الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة : جسد واحد ....، أمكنة متعددة

ادريس الواغيش

2010 / 6 / 21
الادب والفن


قصة : جسد واحد ....، أمكنة متعددة

أصبح (دوار الكرطون ) المرمي على أطراف المدينة صاخبا كعادته ، ذهاب و إياب إلى السقاية المنبطحة أمام دكان (السوسي) ، سحابة من الذباب الأزرق تتبع بائع الحوت المتجول ، شباب عاطل متكىء على السور العازل للدوار حتى لا يتمدد أكثر!. على هذا الإيقاع الرتيب استفاق يوسف هذا الصباح ، لقد هده التعب بعد زيارة غير متوقعة للبادية ، حيث يرقد جده مريضا منذ أسابيع. لم تغير المدينة فيه طباعا متأصلة ، اكتسبها منذ أن كان طفلا صغيرا بالبادية ، فبقي وفيا لعادات القرية وسكانها الطيبين ، يوسف حديث العهد بمدينة (فاس) التي لا يعرف منها إلا الاسم ، هاجر أبوه إليها من القرية بحثا عن العمل ، بعد أن أنهكه الجفاف ولازمته البطالة لسنوات في قريته. لكنه رحل من دوار بالبادية إلى آخر بالمدينة. لم يخطر ببال يوسف أن مكر الزمن يتربص به ، حين وجد نفسه فجأة في دوار اغتصبت فيه جمالية الطبيعية ، وعابت عنه رائحة الخبز الطري ، الخارج لتوه من الفرن البلدي ، وتسامح الناس البسطاء الطيبين.
أصبح يوسف يعيش نسخة (حضرية) رديئة لدواره الأصلي ، (دوار/ قمامة) تجمعت فيه نفايات الكاراجات المجاورة ، وقصدير المعامل المفككة ، وعلب الكرطون التي فقدت هندستها ، فأصبحت بلا زوايا. دوار يحتضن بلا رغبة منه شبابا عاطلا ، شيوخا مسنين بدون رعاية وأطفال نصف عراة. كان يوسف في القرية قريبا من المدرسة ، أما الآن في (دواره) الجديد ، المحسوب على المدينة ، هو أبعد منها... ! ، كثيرا ما يتساءل :
- " لماذا جيء بنا إلى هذا المكان ؟ ألم نكن في البادية أحسن حالا على ما نحن عليه الآن ؟ أين نحن من جيراننا الطيبين...؟ خالتي الضاوية... ؟ إمام المسجد العجوز ، الذي لا ينقطع عن الدعاء لنا بالخير... ؟ أين قطعان الغنم والماعز ، وهي مارة أمامنا في المساء ...؟ أين وأين...؟ ".
يقطع عليه أبوه خلوته :
- " مالك يا يوسف... ؟ أتحس بشيء...؟ ".
- لا....لا.....فقط أفكر...."
أصبح يوسف يعيش أسئلته البريئة كل يوم ، في غدوه ورواحه للمدرسة ، تتعثر خطاه في أسئلة أكبر
منه : لماذا...؟ وكيف ...؟ ، أصبح يسابق عمره ، اغتصبت فيه طفولته اليافعة ، فأصبح يفكر بعقلية أصيبت بشيخوخة مبكرة. أرهقته أسئلة تكبر مع أيامه ، وتتكدس يوما بعد آخر . يوسف أقرب إلى (يوسف) ، بلاغة الوسامة بادية على محياه ، رغم بعض الندوب التي احتفظ بها وجهه مكرها من زمن الطفولة ، وحدها من يعكر معالم المحيى الجميل. ذكي وصادق ، براءة الأطفال موشومة بنصاعة هواء البادية ، وطيبة الأرياف تأسر عقلية صغيرة ، ظلت وفية لتقاليد البادية وطقوسها.
كان يوسف بالبادية يمرح بين أشجار التين والزيتون ، يستمتع برؤية العصافير، وهي تحتفل بحريتها فوق أشجار الصفصاف ، تغرد بلا رقابة بين أشجار العليق أو فروع الكرمة الملتوية على أغصان شجرة الدردار العالية ، ينعم بالظلال الوارفة صيفا ، وبصفاء الثلوج البيضاء شتاء ، يستنشق الهواء النقي على مدار السنة ، وإذا به فجأة بين أربعة حيطان من قصب ، وسقف من الزنك والكرطون ، تدخل الروائح الكريهة المنبعثة من أكوام الأزبال إلى خياشيمه بلا استئذان ، لمجرد ما يخرج من باب المنزل - البراكة. لكن الأطفال هناك حيث البئر والبيدر يرون فيه عكس ذلك تماما ، يوسف الذي يعرفونه ، لم يعد هو الواقف أمامهم الآن بلباسه المديني ، قميص منمق بحروف لاتينية بارزة ، وحذاء رياضي يحمل علامة تجارية عالمية مشهورة !. لقد ودع الحذاء البلاستيكي إلى الأبد... ، أليس هذا كافيا لإثارة الانتباه إليه ؟ و إشعال نار الغيرة والحسد بين أطفال القرية كلها ؟ لكن يوسف له رأي آخر، هو لا يرى الأشياء بهذا الاختزال السطحي كما يراه أقرانه ، أعماقه تنطق بلغة أخرى ، و أحاسيسه تقول شيئا مختلفا ، آه لو فكت عقدة لسانه ، وتكلم بلسان عربي فصيح ، سيسمعهم كلاما آخر، وسيعرفون أشياء أخرى غير تلك التي يوحي بها مظهره القادم من المدينة ! .هم في القرية لا يعرفون دور الصفيح أو الأزبال المزمنة ، ولا قيمة (أم الحسن) وجمال الماء المتدفق من الشلالات والسواقي ، ولا يدركون أن يوسف (المديني) الواقف بينهم لم يعد يرى من الطيور إلا طائر(الزوش) ، يقفز أمامه ، يستفز مشاعره ككائن غير
مرغوب فيه ، و هذا الكائن السيئ الذكر (دوار الكرطون) ، يرن في أذنيه صباح مساء ، يطارده في سجلاته المدرسية ووثائقه الإدارية. بالأمس كان يفخر بانتمائه للدوار، لكنه اليوم ينكسر وجدانه لمجرد أن يسمع هذه اللفظة اللعينة (دوارالكرطون) ، الملتصقة به غصبا عنه. عالمان متناقضان يعيشان في جسده
الصغير المثقل بالهموم ، مفارقات يعيشها ، أو تمر أمام عينيه كل يوم ، وهو جالس في بيته أو في الطريق إلى المدرسة. يقرأ عن أشياء كثيرة لا يعرف إليها سبيلا : السينما ، التلفزة بالألوان ، الكهرباء ، غرفة النوم ، ركوب الحافلة ، المخيمات الصيفية ، الحاسوب ،.....!!. هو لا يعرف إلا الحساب بأصابعه ، أو بعملية الجمع ، كما علمها له أساتذته في المدرسة. لم يركب يوما حافلة في القرية أو المدينة ، كل ما يعرفه ، سيارة أشبه بحافلة يسمونها (207) ، تأتي ليلا لتنقلهم تحت جنح الظلام ، فيصبحون في البادية أو العكس. يسأل الأستاذ التلاميذ :
- " من يتحدث لي عن رحلة عبر القطار أو الحافلة... ؟ ".
يرفع البعض أصابعهم ، لكن يوسف الحاصل على أعلى معدل في قسمه ، يلوذ بالصمت وتغرق عيناه في عالم سفلي. يسأل الأستاذ ثانية :
- " وأنت يا يوسف... ؟ ألم تقل أنك تسافر كل عام في العطلة الصيفية ؟ ".
يصمت قليلا ، ثم يجيب ورأسه يكاد يغرق بين كتفيه :
- " نعم يا أستاذ...لكني أسافر ليلا رفقة أسرتي ، مكدسين مع أناس لا أعرفهم ، فيغالبني نوم لا أستفيق منه إلا في الصباح ، على أصوات الأنعام والفلاحين وهم ينشدون مواويلهم الصيفية في الحقول ، وقد أشرقت شمس القرية وديعة كما عهدتها ، من قبل أن أعرف المدينة !! ".
هكذا أصبح يوسف الصغير منقسما على ذاته المنذورة لأمكنة وأزمنة متعددة. هو لا يعرف لأي جيل ينتمي ؟ و لا لأي مكان ينتسب ؟. يلعب الكرة في الملعب المشبع بالغبار قريبا من (دوار الكرطون ) ، فإذا به ينزوي ، ليفكر في أصدقاء تركهم غصبا عنه وعنهم في البادية . ترى أين هم الآن... ؟ يطاردون العصافير أو يدحرجون كرة بلاستيكية ، بالكاد يحقن فيها شيء من الهواء ؟.
حين يكون في البلدة ، يكون منسجما مع ذاته ، مع أصله ومع أصدقاء الصبا ، لكن فجأة وهو يجري بالمحاذاة مع الوادي ، تخطر بباله صور أصدقائه بالمدينة : " أترى مازال خالد وفيا لعاداته ؟ ، يتسلل مع (ولد فاطنة) بين الركاب إلى الحافلة الهرمة ، في رحلة خوف رهيب من مراقبين يطاردونهم كالأشباح ، ويباغتونهم كي يبهدلونهم بلا شفقة ؟
أناس شديدو القسوة على الأطفال ، لا يعرفون ظروفهم ، ولا يسمعون لشكواهم أو استعطافاتهم. يسلبونهم بعض الدراهم ( إن تواجدت معهم) من دون رحمة ، وحين لا يجدون في جيوبهم شيئا ، يأخذون منهم خف الرجل اليسرى أو اليمنى ويلقون بها من النافذة ، ثم يرمون بهم كأشياء لا قيمة لها وسط المدينة المتعجرفة ، والمارة ينظرون إليهم بازدراء . أليست معادلة تستعص على عقلية طفل صغير ، مثل يوسف.... ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | شراكة تعد بولادة جديدة للسينما العربية..تفاصيل الم


.. ما هو اكثر شيء يزعج نوال الزغبي ؟??




.. -احذر من صعود المتطرفين-.. الفنان فضيل يتحدث عن الانتخابات ا


.. الفنان فضيل يغني في صباح العربية مقطعا من أحدث أغانيه -مونيك




.. مشروع فني قريب بين الفنان فضيل وديانا حداد وجيبسي كينغ