الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القاعدة والعالم.. من يفكك من؟

عبدالمنعم الاعسم

2010 / 6 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


يقول خطاب تنظيم القاعدة انه سيحطم العالم على رؤوس الغرب ويؤكد الغرب انه سيدحر قوى الارهاب وقد فكك الكثير من خلاياه ، وفي وقت متقارب، في غضون الاسابيع الماضية، قالت المصادر الامنية والعسكرية العراقية والامريكية ان التنظيمات المسلحة وفصيلها الرئيسي تنظيم القاعدة تلقت ضربات عميقة وجرى تفكيك الكثير من خطوطها واوكارها، وقتل الكثير من رؤوسها وافرادها، واجمل قائد القوات الامريكية في العراق الجنرال اوديرنو نتائج الحملة “المشتركة” بقتل 34 مسؤولا من بين 42 من قيادات التنظيم الارهابي.
ونشرت الصحافة الامريكية والغربية معطيات عن نجاح الحملة التي تشنها واشنطن وحليفاتها في تجفيف مصادر التمويل المالي للقاعدة، فيما فُهم من تصريحات كثيرة ان الادارة الامريكية تشعر ان التحديات الامنية في العراق التي تشكلها مجموعات القاعدة تراجعت كثيرا في حين تصاعدت هذه التحديات في افغانستان، ويلاحظ المراقبون سباقا محموما بين الحملة الاعلامية والعسكرية ضد القاعدة وبين الموعد المقرر لانسحاب القوات الامريكية من العراق في نهاية العام المقبل.
وتترك سلسلة التصريحات والمعلومات المتداولة في الاعلام الغربي والعراقي انطباعا بالتفاؤل مشوبا بالحذر، ويشار، في كل مرة، الى ان طبيعة التنظيم الارهابي العالمي المعاصر المستمدة من تجربتي حركة الافغان العرب (ابن لادن) والجهاد المصرية(الظواهري) خلقت معها عوامل استمرار وتواصل وتجديد، وتتمثل تلك العوامل(اولا) في البيئة السياسية الناتجة عن الاصدام التاريخي بين الاسلام الاصولي والغرب بعد هزيمة الاتحاد السوفيتي في افغانستان وقيام امارة طالبان هناك، حيث تفكك حلف المجاهدين مع المخابرات الامريكية والحكومات الاسلامية المحافظة، وحل العداء بينهما محل التحالف والتنسيق والرعاية، وتدخل في حشوة هذا العامل ردود الفعل الغاضبة في الساحات الاسلامية على سياسات الغرب حيال اسرائيل، وقضايا الحرب وتحويل دول فقيرة الى مكبات للنفايات واعمال النهب والافقار والتخلف التي تتركها الشركات والمؤسسات الغربية في الدول الاسلامية والفقيرة.
و(ثاني) عوامل استمرار الارهاب وصعوبة القضاء عليه يمكن رصده في الاليات التنظيمية المعقدة للقاعدة، حيث صنعت فقها جهاديا مسلحا يقضي باعتماد نخبة صغيرة من المقاتلين الانتحاريين الكفوئين والمدربين جيدا على استخدام انواع الاسلحة والتقنيات والمعارف المختلفة تتولى ادارة مركز التنظيم وشبكة اتصالاته واعلامه وامواله، ومجموعات كثيرة من الموالين والمتطوعين والاتباع، في جميع القارات، الكثير منهم منخرطون في “خلايا نائمة” قيد الاشارة للتحرك الى اية مهمة، وبعضها يبادر ذاتيا الى توجيه ضربات لـ”العدو” حيثما تسنح الفرصة وتتوفر الامكانيات.
و(ثالث) هذه العوامل التي يستند اليها الارهاب الدولي للتواصل تتوفر في التسهيلات التي يحصل عليها في شبكة القوانين والانظمة والثغرات والفرص في الدول الاوربية والعديد من الدول الاسلامية والعربية، وقد احسنت شبكة القاعدة، الى حد بعيد، استثمار هذه البيئة الرخوة في مجالات الاعلام والتدريب والتجييش والتمويل المالي، وقد تم الكشف خلال العام الماضي (فجوات امنية قاتلة) في اكثر من بلد اوربي تسللت من خلالها عمليات ضربتأ او كادت تضرب، في قلب الهيبة الامنية والسياسية في الولايات المتحدة ومناطق كثيرة من العالم.
بوجيز العبارة، لم تعد انشطة القاعدة في العراق، والعالم، كرد فعل عقيدي او سياسي على ما كان يعتقد بانها مهانة للاسلام والمسلمين من قبل الولايات المتحدة والغرب.. بل هي مشروع سياسي، بمفردات واجندات كثيرة، دخل معادلة الصراع في العالم غداة انهيار نظام القطبية الثنائية وعهد الحرب الباردة، وصنع بسرعة لافتة مكانا له في لعبة الاحتمالات.
من جانب آخر يُعدّ الارهاب الدولي، ومفرداته ذات الصلة بالتطرف الاسلامي “الجهادي” والهوس القومي والتجييشية الوطنية وبقايا اقصى اليسار المسلح جزءا عضويا من الخارطة السياسية العالمية لما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانظمة الاشتراكية في شرق اوربا، وإذ جرى، على وجه السرعة، بناء تحالف دولي لموجهة الارهاب بقيادة الولايات المتحدة، فانه، بالمقابل، تشكلت جبهة عالمية، او اعمال تنسيق وتعاطف وشراكة (غير معلنة) بين فروع الانشطة والمنظمات الارهابية ، على اختلاف ايديولوجياتها، وبيئاتها الجغرافية، واحتل تنظيم القاعدة بقيادة اسامة بن لادن مكان القوة الرئيسية، والرادعة، في هذا التجمع، يعادل المكانة التي تحتلها واشنطن في التحالف المناهض.
ومن الطبيعي ان يرى المحلل الحقيقة الموازية التالية: ليس كل دول العالم، ولا كل تجمعاته السياسية موزعة بين هذا القطب او ذاك من المعادلة.. فثمة الكثير من الدول، وحتى في اوربا، تقف في المنطقة الوسط: تهادن النشاط الارهابي، وتتجنب مواجهته، وتغض الطرف عن خلاياه وحركة تمويله وتحرك زعمائه وتابعيه واعوانه، في ذات الوقت الذي تنفذ مطالب الولايات المتحدة وقرارات المنظمة الدولية ذات الصلة، ويمكن لنا ان نعدد العشرات من الدول التي تقف في هذه المنطقة، فيما يتعامل الارهابيون مع هذا الواقع بالكثير من المرونة، وينأون باعمالهم وهجماتهم عن ساحات موالية للغرب، بل وتنتشر فيها قوات امريكية ومصالح اسرائيلية تدخل اصلا في مرمى خطاب التجييش والجهاد الذي تروجه وتلتزمه.
الى ذلك، فان مصير القاعدة والارهاب العالمي يتوقف، كما يبدو، وفي المقام الاول، على نتائج “الحرب” المصيرية شديدة التعقيد التي تخوضها في كل من باكستان واليمن حيال حملة هجومية منهجية تدعمها الولايات المتحدة لوجستيا وماليا، فانه على وفق نتائج هذه الحرب يتقرر مشروعها في كل من العراق( دولة العراق الاسلامية) وافغانستان(اعادة نظام طالبان) اخذا بالاعتبار ان الساحتين كانتا الظهير الرئيسي للمشروع الارهابي، إذ انطلقت طالبان وصنيعتها القاعدة من مناطق شرق باكستان بدعم ورعاية المخابرات الباكستانية، فيما كانت مناطق ابين اليمنية بمثابة معسكرات تدريب وتأهيل لجيل من الانتحاريين الذين توجهوا الى العراق بمعرفة (او تشجيع) السلطات المحلية.
لكن من التبسيط، والخطل، الاعتقاد بانه بامكان القاعدة والمشروع الارهابي الدولي الحاق الهزيمة بالولايات المتحدة وحلفائها، ليس فقط لانهما لم يقدما مشروعا بديلا (قابلا للتحقق)عن العلاقات الدولية القائمة او عن النظام الدولي القائم، بل وايضا، لانها لا تملك الاليات والقوة الاستراتيجية التي تضمن تحقيق الفوز على التحالف المناهض للارهاب، في وقت تنحسر امكانيات تنظيم القاعدة وتضيق، الى ادنى حد، القاعدة الاجتماعية التي تتعاطف معها، فيما يتكرس الطابع الاساسي والمبكر لها القائم على عمليات وسياسة رد الفعل.
اقول من التبسيط الاعتقاد بحلول عصر دولي تديره القاعدة ومنظومات التطرف والتجييش، على الرغم من ان شعاراتها تندد بالمظالم والجبروت، وان العالم ملئ بالمظالم والانتهاكات وسياسات العدوان والاستهتار والاملاء والدكتاتوريات وانظمة الحزب الواحد والطغمة الواحدة ومصادرة الحقوق.. فهل ان موصوفات ابن لادن السياسية، وحروبه، وخطبه تستوعب(وتأتمن) حقا هذه العناوين من شكاوى الملايين في العالم؟ اما انها نفسها اصبحت ايضا مصدرا اضافيا لتلك للشكوى؟.

***
لم يسبق للعالم المعاصر ان اتفق على مواجهة مشكلة مثلما اتفق على محاربة الارهاب، ولم تجرأ دولة من الدول الاعضاء في الامم المتحدة(بمن فيها المنتفعة من القاعدة أو المهادنة لها) على الامتناع عن التوقيع على الاتفاقيات والضوابط الدولية لمكافحة الارهاب.
فقد وضعت الأمم المتحدة ثلاث عشرة اتفاقية دولية موضع التطبيق، وتابعت عبر لجان ناشطة، ضبط الجهود في مجال مكافحة الإرهاب ووضع قواعد قانونية ورقابية لتجفيف تمويل الجماعات المتطرفة المسلحة، وأنشأ مجلس الامن الدولي هيئات فرعية عديدة لملاحقة الانشطة المختلفة للقاعدة بالتركيز على خيوط التمويل المالي التي كانت في حقيقة الامر “خزانة جبارة من الاموال” كما افاد تقرير مبكر للامم المتحدة.
وفي هذا السياق قدمت الامم المتحدة مساعدات هائلة الى الدول الاعضاء التي تواجه اخطار الارهاب، وذلك في اطار استراتيجية مكافحة الارهاب التي اعتُمدت في 8 أيلول/سبتمبر 2006 وأُطلقت رسمياً في 19 أيلول/سبتمبر 2006 و تلتزم فيها جميع البلدان بمنع الانشطة الارهابية وتفكيك منظوماتها الايديولوجية والمسلحة، وجرى التركيز على قطع شرايين التمويل المالي الذي يشكل عصب الحياة بالنسبة للمشروع الارهابي الدولي.
وفي سيرة حياة اسامة بن لادن منذ ان التحق بنفسه وامواله في “الجهاد” ضد الوجود السوفيتي في افغانستان وما تحصّل عليه من السعودية والمخابرات الامريكية من اسلحة واموال هائلة ثمة حقائق عن مكانة الاموال في النشاط الارهابي، كما ان تقريرا متأخرا اعدته لجنة مكافحة الارهاب في الكونغرس الامريكي(العام الماضي) تضمن هو الآخر معطيات ميدانية مثيرة عن “عالم المال” الذي صنع القاعدة، ويشير الى “إن إقامة بنية تحتية لممارسة الأنشطة الإرهابية يحتاج إلى تكلفة عالية. فالشبكات الإرهابية تحتاج إلى المال للتدريب والتسليح والإنفاق على عملياتها وتأمين المواد اللازمة لهذه العمليات، كما تحتاج التنظيمات الإرهابية المال للتجنيد والتدريب، والتخطيط للعمليات ورشوة المسؤولين الفاسدين" ويكشف التقرير استنادا الى لجنة التحقيق الخاصة باحداث 11 سبتمبر “ان الميزانية السنوية للقاعدة، قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 بلغت حوالي 30 مليون دولار. بل إن أحد فروع القاعدة وهو، تنظيم القاعدة في العراق، قد بلغت نفقاته في أربعة شهور من عام 2007 ما يقرب من 175 ألف دولار، ذهب نصفها لشراء أسلحة".
وعلى الرغم من مهارة اسامة بن لادن، ومساعديه، في ادارة الاموال والتمويل، وبخاصة مهارتهما في إدخال تغييرات على طريقة جمع التبرعات ونقلها الى بؤر وخلايا التنظيم، فإن تعقب معاملات رجال القاعدة المالية من قبل الامم المتحدة واللجان الامريكية الخاصة وشرطة مكافحة الارهاب في الدول الاوربية، وبعض ادارات المصارف في الخليج ومصر جعل من الصعب على النشطاء والانتحاريين الارهابيين القيام بعمليات لوجستية مثل السفر وشراء المواد وتوفير المال لعائلاتهم وتجنيد مزيد من المتطوعين، ومن ثم فإن جملة المصدات التي استخدمت في الحيلولة دون وصول افراد وقيادات القاعدة بسهولة إلى الأدوات المالية جبرهم، بمرور الايام، على استخدام وسائل أخرى للتمويل أكثر تكلفة وأقل كفاءة، كما ان اجبارهم على الحذر والاحتراز الدائم لحماية معاملاتهم المالية جاء بنتائج ايجابية لمكافحة الارهاب.
والاهم في هذا، ان حملة مكافحة الارهاب التي تنخرط فيها مخابرات جميع الدول الاعضاء في الامم المتحدة وجدت في حركة تمويل القاعدة خيوطا (او فخاخ) توصل الى شبكة التنظيم، ولدى المحاكم التي نظرت في انشطة الارهابيين في المانيا وفرنسا والولايات المتحدة والمغرب واليمن ومصر مؤشرات مهمة عن صعود دولة القاعدة المالية.. وسقوطها.
لقد تـَشكلَ تنظيم القاعدة اساسا من “مجاهدين” عرب يقاتلون في افغانستان، وبالاخص(في البداية) من فلول الاخوان المسلمين المصريين والخليجيين الذين وصلوا الى هناك، اول الامر، في اوائل الثمانينات ثم تدفقوا في مجموعات منظمة بعد لقاء الرئيس الباكستاني ضياء الحق بالمرشد عمر التلمساني في مدينة بيشاور على حدود افغانستان، ويسجل مؤلف كتاب سيرة اسامة بن لادن (مقاتل من مكة) سببا مثيرا لذلك التدفق(ظهر واضحا بعد سنوات) وهو “رغبة الاجهزة الامنية العربية في التخلص من هؤلاء الشباب الذين بدأوا يثيرون صراعا لا ينتهي بالنسبة لهم عبر اللقاءات والندوات في المساجد، والمواجهات الدامية في كثير من الدول العربية والاسلامية”.. “وكان ان تم الزج بهؤلاء في اتون الحرب الشرسة السوفيتية الافغانية بغية التخلص منهم”
وذلك قبل ان ينقلب جميع “المجاهدين” على بلدانهم ويعودوا لها (من افغانستان) بعزائم وخطط تستهدف تدمير استقرارها واضرام الحرائق في كل ما يقع في متناول ايديهم، لكن، من دون ان تكف تلك الدول واجهزتها الامنية عن منهج زحلقة شبيبتها المتطرفة الى الانتحار خارج الحدود، كما حدث ويحدث على ارض العراق، والجديد يتمثل في ان اجهزة مخابرات الدول العربية والاسلامية صارت تتجنب تسهيل انتقال “الالغام البشرية” الى اوربا أو الولايات المتحدة(لإسباب معروفة) واقتصرت محاولاتها على تصدير تلك الالغام الى الدول المجاورة او القريبة او “الرخوة” او التي تشهد اضطرابات، وانتهى الامر الى حقيقة مفزعة كانت قد اشارت لها دراسة اعدتها الامانة العامة لمجلس وزراء الداخلية العرب بالقول “ وبلغت نسبة العمليلت الارهابية في الشرق الاوسط 97, 53% من اجمالي العمليات، وتاتي وراؤها المنطقة الاسيوية بنسبة 13,8% ثم افريقيا 7,8% وامريكا اللاتينية بنسبة2,% “
ومنذ اكثر من عامين كشف على نطاق واسع عن ملف يحوي استمارات شخصية لأكثر من 600 مقاتل أجنبي تم تهريبهم خلال عامي 2005 و2006 من دولهم في السعودية، واليمن، وتونس، والجزائر، والمغرب، ومصر، ولبنان، والكويت، وسورية، والأردن، وفرنسا، وايرلندا، والسويد واسبانيا عبر الحدود السورية الى العراق للانضمام الى “دولة العراق الإسلامية” المرتبطة بتنظيم القاعدة، وكان ذلك ذروة اعمال التجييش ضد العراق الجديد، إذ لم يخرج من هذا المستنقع سوى عشرات من هذا العدد.
اللافت ان تجربة”الجهاد” خارج الحدود كانت واحدة من مصادر قوة تنظيم القاعدة الذي صنع من خميرة هؤلاء المغتربين العقائديين اجيالا متطورة من الانتحاريين الذين نفذوا اختراقات مثيرة في منظومات الامن الدولي وشنوا هجمات مدوية في عقر دار “العدو” وتنظيم مجازر مروعة في خطوط ومحطات مواصلات وفي منتجعات سياحية وكانوا وراء اسقاط طائرات ركاب وتحطيم سفارات واعمال قرصنة ماهرة التنفيذ والتخطيط، لكن، وفي ذات الوقت، تحول “الجهاد” خارج الحدود الى عبء على تنظيم القاعدة، بعد ان تطورت اساليب المراقبة والملاحقة، جنب عمليات التنسيق بين الولايات المتحدة وحلفائها، وتم الايقاع بشبكات وخلايا كاملة، والكشف عن بؤر التجنيد والتدريب، واصبح معروفا بان الكثير من شبكات التنظيم كشفت من خلال نقل “المجاهدين” الى منطقة الهدف، فضلا عن الكلفة المتزايدة التي تترتب عليه، وقد “اقتنعت القاعدة أنها ستكون أكثر فاعلية إذا بدأت في الاعتماد على الجماعات المحلية. ومن ثم أصبحت أقل مركزية مما كانت عليه في 11 من سبتمبر 2001” كما يفيد التقرير الاستخباري الامريكي.
وهذا يفسر الوقائع التي تفيد عن تراجع تدفق المقاتلين الاجانب في العراق.. فمن اين جاءت القاعدة بمقاتلين من اجل مشروعها المستحيل؟
في العراق لم يكن لفكر التطرف الديني “الجهادي” والحقيقة الموازية ايضا هي ان سياسات ونهج وسلوك ومغامرات النظام السابق كانت بمثابة الرديف(ثم الحليف) لتيار التطرف والمنظمات “الجهادية” في المنطقة، ومجموعة ابن لادن على وجه الخصوص، وقد نشرت تقارير اعلامية واستخبارية كثيرة عن لقاءات وخطط تعاون و”تداخل” بين الجانبين، بالرغم من تحريم تشكيل اي تنظيم جهادي مستقل في العراق تحت طائل الملاحقة.
وبعد سقوط النظام ووقوع العراق تحت الاحتلال تدفق المئات من مقاتلي القاعدة عبر الحدود وتلقوا من فلول النظام السابق مساعدات لوجستية وتسهيلات الاقامة والتحرك وبناء القواعد والعمليات الانتحارية المثيرة،وتشكيل تنظيم “التوحيد والجهاد في بلاد الرافدين” أو “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين” وقد عرف العراقيون لاول مرة هذا الشكل (الغريب) من التنظيم و”الجهاد” ولم يكن ممكنا تطويق نشاطه (طبعا) في ظل تخبط الاجراءات العسكرية والادارية الامريكية ، وضعف وانانية الادارة العراقية الجديدة التي خلفت ادارة صدام حسين، واستفحال الصراع بين اجنحتها وزعاماتها، واندلاع الاحتقان الطائفي الذي افرز(ولاسباب اخرى) مجموعات دينية متطرفة ومسلحة من الطائفتين الرئيسيتين في البلاد، خاضتا صراعا دمويا لا سابق له في تاريخ العراق المعاصر.
وعلى الفور تشكلت، بايدي غير عراقية، ملامح المشروع الارهابي “الجهادي” في العراق الذي سرعان ما خلق فجوة عميقة مع الشرائح المحلية المناهضة للتغيير والاحتلال لم ترقـّعها رطانات الجهاد و”المجاهدون اخوة” وكان اعلان قيام “دولة العراق الاسلامية” اواخر العام 2006 ومقتل رأس التنظيم الاردني ابو مصعب الزرقاوي فاتحة لشرخ ابتدأ بمعارضة وانتهى الى قتال شرس بين الجانبين، ثم، الى ولادة حركة الصحوات التي نجحت في تفكيك خلايا القاعدة في اهم منطقة حاضنة لها، الانبار.
ويبدو ان المركز العالمي للقاعدة (بن لادن - الظواهري) بدأ يحبذ احلال قيادات “عراقية” محل القيادات الوافدة في نطاق الاستراتيجية الجديدة التي تقوم على الاعتماد على “المجاهدين” المحليين والتقليل من حملات التطوع للقتال خارج الحدود، لكن تحقيق الانقلاب التنظيمي وعملية بناء القيادات المحلية مرت في اقنية عصية، وحالات يسهل رصدها وتجميع المعلومات عنها من قبل الجهات الاستخبارية، وسهلت في النهاية من اختراق التنظيم وتوجيه ضربات ماحقة له في اكثر من مفصل، ويجب الاخذ بالاعتبار عامل الزمن الذي بدأ يضغط على القوات الامريكية مع اقتراب موعد الانسحاب من العراق، إذ جرى تكثيف وتطوير وضبط التعامل مع تنظيم القاعدة حصرا، وقد تحققت نجاحات مهمة في الحملة بالقبض على الرأسين الجديدين للتنظيم، ابو عمر البغدادي (العراقي) وابو ايوب (المصري).
ويمكن القول، هنا، ان تنظيم القاعدة الارهابي يعاني الان في العراق من انحسار واضح، بالمقارنة مع السنوات 2006-2009 والاهم انه فقد التأييد في الوسط الشعبي، لكن الكاتب البريطاني المتخصص في نشاط الجماعات المسلحة جاسون بيرك يؤكد “ إن حركات التمرد المسلح لا يمكن تصفيتها أو هزيمتها، لكنها تفشل بسبب الضعف الداخلي. وهذا ليس بالفأل الحسن للمستقبل، لأنه عادة ما يضمن تجدد موجات العنف في مرحلة لاحقة”.
علينا ان نعيد قراءة هذا الحكم الواقعي بعين الواقع السياسي العراقي.. اللاواقعي.

***
أذا ما تهجأنا مواقف ومناهج اطراف الصراع في العراق بين المشروع الارهابي ومناهضيه لا بد ان نكتشف، يوما بعد آخر، ما يشبه لعبة خلط الاوراق ينخرط فيها الجميع، والنتيجة، انه لا أفق قريب الى قبر هذا المشروع وانهاء وجوده تماما، بالرغم من تفكيك الكثير من خلاياه وتصفية قياداته وتراجع امكانياته وانحسار قاعدته الاجتماعية، فدوامة العنف والجريمة والتفجيرات قد تستمر الى وقت طويل، لاسباب كثيرة، ابرزها ذي صلة بمنهج المحاصصات الطائفية وسياسات الاستئثار والتهميش الاجتماعية، فيما تتجدد بنى المشروع من فلول النظام السابق ومن ضحايا وابناء واخوة “مجاهدين” قتلوا في عمليات سابقة او من عائلات نـُكـّل بها وتسعى الى الانتقام.
ويجب ان نخضِع احتمال استمرار الاعمال الارهابية في العراق الى كثير من الدراسة والتأمل، على ضوء المنهج الخطأ الذي استخدم(وما زال يستخدم) في محاربة الارهاب، إذ جرى اقتصار الرد بواسطة”الاستخبارات الوقائية” بجانب التركيز على (افراد) الارهاب وانتمائهم الطائفي، لا على فكر الارهاب وخرافاته ومصادره الدينية والايديولوجية، بل ان المشهد السياسي القائم زاخر بالكثير من مفردات التطرف والخرافة الدينية وايديولوجية العنف والتجييش، ولا نكتشف شيئا اذا ما قلنا ان الشعارات السياسية للارهابيين بالدعوة الى الجهاد والقتال كثيرا ما نرصد ظلالها في شعارات فئات وشرائح وجماعات سياسية في قلب العملية السياسية، ولا ينبغي ان نقلل من خيوط هذه المصاهرة، بعد المعلومات التي نشرت مؤخرا في الصحافة العراقية عن تطوع مقاتلين شيعة في ديالى (من افراد مليشيات سابقة) في صفوف القاعدة، وقيامهم بهجمات انتحارية ضد مراكز القوات الامريكية والعراقية.
الى ذلك فان الوقائع الجديدة لنشاط خلايا القاعدة تفيد بان العديد من شبكات تنظيم القاعدة (خاصة في البصرة والموصل) قامت بتغيير أساليبها، خلال الفترة الماضية، التي أعقبت مقتل البغدادي والمصري، وهو استخدام أسماء معينة لفصائل مسلحة، تدل على إنها “وطنية” مثل “كتائب تحرير العراق” و”فصائل العراق العربي” فضلا عن انتحال أسماء لجماعات معروفة ما تزال تلقى التأييد في مناطق غرب العراق مثل “الجيش الإسلامي” و”حماس العراق” و”كتائب ثورة العشرين” ولا ينبغي ان نفاجأ حين يعلن تنظيم باسم “سيد الشهداء” مسؤوليته عن هجوم سقط فيه مئات المدنيين.
على ان التفكير في مستقبل تنظيم القاعدة في العراق لا يمكن ان ينأى عن التفكير في مستقبل فلول حزب البعث، فثمة الكثير من التلازم(والمنطلقات واعمال التنسيق) بين انشطة الجماعتين، كما ان الحملة العسكرية والامنية التي استهدفت التنظيمات البعثية المسلحة هي الاخرى ارتكبت الخطأ نفسه في محاربة القاعدة: ردع البعث كافراد وموظفين وابناء طائفة دينية، لا ردعه كممارسة في الاستئثار بالسلطة والنهج الشوفيني ونهب ثروة البلاد والدكتاتورية التسلطية والتجييش والحروب.. الخ، مقابل ذلك فان علينا ان نتلمس في خلفيات المواجهة ضد الارهاب التي تبنتها احزاب العملية السياسية المتنفذة مخاوف (مخيفة في ذاتها) معبر عنها في نزعة خلط الاوراق، وهوس احتكار السلطة، فتذهب (في واحدة من الادبيات المتداولة) الى ما يشبه الفضيحة بالقول ان “القاعدة لا تعتبر طرفا منافسا لنا حيث انه لا يطرح مشروعا سياسيا للدخول بالعملية السياسية بالعراق.. في وقت حزب البعث يطرح مشروعا سياسيا حسب شروطه”.
وهكذا.. نحن الان نمسك خيطا مهما لترسيم مستقبل تنظيم القاعدة في العراق، إذ يفقد هذا التنظيم حشوته الداخلية ومبررات انتشاره، لكنه يستعيض عنها (ويجدد ادواته) من موارد اخطاء وفجوات العملية السياسية، و”منهج” فئاتها المتنفذة، ضيق الافق، وقصير النظرة الى المستقبل.. وأناني الهوى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بحث غني وجدي ولكن
اكاديمي مخضرم ( 2010 / 6 / 17 - 10:56 )
شكرا للاستاذ عبد المنعم على هذه المقاله الغنية بالمعلومات والجدية في تعاملها مع افة عصرنا - الارهاب- والخطر الاكثر اهمية الذي يواجه العراق والعراقيين والذي يستوجب لوحده ضروره تاريخيه لتجميع كافة القوى الحيه في مجتمعنا لمكافحته وتصفيته حيث بدون ذالك يبقى اي هدف اخر مهما كان نبيلا قضية
لم يحل اوان حلها بصورة اعتياديه
صحيح ان هنالك العديد من الامور تثير النقاش وتستلزم التوضيح الاكثر والاعمق
حيث انني اعتقدبضرورة البدء على النطاق الشعبي بعقد ندوات عن الارهاب ومخاطره وطرق مكافحته ويمكن لمقالة الاستاذ الاعسم هذه ان تكون ورقة الافتتاح له وانني اتمنى على الحوار المتمدن تبني هذا الاقتراح والدعوة لعقد مثل هذا المؤتمر او الندوة
وبالرغم من ذالك فانني اعتقد ان في هذا النص ثغره فكريه قدتكون من بقايا الحرب البارده او انها هفوة لسان - وهي الحجه المركزيه للارهابيين ومناصريهم اتمنى ان يعالجها الاستاذ الاعسم على الاقل بمقالة او اكثر
والامر يتعلق بالجمل التاليه
- واعمال النهب والافقار والتخلف التي تتركها الشركات والمؤسسات الغربيه في الدول الاسلاميه والفقيره والعالم ملئ بالمظالم والانتهاكات الخ

اخر الافلام

.. ماذا وراء تقارب السودان وروسيا؟


.. الاحتجاجات الداعمة لغزة: رئيسة جامعة كولومبيا تهدد بفصل طلاب




.. بلينكن: أمام حماس عرض -سخي- من قبل إسرائيل.. ماذا قال مصدر ل


.. الانتخابات الأميركية.. شعبية بايدن | #الظهيرة




.. ملك بريطانيا تشارلز يستأنف مهامه العامة | #عاجل