الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سَرْدِيَّةٌ أُخْرَى لِلرَّائِيَةْ

السمّاح عبد الله
شاعر

(Alsammah Abdollah)

2010 / 6 / 20
الادب والفن



من قتل ميس إيجيبت ؟
ذلك هو السؤالُ الظاهريّ الذي يطرحُ نفسَه منذ السطور الأولى للرواية ، والذي لن يستطيع القاريء وضع أصابعه على إجابة أخيرية له ، حتى مع السطور الأخيرة لها ، والتي توهم القاريء أنها وصلت به إلى ما يمكن أن يشفي غليلَه ، وهو يبحثُ عن قاتلٍ واحدٍ ، أو قاتلين اثنين ، أو قتلةٍ كثيرين ، حتى مع هذه السطور التي تعرِّي مجتمعا بأكمله ، وتفضحُ تاريخا بتفاصيله ، نصفه كاذبٌ ، ونصفه مُزَوَّرٌ ، وتكشفُ جغرافيا شيمتها القبحُ ، ورائحتها عطنةٌ ، وأسقفها نازلةٌ على ساكني حجراتها بمطرٍ أسود لا يبلُّ غلة ، بقدر ما يزيد العطش .

نعم ، ولآخر أحداث القصة ، وحتى بعد أن تفضح الراوية نوايا الوارثين ، وتكشط بحبرها الأسود الجاف هذه الطبقة السميكة الناعمة من على وجوههم ، لتظهر ، ربما وللمرة الأولى في سرديات الطرح الإبداعي الحداثي ، جلدَهُمُ المخنثَ الأنانيَّ ، وضمائرهم الخربة المختبئة تحت ستراتهم الكاكية ، وأزرارهم اللامعة ، لآخر هذه الأحداث ، لن يكون القاريء قد وضع يده على القاتلِ أو القاتليْنِ أو القتلة ، وذلك ليس لخطأ تراتبي ارتكبته الكاتبة في بنيان الحكاية ، ولا لكسلٍ مظنونٍ في عملية التلقي ارتكبها القاريء آناء مرور عينيه على سواد الورق الأبيض ، وإنما وتحديدا ، لأننا جميعا قراء وكتبة ، لا يعنينا فكُّ شفرة مثل هذه الأحداث التي تبدو بوليسية للوهلة الأولى ، والتي يبدو حلُّ لغزها غاية في السهولة ، نحن ، قراء وكتبة ، سنكتشف أننا والِغُون في حب القتيلة ، ووالهون في استشراب تفاصيل ملامحها الربَّانية ، وسنكتشف – أيضا – أن أصابعنا وهي تبحث عن القاتلِ أو القاتليْن أو القتلة ، ليست بريئة تماما من دمائها ، وأننا – كلنا – مشاركون في إلباسها زينتها ، وفي ترتيل نشيدها بصوتنا المشروخ ، وفي تصويب مسدساتنا الدقيق على أحلى مناطق جسدها ، وفي تجهيز جثمانها ، وفي تشييع الجنازة .

مع سبق الإصرار ، لن يتاح للقاريء أن يجيب عن سؤال الراوية ، ومع سبق الترصد لن تصرح هي جهرا بهذه الأسماء المخبوءة والمعلنة ، ذلك لأن ثمة ميثاقا غير معلن ما بينهما بإضمامة الفعل ذاته داخل ثنايا الفاعل والمفعول ، ليتسنى لنا أن ننحي جانبا حالة القتل ، ونتابع حالة القسوة ، تلك الحالة التي تكاد تكون هي البطل الحقيقي لكل هذه الحكاية ، قسوة تغلف حتى أرق وأحلى وأصفى لحظاتنا الحانية ، تابع معي أيها القاريء هذه العاهرةَ الخمسينيةَ ذات الألقِ القديمِ ، والأرقِ المقيمِ ، وهي تستدرج رجلا لشقتها عنوة ، وتعريه معنّفةً ، وتُنيمه على ظهرِه زاجرةً ، وتعتليه مرهقةً ، ولا تنقطعُ عن تدخين سيجارتها ، ولا تنقطعُ عن إصدار الأوامر إليه ، تفعل ذلك الفعلَ الحاني بكل ما أوتيتْ من قسوة ، وكأنها تعاقب الرجل على فقره ، أو تعاقب نفسها على جوعها الجنسي ، أو تعاقب الزمن الذي رسم تجاعيده على وجهها ، تابع أيضا هذه الخادمة الحنون ، المحبة حتى الوله لسيدها الجنرال المتقاعد ، والذي يبكي بين يديها ويبللُ أصابعَ قدميها بدموعه لكي ترقَّ له ، وتمنحه بعضَ الودادِ العذريّ ، لكنها تأبي ، وتستعصَي ، رغم عشقِها الذائبِ له ، واحتراقِها – في وحدتها – بلهيب هواه ، تابع كذلك ذلك الطبيب العارفَ المثقّفَ ، ضمير هذه الحدوتةِ ، ولسانها الناطق بالنور ، تابعه وهو يحدّثُ فتياته المتولهات به في الهاتف ، يزجرهنّ بفظاظةٍ ، ويسبهنّ بغلظةٍ ، وينهرهنّ باستعلاءٍ ، ( يحتاج هذا الطبيب العارف المثقفُ ، قطعةً أخرى من الكلامِ ، وفسحة ثانية من الكتابةِ تليقُ بملامحِه ) ، ثم تابع معي أيضا ذوي الذقونِ الكثيفةِ ، والأقوال التي تتسنّدُ على جلدةِ كتابِ الله ، وهم يسمُّون باسم الله قبل أن يذبحوا ضحيتهم ، تمامًا كما يذبحون خراف الأضحيات .

إنها القسوة ، ذلك العنوان الآخر لهذه الرواية ، العنوانُ الذي لم تشأ الساردة أن تصدمَ به عيون من يتصفحون الأغلفةَ في ميدان طلعت حرب ، واستبدلته بعنوان آخر ، يشدّ عيون البنات الباحثات عن عرش لجمالهن ، ويخطف قلوب الفتيان الباحثين عن ملكات يحملن اللقب ، استبدلته الساردةُ ، لا لتخدعهن وتخدعهم ، وإنما – كما يليق تماما بحكّاءةٍ تمتهن الموضوعية – اختارت ذلك العنوان الحياديّ ، وكأنها بريئة من فعليْ القتل والقسوة .

البهيج في هذه الأقصوصة هو الفن ، المفرحُ في تلك الحكاية هو الحبكة ، المُسعِدُ بين كلّ تلك الشخصياتِ هو الحاكيةُ الذكيةُ بقدراتها النثريةِ الباهظة ، وإمكاناتها الشعريةِ التي تتسللُ لضمير الكتابةِ ، فتعلو بالحروفِ لتصلَ إلى حوافِّ الحكمةِ ، تماما كما ستظل المنتحرِةُ في حكايتها معلقةً على حوافّ الهواء لا ميتةً ولا عائشة ، ولكنها – وبعد أن تطلقَ الرصاصَ على رأسها ويسقطُ جسدها – لن تصدق أبدا أنها ماتت وتظلّ تصوّبُ داقةً بالرصاص على رأسها إلى ما لا نهاية ، وإذا كانت هناك كاميرا تستطيع التقاط صورتها في الأبد ، فستلتقطها صورة واحدة .. من شدة وسرعة تكرارها ستكون ثابتة .

إنه الشعر سيدُ الكلامِ ، وإنها الشاعرة عارفةُ الحكي ، هما اللذان سوف يصعدان بك من سطور ورقات الكتاب ، لتعلو فوق صِغرِ سؤالِ ( من قتل ميس إيجيبت ) .

أما إذا سألتني أيها القاريء العزيز قائلا :
ما اسمُ هذه الروايةِ يا كاتبَ الكلامْ ؟
سأجيبك :
اسمها ( ميس إيجيبت ) .
وإن سألتني يا عزيزي القاريء :
وما اسم هذه الرائيةُ التي كتبتها يا صاحب المقال ؟
سأقول لك :
إنها سهير المصادفة .

============
السمّاح عبد الله
============








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نور خالد النبوي يساند والده في العرض الخاص لفيلم ا?هل الكهف


.. خالد النبوي وصبري فواز وهاجر أحمد وأبطال فيلم أهل الكهف يحتف




.. بالقمامة والموسيقى.. حرب نفسية تشتعل بين الكوريتين!| #منصات


.. رئاسة شؤون الحرمين: ترجمة خطبة عرفة إلى 20 لغة لاستهداف الوص




.. عبد الرحمن الشمري.. استدعاء الشاعر السعودي بعد تصريحات اعتبر