرجل العملاق يحتاج إلى دراسة وشرح وتأويل واستخلاص مظاهر ابداعاته الأدبية ليس من قبل المفكرين الأفراد وحسسب، بل من جانب المؤسسات الثقافية وأخص منها بالذكر الجامعات وكليات آدابها للغة العربية والإنجليزية.

وأنا أحاول هنا أن أقدم مساهمة متواضعة لعرض استلهاماتي من وتريات النواب الليلية على جمهور الأدباء والمفكرين والعامة. وقبل البدء أود أن أوجه كلمة إلى جمهور العامة ممن استمتعوا بشعر النواب بألا يظنوا بالرجل سوء الظنون فالرجل في نفسه رقيق تبكية خرمشة طفل على خده وهو ذو احترام ذاتي جم كما وانه متواضع للجماهير العربية لا فاحش في سلوكه الشخصي ولا متبذل ولا مبتذل.

دعوني أهدئ روع المستنكرين على النواب ما أغبطه به أعلاه وما أكنه له من حب وتقدير مسائلينني أوليس هذا الشخص سكيراً؟؟!!! وأنا أقر من البداية بأن النواب متطرف في سكره على المستويين الفكري والمادي فهو مخمور ومسكون بالثورة وعدالة الشعب الاجتماعية، هذا من ناحية وهو يحتمل ما استبطنه فكره من ألم وعذاب وخوف ورجاء بالهروب إلى الخمر ليغيِّب المعاناة قليلاً من أجل صحو إبداعي مخمور عظيم. إنني لن أدافع عن خطيئته الخمرية الاجتماعية (أو حتى من بعد ديني)، فأنا لم اتعاطاها سابقاً ولا الآن وأؤمن أن الله سيجنبني اللجوء إليها وإلى طلاوتها المريرة ولو كانت نتيجة هم الألم العربي الموت كمداً. كما وأنني لن أبرر للنواب سكريته بالاحتجاج بأن الوطن العربي ما هو إلا خمارة عفنة يعربد بخمرها الحكام وطبقتهم الحاكمة وعلية القوم ولصوص المال العام ومن باعوا أنفسهم للشياطين معادي الأمة، بل أصف حالة النواب في لجوئه للخمر بحالة مريض القلق والأرق الذي يسمح له الطبيب بتناول الأقراص المنومة. فالنواب كما أسلفت يلجأ لها كعلاج مؤقت لأدوائه كي يستطيع بها أن يزيح الهم جانباً بشكل مؤقت ويستبصر داخله فيمارس صحواً ما ومن ثم يقدر على تنظيم ابداعاته ليصف ما آلت إليه أمورنا ويشخص أمراضنا وأساليب استئصالها من وجهة نظره. ولماذا لا نغفر له سقطته إن كان الله سبحانه هو مثالنا ونموذجنا في المغفرة التي لا يغلق بابها أمام الخطاة إلا كل جاهل مريض بغرور الشخصية الواعظة الفوقية المتعالية التي تفترض كمالها، والادعاء على الله بما أنزل في كتابه الكريم سلطانا يقضي بعكس ما يدعون "بسم الله الرحمن الرحيم. قل ياعبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً".

عائلة النواب

كانت عائلة النواب عائلة ولاة يحكمون شمال الهند إلى أن غزا الاستعمار البريطاني الهند وهزم النوابيين وليردهم إلى موطنهم الأصلي العراق. وهذه العائلة، عائلة شيعية، لا أدري أجعفرية هم أم غير ذلك، لكنني اعرف بأن المسلمين الشيعة مصابون بعذاب الحزن والندم العميقين على المصير الذي نزل بساحة أمير المؤمنين على كرم الله وجهه وأسرته خاصة ابنيه الحسن والحسين، سبطا رسول الله صلي الله عليه وسلم. إن الشيعة يحملون كجزء من العقيدة والإيمان هذا المصير أكثر بعشرات المرات مما نحمله نحن أهل السنة الظاهريين بل أقول أننا نختلف جوهرياً في النظر إلى ذلك المصير وذلك الندب الذي كان نقطة تحول خطيرة في التاريخ الإسلامي منذ أوائل الدولة الأموية. فنحن أهل السنة قد أثر موقفنا بانتهاج الوسطية والمبدأ المتولد عن الخوف من السلطان المنتصر "نصلي وراء من غلب" أثر علينا في مقدار حزننا على ما أصاب على وأهله من وحشية ليس بدائم الحضور في عقيدتنا أو نحن دائمي التفكير فيه وليس يدفعنا أيديولوجياً لتبني موقف الانحياز للإمام على وأهدافه السياسية الديمقراطية النبيلة في ذاك الصراع الذي شوه وجه تاريخنا. وإن من يتجرأ منا على وصف معاوية بالمغتصب للسلطة ليستعيد لبني أمية الرئاسة العصبية التي تحلى بها الهاشميون في رفادة الحجيج وقيادة المجتمع الملكي قبلاً على التو من نزول الرسالة المحمدية، أقول سيجد هذا الواصف من يخرج عليه ليتهمه بالطعن على المؤمنين أو إهانة مؤسس بذور الدولة العربية القومية بعد نزول الإسلام وتوسعه وفتوحاته، ولربما يصل الأمر ببعض من يحمل على الواصف ذلك حتى ليصفه بالكفر والالحاد. وقد ينصحة بعض المشايخ الطيبين والتوفيقيين بترك الخوض في تفاصيل ذلك الصراع والانحياز لعلي إلى الله سبحانه ليفصل فيه يوم القيامة، وهذا بالتأكيد سيحدث في الآخرة، ولكنه رأي عدمي في الحياة الدنيا، حياة الصراع والمواقف.

إن شخصية الأمام علي عند المسلمين الشيعة أكثر من كونه إماماً يستحق الحكم قبل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بل مع تطور الفكر الإسلامي إلى مرحلة التصوف، وفيما تلى من العقود، الفلسفة في العهد العباسي اتخذ الامام ومصيره ومصير اسرته أبعاد اكثر شمولية في تفسير الكثير من آيات القرأن الكريم بشكل يسمى باطنياً لينصر الموقف المشايع لعلي وتطورات هذا الموقف ثقافياً وسياسياً مع تطور الأحداث (سياسياً واجتماعياً وسياسياً...) والزمن. وليصبح علياً عند بعض الغلاة الشيعة تجسداً إلهياً وعند البعض فادياً مخلصاً باستشهاده وبنيه لمشايعية من خطاياهم كما المسيح عليه السلام. لقد اتخذت مشايعة على تحققات فكرية وتجسدات ثورية انتفاضية لها، وهنا لا يفوتني التنويه أن هناك عناصر غير عنصر الحزن والندم على مصير الإمام شاركت في التطورات الفكرية والحركات الثورية ضد خلفاء الحكم الإسلامي الرسميين مثل أشواق بعض الفرس استعادة أمجاد امبراطوريتهم أو شوق بعض فلاسفة الالحاد (ولأسباب اجتماعية ثورية من وجه نظرهم) القضاء على الرسالة السماوية كما القرامطة. ما أود قوله أن مأساة الأمام شكلت بتطوراتها الوعي الشيعي صوفياً وفلسفياً، وهذا ظاهر جداً في أدبيات مفكري الشيعة ليس القدماء وحسب بل والمعاصرين، مما لا نحبه نحن أهل السنة. فنحن عندما نتنازل ونقبل الصوفية نقبلها من منظور إبي حامد الغزالي خاصة في كتابه إحياء علوم الدين هذه الصوفية التي مهما كان شكلها قامت الوهابية بالقضاء عليها وتكفيرها، كما وأننا كسنة ليس لدينا تقدير كبير للفلسفة بشكل عام وفلسفة القرن الرابع الهجري على وجه الخصوص. فصوفية هذا القرن وفلاسفته لاقوا صنوف التقتيل من قبل الحكم الرسمي كما يلاقي احرار امتنا من كتاب وسياسيين المعتقلات والمنفى وأحياناً الإغتيال. إن حرق الحسين أبي منصور الحلاج حياً في 309 ه لم يكن سببه ما تفوه به من شطحات الوجد الصوفية "ما ترون في الجبة إلا هو" وإنما الصوفية كانت البناء الفوقي الفكري المغذي للثورة الشعبية في المساحة الواسعة من جنوب العراق والأهواز هذا الفكر المبرر والحاض على الثورة ضد الحكم الرسمي (الخلافة) وهو الفكر الذي كان يبث الأمل بمستقبل قريب عادل يستحق للمحكومين الاستشهاد من أجله. والدليل أن الجنيد استاذ الحلاج إن لم أخطئ (راجع النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية للدكتور العظيم حسين مروة رحمه الله، وقاتل القتلة الجهلاء)، لم يقل بل علم المريدين الآخرين ما قاد الحلاج وغيره من الصوفية لقول ما قال الحلاج وأكثر، لكن الجنيد لم يتهم بالمشاركة في قيادة ثورة الجماهير في سواد العراق كما كان الحلاج قائداً سياسياً بالإضافة لقيادته الفكرية للتيار الصوفي الثائر.

هذه الصورة من التراث ما ولد مظفر فيها وتشربها من بيئته ومحيطه الثقافي سليقياً ناهيك عما اجتهد عليه من دراسة لفهم وتوسيع وتعميق أو نفي هذا البناء الذهني لديه عندما بدأ يستطيع حمل عبء القراءة. ثم يستتبع ذلك منطقياً أن تبحث هذه الروح الناذرة نفسها للحقيقة سواء كانت كونية أو اجتماعية عن الانتماء بما يحقق ما ستتطور إليه هذه الروح عندما تصبح عضواً في الحزب الشيوعي العراقي. هنا يختلط التراث الصوفي والفلسفي السليقي البناء والذي جلبته يداه فيما بعد مع محتوى الاعتقاد الشيوعي السياسي والمادي، فيخرج لنا هذا المزيج المتآلف من الإبداع المبشر بالثورة، المنظر لها، المنير لطريقها. إنني أظن بأن هذا القدر الضئيل من السرد للبنية الفكرية لدى مظفر قد تجعل على القارئ الكريم فهم ارتباطات أجواء واشراقات رموزه الصوفية وعلى رأسها الأمام ومصيره وما آل إليه هذا المصير من تطورات فكرية على مر العقود (راجع نهج البلاغة للإمام علي على الأقل) مع الدعوة الشيوعية للثورة من أجل التغيير ومن أجل العدالة الاجتماعية والدعوة والتحريض على مقاومة الاستعمار الصهيوني الأمريكي الغربي في زمن السبعينيات الأفضل حالاً بمئات المرات مما نحن فيه الآن من هوان على النفس وعلى الآخرين. هذا الزمن الذي تتسابق فيه بعض أنظمة الحكم العربي بذلة وخذلان على الطلب من الأمريكيين والإسرائيليين بقبولها مخبرين تافهي المقدار. هذا الزمن الصعب على الفهم إذ في حين بعض الأنظمة تبكي على ما يصيب الفلسطينيين ليل نهار من إجرام ووحشية لم تعترك الإنسانية مثلها حتى على أيدي نازية هتلر، تقيم هذه الأنظمة علاقات اقتصادية وأحياناً سياسية تحت ستار الاقتصاد مع الصهاينة وتفتح بلادها بوهن وضعف شديدين قواعد عسكرية لإبادة العراق وتدمير إيران من بعدها. إنه زمن المتناقضات إذ في الآن الذي تئن فيه مصر الحبيبة وشعبها المحرِّر من الهكسوس قديماً وهو الأمل حديثاً برغم مئات آلاف شهدائه من أجل فلسطين، أقول تئن تحت وطأة المعونة الأمريكية المسمومة والمغمسة بالذل والهوان، تقف دول الخليج المرفهة لتقتحم الحصار على جياع قطاع غزة وتقدم لهم الخبز والماء والدواء والمستشفي وبناء المدن والأبراج لإيواء اللاجئين، حياهم الله وحماهم من إخوة.

إننا في مراجعتنا لمظفر علينا خوض غمار هذا البحر اللجي بكل شموليته وأنا لنا هذا. إننا نحتاج نسخ كل مقطوعة من أغنية الوتريات في مقدمة تحليل لها نقوم به كي يسهل علينا وعلى القارئ العودة لكل كلمة وعبارة وجملة ليتضح ما ندعيه. ومنذ البدء نود لفت انتباه القارئ الكريم بأننا عندما نقوم بالتحليل والشرح والتأويل فإننا نقترب فقط من كون مظفر النواب ولا نصل إلى جوهر حقيقته إذ لا يعلم هذا الجوهر وهذه الحقيقة إلا ألله وبعد ذلك مظفر نفسه، وإن ما نكتبه هو عرض وكتابة لنفسي أنا المحلل والدارس بأكثر بكثير مما هو حقيقة ما استبطنه مظفر. إن الكتاب والنقاد يقدمون دراسات وتحاليل يومياً لشكسبير ولكن ليس هنا شكسبير كي نسأله إن كان قد قصد ما أبدعناه، وبهذا فنحن نعرض ما اكتسبناه من علم ومعرفة وأدب وتجربة حياتية شكلت مخزوننا المعرفي وبقدر عمق هذا المخزون يأتي ما نقدمه من تحليل ودراسة ومقدار الابداعية فيه. إننا بتحليلنا نبدع نصاً ورواية جديدة لها جمالها الأدبي وإثارتها للمتعة والشبق الروحي أو القصور والضعف. باختصار إننا نكتب انفسنا عبر الكتابة عن الآخرين. وهنا تحضرني مقولة ت. س. إليوت، عندما يقول أن الإنسان هو أسلوبه (شكراً بروفيسور حسام عدوان).

ماهية اللغة

وللتأسيس جرياً على عادة الكاتب المغامر بالمعني المستكشِف الجميل والشجاع محمود سيد القمني (رغم اختلافي العقدي معه)، فإن التحليل يحتاج إلى كلمة حول مفهوم اللغة وماهيتها. وهنا لن أتوه القارئ في سرد الإثباتات لما سأسرد بل عليه أن يعود إلى البحوث والدراسات المعالجة لماهية اللغة ونشؤها (فقه اللغة). فاللغة في اعتقادي ليست بنية فطرية في الإنسان منذ نشأته على الأرض سواء تطوراً أو خلقة (إذ لو كانت معطى من الكامل المطلق الله لكانت هي أيضاً مطلقة لا تقبل النقصان أو الزيادة فما هو من الله هو المكتمل كالقرآن الكريم)، بل هي ولادة تاريخية جدلية بين الخارج الموضوعي المحيط بالإنسان وبين عقل وذات الإنسان ولكن بنسبة غالبة للموضوعي. فهي كائن حي (بيلوجي، وأعني ما أقول كما سأوضح في المقال الثاني من السلسلة) ولد في لحظة ما من تاريخ الإنسان لم ينته ويكتمل ويتم بنائه ولن يحدث هذا مطلقاً. فهي منها لغات فنت وماتت وأخرى ولدت من رحم أخرى وألفاظها منها ما يموت ومنها ما يولد تماماً وكلياً ومنها ألفاظ قديمة شُحنت بمعاني وظلال حديثة ومعاصرة تحتوي في دوائرها المتعددة والمتسعة عن بعضها (كما تموجات ماء البركة نتيجة قذف حجر فيها) في معانيها التاريخية المتنامية تراث وثقافة المجتمعات المتعاقبة التي استخدمت هذه اللفظة (ميشيل فوكو التفكيكية). كما وأنني أود القول بأن اللغة ولدت على حساب حاسة كان فاعلة جداً في بدائة نشأة الإنسان فاعلة في نقل أفكاره ومشاعره الى الآخرين عبر الصور المنقولة موجياً من ذهن المرسل إلى أذهان المستقبلين ألا وهي حاسة التخاطر "التليبثي". لقد ولدت وتطورت اللغة على حساب هذه الحاسة التي لا تزال موجودة في عقل كل إنسان ولكن بشكل مضمحل بحسب قانون النشوء والارتقاء كما هو الأمر في حالة الزائدة الدودية المعدة الحشائشية التي اضمحلت وأهملت بسبب توقف الإنسان عن أكل الحشائش. إن التليبثي بالإمكان تفعليها لدى بعض مجاهدي الذات لتصل إلى مرحلة راقية من الأداء نقول عمن توصل لها بالبصارين أو نحو ذلك.
وكون اللغة هي بهذه الصفة، فهي غير قادرة على نقل ما يعتمل في فكر الإنسان وما يشعر به من انفعال ووجدانيات بتطابق مطلق، بل بشكل نسبي وهي عاجزة إن تكون متطابقة مع الفكر بل مقربة له. وهنا يكون الصمت والبكاء أبلغ في التعبير عما لا يمكن التعبير عنه من مشاعر وأفكار بالكلمات، إنها حالات الوجد والتجلي الصوفي والحب الإلهي والأنثوي (إو العكس) الصادق العميق والأفكار الكونية الكبرى مثل زمكان أينشتين مثلاً. إن وسائل التعبير الأخرى مثل الرقص والرسم تؤدى نفس الغرض إلى حد ما بالإضافة على قدرتها التعبيرية عما يمكن التعبير عنه بالكلمات، فيما عدا الموسيقى التي تتميز بكونها ليست انعكاساً للواقع الخارجي وفقط، بل إلى مدى أكبر انعكاس للبناء الفطري للملحن ومبدع الموسيقى. إنني أود أن أطمن القارئ بأننا والكون كله وغيره من الأكوان مخلوقين لله سبحانه وتعالي بطريقته الغامضة علينا. فدعوني أذكركم بأن الصورة الشائعة عن الخلق والكون أنه في زمن ما لم يكن موجوداً ثم رأي الله بخلقته كي يخلق ضمن الأشياء الإنسان ليعبده ويقدسه ثم دبر الله بطريقته ثم قرر ثم خلق إما بالصناعة أو بالقول كن فيكون أو بأي تفسير آخر. إن هذه الصورة الشائعة الظاهرية البسيطة خطيرة وقاتلة وخاطئة منذ البداية وقبل بيان ذلك. فهي تقود إلى التصور والاعتقاد وكأن الله خاضع للتغير، حاشا لله وتعالي علواً كبيراً، وإذ التغير هو الزمن بحسب التعريف الشاشع له وحتى نفس تعريف نيوتن المشابه لما هو أقدم والذي رآه نيوتن نهرا هائلاً تسبح فيه المادة، أقول أن هذا التصوير لخضوع الله للحوادث، التغير، يقود إلى القول بأن الله هو تحت الزمن ومنفعل له وأن الزمن هو المطلق ومن ثم هو الحقيق بأن يكون الإله. وهذا ما قال به بعض فلاسفة القرن الرابع الهجري. وهو من وجهة نظري خاطئ المقدمة وخاطئ النتيجة بالكلية بحسب لغة القدماء وتماما وبالمطلق باللغة الحديثة. إن الخطأ يكمن في القول بمطلقية اللغة وأنها معطى متكمل بالتمام والكمال للإنسان. إن اللغة لا تحيط بالله لأنها نتاج تاريخي ولا تستطيع التعبير عن كل ما يعتمل في صدر وعقل الإنسان. ومن ثم فهي اختراعنا لنقرب لبعضنا البعض تصوراتنا وانطباعاتنا عن الوجود المادي الطبيعي والمجتمعي والكينونة الإنسانية والأهم عن الوجود وخالقه. إنها تصوراتنا وليست حقيقة الأشياء كما في ذاتها ولذا فهي لا تصف ما تصف كما هو في الحقيقة وهي إذن تتحدث عن انطباعاتنا عن موجد الوجود، الله، وليست صادقة في وصف حقيقة ما هو عليه فهو ليس كمثله شيء. هكذا سبحانه يكشف لنا عبر نبيه عن الحقيقة حول ذاته التي لو تفرسناها جيداً وابتعدنا عن التجسيد والثقة بأن اللغة التي نتحدث بها عنه هي هو لما وقعنا في هبل المقدمة ونتيجتها الباطلة السابقة الذكر. حتى كلمة موجود التي تطلق على الذات الإلهية ليست صحيحة في أن تصف حقيقته. إن الغزالي كان عبقرياً عندما قال في وصف الله في لحظة وجد أنه "الهالك في المتهالك" (إحياء علوم الدين)، أي حقيقة الله هي هالكة عن أدراكنا في الغموض (المتهالك) وما نخرج من غموض إلا إلى غموض، دائرة لا نهاية لها ولا فكاك منها، أي أن الله ليس هو أي شيء نعتبره وضوحاً بل هو فيما وراء حتى الغموض. وكي أريح القارئ من إزعاج هذا الفكرة المضللة أود تذكيرة بأن الزمن ليس مطلقاً بل هو نتاج لحركة كتلة المادة فهو مخلوق لها ونسبي عليها يطول ويقصر (راجع النسبية العامة لإينشتاين وللرياضيين مراجعة النسبية الخاصة).

يبقى القول بأن اللغة بالنسبة للتفكير هي الهيكل العظمي واللحم الذي يغطيه والروح الذي تسكنه وهم جميعاً في وحدة واحدة لم يسبق وجود أحدهما الآخر. ولا يمكن للإنسان التفكير والتخيل والتصور بغير اللغة، إنه يفكر لغة (كلمات) ويتخيل لغة (كلمات)، وليس في هذا تناقض مع قولنا بعجز اللغة عن التعبير عن الكل الفكري والشعوري فهناك هذه الأفكار والمشاعر التي نتخيلها عبر الكلمات لا تسطيع الكلمات الوفاء بإخراجها إلى حيز الوجود والتعبير. فنعبر عنها كما قلت بالصمت (كما صمت عبادة الأخوة المسيحيين) أو البكاء وجداً أو شعراً صوفياً رمزياً فنتعزل بالذات الأهية كاملة البهاء بالتعزل بليلى أو سعاد ونرمز لنشوة الوجد والاقتراب من الله بالخمر ونشوتها كما فعل ابن الفارض وابن عربي وغيرهم من عظماء الصوفية الحقيقيين.

وكي نعود لموضوعنا الرئيس بعد هذا التأسيس وكي أشوق القارئ للقادم سأحلل النواب عندما يقول مصوراً نفسه في حانة يجلس وحيداً وكأس الخمر أمامه يحدق فيه:

"أين تركت ندماك حبيبي...
عبروا جسر السكر وماتوا الواحد بعد الآخر
وبقيت أحدق في الخمرة وحدي
وغمست يدي وبصمت على القلب سأسكر
أسكر ...
أسكر ... أسكر ... أسكر ..
فالعالم مملؤ بالليل
فكيف تعاتبني فأتوب
هل تاب النورس من ثقل جناحيه المكسورين
وهل تاب الطيب الفاغم في رفع امرأة خاطئة فأتوب
هل تاب الخالق من خمر الخلق
ومسح كفيه الخالقتين لكل الأوزار الحلوة في الأرض...."

كما يقول الشاعر سابقاً في القصيدة بأنه في العاشر من نيسان أظن في عام الانقلاب على عبد الكريم قاسم، هرب من العراق عبر الأهواز من النظام القومي الجديد في العراق والذي اعتقل الكثير من الشيوعيين العراقيين الذين كانوا على تحالف مع عبد الكريم قاسم. وقام النظام بإعدامهم.

إنه في هذا المقطع يصور نفسه وكأنه يجلس في خمارة بعد الهرب ويتذكر رفاقه ويناجي نفسه بحزن شديد، قائلاً لنفسه:
"حبيبي مظفر مخاطباً نفسه أو أمه يتخيلها تسائله (أمه التي عرفناها في قصيدة بالعراقية العامية فيما بعد تحضه على ألا يوقع ورقة البراءى من الحزب وقضيته وهو في السجن وتهدده بأنه لن يكون ابنها الذي أرضته من ثديها لو فعل لسجانيه ذلك) إين تركت نداماك (النديم هو الرفيق خاصة المشارك لك في شرب الخمر) حبيبي، لماذا ليسوا معك الآن في الخمارة (وهنا الندامى هم رفاق الحزب والخمارة هي الحزب الذي يبشر بنشوة الغد المشرق العادل)، فيجيب هو

‘عبروا جسر السكر وماتوا الواحد تلو الآخر‘

أي أنهم حملوا صلبان إيمانهم الحزبي والاعتقادي بالثورة والغد المشرق وتفوقوا على ذواتهم الأنانية بالتمسك بعقيدة الحزب الشيوعية التي كانت تولد فيهم نشوة الثوار ونشوة الأمل القادم وعبروا الفجوة التي قد تكون حتمية احياناً على الثائر، وهي بدل الوصول لتحقيق الهدف يتم تحقيق الهدف بمصير آخر متوقع لدى كل ثائر حقيقي، باعتقاله واعدامه، وهذا ما حصل للرفاق المعتقلين، فقد تم اعدامهم الواحد تلو الآخر. ما عادوا جسدياً وواقعياً موجودين معه في الخلية الحزبية أو الحزب ككل (الخمارة) وساحة شرب خمرها. ويكمل:

‘وبقيت أحدق في الخمرة وحدي‘

يقول لقد رحل الندامى "ياويلي" وبقيت أنا وحدي لا أشرب الخمرة التي هي تسكن روحي ودمي أي الاعتقاد الحزبي بل أنا أحدق في الكأس متذكراً الرفاق الذين مضوا وبقيت أنا بعدهم وحيداً أعاني وجد فقدهم وذكراهم وذكرياتهم. إنه يمزج ما في الذات بما هو واقع للرفاق الشهداء. لكنه يفي لنفسه وإيمانه العقائدي ولهم بالاستمرار بالتمسك بالعقيدة التي نذروا أنفسهم لها وأنه جاهز لملاقاة النصر أو نفس المصير الذي قابلوه، فهو يقول:

"وغمست يدي وبصمت على القلب سأسكر
أسكر ...
أسكر ... أسكر ... أسكر ..
فالعالم مملؤ بالليل"

إن استخدام النواب للفظة "وغمست يدي" تعبير ذي دلالة فائقة على أن ما اختطه لحياته من طريق لا وجود لذرة من التردد فيه. فهو لم يوقع على ما اختار بابهامه كما لو اشتري رجل قطعة أرض، بل غمس يده بإصابعا كلها في محبرة الانتماء كي يوقع صك التزامه بالحزب والثورة. إنه يقول "إنني اقمست ووقعت ببصمتي، ليس بأصابعي بل بكل ذراعي، على أن استمر في العقيدة والمبدأ كإيمان قلبي وعقلي وفكري. ويؤكد تمسكه اللامتزعزع بتأكيده بالقول "سأسكر (سأستمر في الارتواء من خمر الانتماء لقضيتي الحزبية وعدالته الاجتماعية) سأسكر، سأسكر..."

لماذا سيتستمر في دربه حتى نهايته ذلك لأن "العالم مملوء بالليل" بالظلم وعدم العدل وهنا ربما يعني العالم على إطلاقه ولكني أميل إلى أنه يعني بلاده العراق والوطن العربي.

ويبرر عناده الثابت المبدئي في اجابة لمن يشفقون على مصيره الذي قد يناله من إعدام:

"فكيف تعاتبني فأتوب
هل تاب النورس من ثقل جناحيه المكسورين
وهل تاب الطيب الفاغم في رفع امرأة خاطئة فأتوب
هل تاب الخالق من خمر الخلق
ومسح كفيه الخالقتين لكل الأوزار الحلوة في الأرض...."

كيف تلومني أو تنصحني بالتراجع عن درب الثورة ودرب رفاقي من قضوا من أجله فهل تاب وتراجع النورس عن طيرانه لأن جناحيه كسرتا أو مكسوران. فهل موت رفاقي مبرر اخلاقي لأتراجع عنهم. لا بل هذا الذي جرى وحدث من إعدام وتعتبره مبرراً للنكوص والتراجع هو، وهو بالذات، المبرر الأقوى لأستمر في دربي. ويزيد في التأكيد على الثبات مهما كان المصير المنتظر منذراً قائلاً: "وهل تاب الطيب الفاغم في رفع امرأة خاطئة فأتوب" أي هل العطر الذي تتعطر به المومس والتي يقاطعها ويحتقرها ويتجنبها الناس الأخلاقيون والتي يجب على العطر أن يهجرها، فهل هو قادر على هجرها، إنه لا يملك الإرادة ليتراجع عنها وينقذ سمعته من الالتصاق بإمرأة خاطئة ويتوب عن مرافقتها، إنني من ثم لا أستطيع التوبة مثله عن الثورة والعقيدة والرفاق فهي قدري ولا إرادة لي في هذا العشق الثوري. وهل تاب الله (استغفر الله العظيم) عن استمراره في خلق ما يحب الاستمرار في خلقه كي يحقق ما قرره مسبقاً للخلق من عبادة له، وهل هذا الرب نفض كفيه من الاستمرار والاشتغال بالخلق بسبب خطايا بعض من خلق؟!!! فهل هو يتوب ويتراجع عن عمل ما يحب بسبب خطايا الإنسان. وهل أنا بسبب جرائم النظام اتراجع عن الحزب والثورة؟ّ!!! إنه يستخدم أقصى ما يمكن لإنسان أن يأتي به من أمثلة على تمسكه بمبادئه وأهدافه عندما يتحدث عن استمرار الله في عملية الخلق بالرغم من كل أوزار ما يخلق.

هذا هو المقال الأول وأتمنى أن يكون قد وسع المدارك والتخيل لاستلهام عالم مظفر النواب الرائع الجميل والمعلم والمثقف.
وإلى اللقاء في المقال الثاني








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي