الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قتلوه ولم يمشوا في جنازته

نضال الصالح

2010 / 6 / 19
الادب والفن


كان لقاءنا الأول في المستشفى حيث كنت أجري بعض الفحوصات الطبية وكان هو ضمن مجموعة تجري عليها شركة أدوية عالمية تجارب لدواء جديد. لم أستطع أن أكتشف وليومنا هذا إسم ونوع ذلك الدواء او الأمراض التي يعالجها، فلقد كانت التجارب سرية. كانت الشركة تقوم بتجاربها على مجموعة من المتبرعين مقابل مبلغا من المال يدفع لهم بعد توقيعهم على وثيقة بأنهم يعوا خطورة التجارب وأن الشركة غير مسؤولة عن أي ضرر يحدث لهم بسببها. كانوا فئران تجارب بامتياز.
فاجأتني سعة ثقافته وولعه بالقراءة وكان يعرف تفاصيل قضية الصراع العربي الإسرائيلي وقضايا المنطقة العربية الأخرى وخاصة الحرب على العراق وخلفياتها. ثقافته الواسعة كانت عاملا أساسيا في توثيق عرى الصداقة بيننا التي إستمرت بعد تركنا المستشفى.
سألته عن سبب إشتراكه في هذه التجارب التي قد تسبب له الضرر فأخبرني أن الحاجة الماسة للنقود هي السبب الوحيد الذي دفعه إلى الإشتراك، مع معرفته التامة بخطورتها. كان قد تجاوز الأربعين من عمره وبقي بسبب وضعه العائلي المعقد عازبا. كان وحيد والديه، والدته أصيبت بمرض عضال أقعدها في الفراش أعواما طوال، وكان يقضي معظم وقته بالإعتناء بها مما إضطره إلى البحث عن وظيفة ليلية تسمح له في النهار بالإعتناء بوالدته المقعدة، ولم يجد إلا وظيفة حارس ليلي لأحد المصانع مع أنه كان جامعيا ومؤهلا لوظيفة قيادية في أي مؤسسة حكومية أو شركة خاصة.
والده سخط على الدنيا بسبب مرض زوجته فأغرق همومة في شرب الخمرة التي كانت تحوله إلى إنسان عدواني يفجر سخطه وجام غضبه في كل ما حوله، يحطم كل ما تقع يديه عليه، إلى أن يخمد نار غضبه فينفجر في البكاء، حزنا وأسا على زوجته وعلى نفسه. كان يبكي حتى تنفذ قواه فينام حيث ماكان. كان سكره سببا في طرده من عمله وفي نهاية المطاف أحيل على التقاعد المبكر بتقاعد بسيط بالكاد يغطي ثمن الخمرة التي يحتسيها يوميا.
كان صديقي محاصرا بين والدته المريضة المقعدة ووالده السكير، يعتني بالإثنين ولا يجد من يعتني به. كان راتبه يكاد لا يكفي للمصاريف المعيشية الأساسية من ثمن غاز وكهرباء وماء وغذاء، هذا إلى جانب إحتياجات والدته الطبية التي لا يغطيها التأمين الصحي، فتكاثرت ديونه فراح يبحث عن أي مورد إضافي يسدد العجز في مدخوله المالي.
ماتت والدته بعد أن تعطلت كل أجهزة جسمها وبدأ جسدها يتقرح بشكل مخيف مما سبب لها الآلام المبرحة وأصبحت كل محاولات إبنها للتخفيف عنها غير مجدية وكان في لحظات ضعف يبكي و يتمنى أن تموت والدته لكي ترتاح وتريح. وأخيرا ماتت وبكاها بحرقة، وكان صوت في داخله يهتف به: ها أنت قد إرتحت أخيرا ولقد آن الأوان أن تعتني بنفسك وتعيش". دفنها ووالده وبعض الأقرباء والمعارف بصمت. وقف والده فوق القبر صامتا وبقي صامتا عندما عادوا إلى البيت وظل صمته مستمرا. كان يحتسي الخمر أو يذهب إلى الخمارة ويعود مخمورا فيلقي بجسده على الفراش وينام ويعلو شخيره الذي يملأ البيت.
عاد صديقي في صباح أحد الأيام من عمله الليلي إلى البيت ليجد فيه إمرأة غريبة قدمها والده له على أنها زوجته الجديدة. لقد عرف صديقي منذ الوهلة الأولى أن هذه المرأة هي جزء من مجموعة السكر التي ينتمي والده إليها ولا بد أنه إلتقى بها وتوطدت علاقتهما في الخمارة ومن خلال كؤوس الخمرة المتبادله. ولم يطل الوقت حتى تأكد حدسه، فبدلا من إعتناءه بسكير واحد كان عليه أن يعتني بسكيرين، متقاعدين، يصرفان تقاعدهما على الخمرة وينتظران منه إعالتهما. كانا بتأثير الخمرة كثيرا ما يتشاجرا فيتبادلان الصفعات والركلات والشتائم ويعملان تحطيما ما تبقى من أثاث وأواني في البيت.
لم يمض شهر على دخول الزوجة الجديدة إلى البيت حتى إستولت عليه وأصبحت الآمرة الناهية فيه وكانت في فترة صحوها تصب حقدها على صديقي لتجعل حياته لا تطاق وتجبره أن يخلي البيت لها. كانت الحياة بالنسبة لصديقي فعلا لا تطاق ولم يكن في يده وسيلة تخرجه من هذا المأزق الذي وجد نفسه فيه ولم يكن لدية مكان يأوى إليه. لقد ظلمته الحياة وما تزال مستمرة في ظلمه.
كانت الحياة تخبئ له مفاجئتين غير سارتين، الأولى موت والده. وجدوه في صباح أحد الأيام ميتا في فراشه. كان من المفروض أن يخفف موت والده من سطوة الحياة عليه وقسوتها ولكنه إكتشف أن والده في لحظة سكر قد كتب البيت بإسم زوجته الجديدة. لم تنتظر هذه دفن زوجها حتى جاءت لصديقي مشهرة في وجهه وثيقة ملكية البيت وتطلب منه الرحيل. لقد هددته بإحالة الأمر إلى الشرطة إن لم يرحل من البيت طواعيا. لم تنفع محاولاته في نقض الملكية فلقد كانت موثقة عند كاتب العدل.
المفاجأة الثانية أن الأطباء إكتشفوا أنه مصاب بتشمع في الكبد. لم يحتس الخمر في حياته، فتجربته مع والده السكير أبعدته عن الكحول، وها هو الآن مصاب بمرض، غالبا ما يصيب المدمنين على الخمرة. لقد أكد له الأطباء أن مرضه هو نتيجة التأثيرات الجانبية للدواء المجهول التي قامت شركة الأدوية بإجراء تجاربها عليه. لم يكن هناك من سبب آخر. لقد تأكد هذا القول حين أصيب بنفس المرض إثنان آخرآن من المجموعة التي جرت عليها نفس التجارب. ولكن لم يكن في يده أو في يدهم أي حيلة فلم يكن بإستطاعتهم مقاضاة شركة الدواء، فلقد وقعوا جميعا وثيقة إخلاء طرف شركة الأدوية من أي مسؤولية.
بين ليلة وضحاها أصبح صديقي مشردا مفلسا ومصابا بمرض التشمع الكبدي.
كنا نلتقي كل أسبوع في مقهى صغير، نتحدث عن الفلسفة والأدب والسياسة. كنت ملما بتفاصيل حياته ولقد حاولت تقديم المساعدة المالية ولكنه رفض بغضب خلت أنه سيتركني بعدها ويقطع علاقته معي. ولكنني لم أعلم بطرده من البيت وبمرضه الجديد، لم يخبرني.
فجأة إنقطعت إتصالاته بي وحاولت الإتصال به فلم أفلح. سافرت خارج البلد وعدت بعد أسبوعين ولم أسمع من صديقي أو عنه أي خبر وكل محاولاتي للإتصال به باءت بالفشل، فقررت زيارته في البيت. طرقت باب بيته فخرجت لي إمرأة تفوح منها رائحة الخمرة. سألتها عن صديقي فأخبرتني أنه لم يعد يسكن هناك وأن البيت أصبح ملكها ثم أغلقت الباب في وجهي. وقفت حائرا مصدوما ولم أدر ما أفعل. فتح باب الجيران وأطلت منه إمرأة في مقتبل العمر وأشارت إلي بالإقتراب منها ففعلت. حدثتني بتفاصيل ما حدث لصديقي بعد وفاة والده. سألتها إن تعرف أين أجده، أجابت بحزن:" ستجده مع المشردين، إبحث عنه هناك."
إتصلت بصديق لي يعمل مسؤولا في البلدية وأخبرته بالتفاصيل وطلبت منه أن يساعدني في البحث عن صديقي فوافق. بصفة موقعه في البلدية فهو يعرف مواقع المشردين وأماكن تجمعاتهم . بحثنا في جميع الأماكن التي يتجمع فيها المشردون، في أنفاق القطارات القديمة، في البيوت المهجورة وحتى في بيوت الكنيسة التي تقدم للمشردين الحساء الساخن، فلم نجده ولم يعرف أحد عن مكانه.
كان الجو شديد البرودة وكان الصقيع يغطي ورق الأشجار فباتت كشجرة عيد الميلاد. كان منظر المشردين بملابسهم الرثة يجلسون أمام نار أوقدوها من مخلفات القمامة ورائحتها النتنة تسد الأنوف يثير في المرء الغثيان. كنت أتسائل، هل نحن فعلا في أوروبا أم في الصومال؟ أهذه هي نتائج الرأسمالية الديموقراطية وهل هكذا يقيم فيها الإنسان.
شعرت أن صديقي موظف البلدية قد ضاق ذرعا بهذا البحث وقال لي بأن ننهي البحث ونتركه ليوم آخر. في تلك اللحظة تقدمت منا إمرأة في منتصف العمر عليها مسحة من جمال مدفون تحت تجاعيد سنين من التشرد وقالت:" ستجده تحت الجسر القديم." كنت أعرف أن الجسر القديم معطل وتنوي الحكومة هدمة ويجتمع تحت الجسر بعض المشردين ولكن في الصيف وليس في مثل هذا الجو القارص.
ذهبنا وبحثنا عنه. وجدناه تحت الجسر ملتف في معطف قديم طرفه مغمور في مياه النهر التي تجمدت فوقه. كان علينا كسر الجليد لتحرير معطفه. كان في حالة غيبوبة يكاد يتجمد من البرد. إتصل صديقي موظف البلدية بسيارة إسعاف، جاءت وحملته معها إلى المستشفى. ذهبنا خلفها فلقد كان من الضروري أن يظهر صديقي موظف البلدية إهتمامه بالمشرد حتى يهتم موظفوا المستشفى به. بدون ذلك سيجري إهماله. رجعنا إلى بيوتنا بعد أن تأكدنا أنه في أيد أمينة.
في الصباح الباكر إتصل بي موظف البلدية ليخبرني أن صديقي قد مات. جاؤا ليكشفوا عليه صباحا فوجدوه ميتا. أخبرني أنه يجب إطلاع الأهل من أجل أن يستلموا جثته. أخبرته أنه لا يوجد له أي أهل وأن ما من أحد غيري سيهتم بجثته. إنتظر المستشفى ثلاثة أيام وقرروا بعدها تسليم الجثة لشركة دفن تعاقدت معها ودفعت أتعابها مقدما.
خرجنا في جنازته ثلاثة، صديقي موظف البلدية وزوجته وأنا. بعد إنتهاء مراسم الدفن وضعت على قبره إكليلا من الزهور كتبت عليه: " يا صديقي! قتلوك وما مشوا في جنازتك."

د. نضال الصالح/ فلسطين









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال