الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفصل 28 من رواية تصبحون على غزة

حبيب هنا

2010 / 6 / 18
الادب والفن


28
على مدار شهرين في كل أسبوع مرتين كان إبراهيم يصطحب إسماعيل إلى مركز الخدمات الاجتماعية ذهاباً ، ثم العودة إليه لاصطحابه بعد الانتهاء من الدوام إياباً ، وفي كل مرة كان الوضع يزداد تعقيداً وينمو في داخله السؤال الكبير : ما جدوى بقائنا في مكان لا ننتمي إليه، وناسه ليس أهلنا ؟
وذات ليلة احتدم النقاش بين الوالدين، وعصف بهما كرياح مجنونة أوشكت على اقتلاع خيامهما من واحة الانسجام والتناغم حين تساءل إبراهيم عن جدوى الاستمرار في الذهاب إلى مركز الخدمات الاجتماعية في ظل قرب موعد العودة إلى الوطن بعد أن اقتربت الشركة من تصفية أعمالها ، فقالت ريتا وفي عينيها بريق لم يألفه من قبل :
- جدوى الذهاب ، هو تخليصه من العنف والوحشية التي أخذت تطفو على سطح سلوكه في الآونة الأخيرة .
- وإذا غادرنا قبل اكتمال هذه المرحلة ، هل سيكون بوسعنا إخضاعه لنفس الطريقة في الوطن الأصل في ظل غياب مؤسسات من هذا النوع ؟
- لن نكون بحاجة إلى مثل هذه المؤسسات ، وفقط ، كل ما نحتاج إليه عدم اختلاطه بأبناء عمته حتى لا يعود إلى الصفر مجدداً !
- إذاً ، فأنت تحملين مريم مسؤولية ما آلت إليه سلوكيات إسماعيل..
- ليس هذا بالضبط ، غير أن الأمر له علاقة من قريب أو بعيد وينبغي عدم تكراره .
- بهذا المعنى ، فأنت تطالبين بعزله عن باقي أفراد المجتمع ، فهم جميعاً شربوا من كأس الموروث الشعبي الذي شربنا نحن منه ..
- ليكن كذلك !
- وماذا ستكون النتيجة ؟
- ليكن ما يكون ..
- أليس الأجدر أن نبني لك وله جمهورية خاصة لا يحق لأحد الاقتراب منها ؟
- تهكمك هذا لا يمنعني من الدفاع عن ابني بكل الوسائل !
- وهل هو ابنك وحدك ؟ أليس أنا شريكاً معك ؟ ربما أتيت به من بيت أبيك !
- بدلاً من البحث عن فكرة خلاقة تبعد عنه شبح العنف والوحشية، تنبري في التهكم عليّ
- لأن ما تقولينه جنون لا يبرره حرصك على إسماعيل ، ولا يشفع له التوتر الذي أصابك جراء ما تعرضنا له من التزامات أمام الشرطة . ينبغي لك أن تفكري بمنطق عقلاني يخرجنا من هذا المأزق لا أن نفاقمه ..
- لا بأس في ذلك . دعنا نفكر سوياً ، ولكن قبلها ، أشعر أن هناك سراً تخفيه عني، وما أظن أنني سأسألك عنه ، ولكن إذا ما أردت أن تقوله من تلقاء نفسك فلا مانع لدي من سماعه !
- ليس هناك سر في حياتي سواك . فأنت كل شيء بالنسبة لي ، وأنا صفحة في كتاب مفتوح أمام عينيك التي لا أقوى على الصمود أمامهما ، وإذا كان يخالجك شك في هذا انظري في عيني وقولي غير ذلك ..
أسبلت عينيها . عادت برأسها إلى الوراء . ضفائرها انتشرت على صفحة الوجه . اشتبكت الأصابع . اصطدمت الأرجل . أخذ البرد يضرب زجاج النوافذ بإيقاع يكاد يكون مستحيلاً وغير مكرر .
في الصباح كان الأمر مختلفاً . الأجواء صافية من الغيوم ، ونقاش الأمس لم يخلف ترسبات التوتر.كان يوماً حافلاً بكل الدلالات التي من شأنها تأكيد الحب وملحقاته الضرورية ، حب خاص وفريد لا يعرف معناه ومضامينه سواهما ، فيه ومن خلاله أخذهما قارب الشطحات الرومانسية على ضفاف نهر المتعة والتألق الذي لا يخلو من التأوه والألم وانصهار الذات المشبعة بالوجع عند مصب الذكريات وطقوس الضجعة الأولى .
آه .. كم هو غريب هذا الكون ، يمنحنا الحب والسعادة والطمأنينة والاستقرار في لحظة ، ثم يخطفهم في اللحظة التي تليها !
آه .. يا إلهي هل كان الحب كثيراً علينا ونحن أحوج الناس إليه كي تضعنا في هذا المأزق ؟!
وفي المساء ، كانا مشبعان بالهدوء . دخلا في نقاش رصين أفضى إلى توافق في وجهات النظر ونتائج ملموسة واتفاق على آلية تنفيذ الخطوة المقبلة : الذهاب غداً إلى نقابة الأطباء العرب في ألمانيا والالتقاء مع الفلسطينيين منهم وحثهم على إنشاء مركز خدمات اجتماعية في الوطن وفتح المجال أمام من يرغب من الأطباء العرب للعمل بغية علاج أكبر قدر ممكن من أطفال فلسطين الذين تعرضوا لتأثير الموروث الشعبي أو لأي ممارسات أدت إلى تقمصهم أدواراً عنيفة وسلوكاً وحشياً في الحياة العامة ، فضلاً عن التعرض اليومي لمختلف أنواع العداء وحرمانهم من طفولتهم مبكراً، وما يتمخض عنه من إفرازات طالت براءتهم، وأفضت بهم إلى الانفصام في الألعاب العفوية التي تعبر عن مضمون اجتماعي يعانون منه ، وأكبر مثال على ذلك ، تشكيل فريقين على طرفي نقيض ، الأول يمثل دور العرب ، والثاني دور اليهود ، ثم يبدؤون اللعب بالتنكيل في بعضهم البعض ، تعبيراً صارخاً عن الوحشية التي يتعرضوا لها يومياً وما يتمخض عنها من روح العداء لكل القيم التي تحيط بهم وتتنكر لطفولتهم .
وكانت الفكرة رائعة تستحق التضحية من أجل إنجاحها ، ولكن ، هل بمقدورهم تنفيذها وتوفير الدعم المادي غير المشروط لها ؟
سؤال احتل صدارة التفكير ، خلصوا بعد التدقيق فيه ، إلى أنها فكرة بحاجة إلى تسويقها والدفاع عنها وحملها إلى أوسع القطاعات ، فإن نجحت عملوا ما عليهم عمله ، وإن فشلت لن يضيرهم شيء ، فقد نالوا شرف المحاولة ، ولعل من يأتي بعدهم يوفق في جهوده إن حاول مجدداً .
على أية حال ، ارتاحا لهذا النمط من التفكير بروح الجماعة وما يتوجب عليهما فعله ، وناما هادئي البال ، على أمل أن يباشرا في الصباح تنفيذ ما اتفقا عليه . وعندما نهضا كان الجو صافياً ، كأن أزهار الربيع تفتحت وفاح أريجها ، يملأهما النشاط والحيوية ، تفاءلا خيراً وباشرا العمل بعد الإفطار مباشرة . ولما وقفا وجهاً لوجه أمام نقيب الأطباء العرب ، ازداد تفاؤلهما عندما قابلهما بالابتسامة العريضة والوجه البشوش الذي ينم عن دراية كافية في استقبال الضيوف .
وعندما طرح إبراهيم الفكرة عليه ، نهض عن مقعده وهو يبتسم . في البدء اعتقد إبراهيم أن هذا السلوك الوقور من الرجل تعبيراً عن دراية وحسن تصرف ما يلبث أن يتغير بعد لحظات ، غير أن الأمر كان مختلفاً تماماً . تقدم الرجل تاركاً مقعده خلف المكتب ، إلى أن، صار في الطرف المواجه لهما ثم جلس قبالتهما على مقعد الضيوف وهو يردد كأن به يحدث نفسه : أيعقل أن نكون وصلنا إلى هذا المستوى من التفكير ؟ وكانت الإجابة سريعة في أعقاب الحديث إليهما:
- منذ جلست على هذا المقعد ، قبل أربع أعوام ، لم تصادفني فكرة خلاقة على هذا المستوى من الجدية والقدر، فكرة تستحق صب جهود ليس فقط الأطباء الفلسطينيون، وإنما أيضاً العرب جميعاً، وليس فقط على مستوى فلسطين وإنما على مستوى الوطن العربي الذي يعاني أطفاله حالة القمع والحرمان منذ نعومة أظفارهم، ولكن ينبغي أن نبدأ بفلسطين التي تتعرض لازدواجية القمع والحرمان.
صمت قليلاً، يبحث عن الكلمات التي يتوجب قولها في موقف كهذا، ولكن إبراهيم تحدث قائلاً:
- إذن بماذا تنصحنا من أجل تطبيق الفكرة؟
- لا تقل هذا، فأنا لست على قدر نصيحتكما، فأنتما أقدر مني على فعل الصواب بعد أن سمعت فكرتكما، ومع ذلك، ليس أمامنا سوى العمل من فورنا حتى نصل إلى ما نبتغيه.
- كيف؟
- الآن، سأستدعي الأطباء الفلسطينيين وأضعهما في صورة الأمر، ثم سأدعو إلى جلسة طارئة لمجلس إدارة النقابة؛ حتى نتبنى الفكرة، ونعمل على تطبيقها بأسرع ما يمكن، بما في ذلك، جمع التبرعات من الجاليات العربية التي كل ما يهمها أن ترى فلسطين حرة، وأعلامها ترفرف في كل مكان .
- ما هو المطلوب منا الآن ؟
- لا شيء . فقط اترك لي رقم هاتفك حتى أتمكن من الاتصال بك في أقرب وقت . على أنه ينبغي الحصول على موافقتك أولا عندما يتم ترشيحك لمنصب المدير الإداري .
- أنا !
- نعم أنت. ليس هناك من هو أكفأ منك لهذا الموقع، ثم أنك من سكان فلسطين وصاحب الفكرة، ويمكن لك أن تساهم في تطويرها طالما تمتلك هذا النوع من الأفكار..
- لا بأس.
- حسناً، سأتصل بك خلال أيام..
- إلى اللقاء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب