الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مغامرة الأداء .. قراءة في أين تذهب طيور المحيط ل إبراهيم عبد المجيد

محمد سمير عبد السلام

2010 / 6 / 23
الادب والفن


في كتابه " أين تذهب طيور المحيط " – الصادر عن هيئة الكتاب المصرية سنة 2009 – يمزج إبراهيم عبد المجيد بين وصف الرحلات الثقافية ، و الأماكن التي زارها ، و مغامرة الإبداع الأدائي للوعي في لقائه الجمالي الأول بالمكان ؛ فهو لا يعاين التجربة من الخارج ، أو من موقع متعال ، و إنما هو جزء من أطياف المكان الثقافية ، و السياسية ، و الفنية ، تلك التي تتحول بفعل التجزئة النصية إلى حالات فريدة مؤولة للأصل ، و ليست خطابا وصفيا مجردا من خصوصية التجربة الإبداعية التي ينتجها المكان ، و الوعي معا .
و في هذا السياق تتجسد الهوية في اتساعها العالمي ، و فرحها بالكشف عن الحياة السرية لآثار المكان ، و تأثيرها في كينونة الناس ، و الوعي المدرك ، بحيث يتخلى المكان عن صلابته ، و حدوده من جهة ، و يكتسب الفرد إيماءات المكان بداخله ؛ فيعيد تشكيل ذاته من خلال أصالة الأثر ، و تجدد الهوية من جهة أخرى ؛ فثمة ما هو مضاف إليها دائما من الدوال الفنية ، و الثقافية ، و أصداء الأصوات الإنسانية المختلفة .
إن إبراهيم عبد المجيد لا يقيم ارتباطات مباشرة بين توقعاته المعرفية عن المكان ، و معاينته في الرحلة ، و إنما يحول المعلومات إلى خبرات سردية جمالية تنبع من بكارة اللقاء الحدسي بجماليات المكان ، و تجاوزه للحدود المعرفية ضمن بنيته الخاصة .
إن السارد يدرك لوحات الفن ، و الآثار المعمارية ، و لقطات السينما ، و الشخوص من داخل الدهشة الصامتة المصاحبة لاندماج الوعي في التكوين الفني / الواقعي .
و عن علاقة التلقي بالصمت يرى ريجيس دوبري أن إدراك الصورة يأتي أولا كقلق عارم ، ثم خلود للصمت ؛ فهناك عمق مشاغب يكمن في عدم التعبير عن أي شيء ( راجع / ريجيس دوبري / حياة الصورة و موتها / ترجمة فريد الزاهي / دار أفريقيا الشرق بالدار البيضاء سنة 2000 ص 39 ) .
إن تلك الدهشة الصامتة يعاينها إبراهيم عبد المجيد مقترنة بتأويل ذاتي متجدد للظاهرة ، أو الحدث الجمالي ؛ أي أن الظاهرة تنتج عنده لغة ما بعد الصمت ، و فيها يتداخل الإبداع بالتلقي ؛ و الوثائقية بديناميكا السرد ؛ و الصوت بالدوال ، و الأصوات المضافة للهوية .
و يمكننا رصد ثلاث تيمات في " أين تذهب طيور المحيط " ؛ هي :
الأولى : مغامرة الأداء .
الثانية : الروح الجمالية للمكان .
الثالثة : التفاعل الثقافي .
أولا : مغامرة الأداء :
يشير الأداء إلى الفاعلية الجمالية لآثار المكان ، و علاقتها بالوعي ، و السياق الثقافي ؛ فكل من الأعمال الفنية التي يعاينها الكاتب ، و التأويلات النسبية التي ينتجها ، و مفردات المكان نفسه تقع في حالة تفاعل يختلط فيها الإبداعي بالوثائقي ؛ و من ثم تصير الكتابة فعلا أدائيا يعيد إنتاج مثل هذه العلاقات النسبية ، و المتغيرة ، و التي يمنح فيها كل من المكان ، و الوعي خصوصية مضافة لبنية الآخر دون مركزية ، أو تعليقا معرفيا من الخارج .
عند زيارة الكاتب لمتحف الانطباعيين بباريس أحس بتجدد حياة الفنانين أصحاب اللوحات ، و كذلك بالقداسة السحرية للفن .
هل هي حالة من الصمت المنتج لتواتر الأثر الفني بين الأنا ، و الآخر ؟ أم أن الفن يعبر الحدود الزائفة بين الموت ، و الحياة ؟
لقد تحولت الزيارة إلى فعل استعادة للفن ، و أطيافه ، و تاريخه في الوعي ، و المكان معا ؛ فثمة حالات جديدة من الرؤية ، و الصمت ، و إعادة الإنتاج تصاحب لقاء الذات بالمتحف .
و قد تعجب الكاتب من القسوة التي عبرت عنها إحدى السهرات الدرامية التي شاهدها في باريس ؛ و فيها يمارس رجل بغل القهر على امرأة جميلة ، و عند بلوغه المشيب يتزوجها في الكنيسة .
لقد جسد العمل الدرامي ما يمكن أن يحويه المكان المتحرر / باريس من تناقضات بين النوازع الإنسانية من جهة ، و نمط العنف الغريزي من جهة أخرى ، و إن جاء العنف هنا في صياغة فنية تستدعي تحرير صور الشر من اللاوعي في سياق يتجاوز العنف في أشكاله الواقعية ، و الثقافية . إنه استدعاء جمالي نسبي للعنف .
و في باريس أيضا تضيع من الكاتب فرصة إهداء روايته " البلدة الأخرى " للدكتور ثروت عكاشة ، و يقرأ ذلك الحدث في ضوء تفاعل السياق الثقافي لباريس ، و تأويل الوعي للذات ؛ فهو لا يشعر بالألم عند ضياع الفرص ، و لا يفرح عند اغتنامها ، و تتساوى لديه الذاكرة ، و النسيان كأنه حي يمشي في ميت ، أو ميت يمشي في حي .
إن باريس تتميز بالطليعية الأدبية المصاحبة لبنية المكان ، و كذلك بأفكار التناقض في الحداثة ، و ما بعدها ، و التعددية ، و التداخل بين المعاني ، و هو ما تجسد في تأويل الذات في المقطع السابق ؛ فالمكان يخرج هذه النوازع ، و يعززها ، كما يضيف الكاتب إليه ذلك السلوك الجمالي الملتبس بين اللاوعي الفردي ، و أدبيات المكان ، و أفكاره .
و قد يندمج الوعي بالمكان بحيث يصير المكان جزءا من حالة الأداء الإبداعي الصامت ؛ فالمكان هنا تجربة إنسانية تتعالى على المادة ، و الحدود . بدا هذا واضحا في وصف الكاتب لمراكش ؛ فهي تتجاوز أسئلة العقل ، و تثير الاضطراب في الروح ، و تنذر ببكاء صامت ، و هي عنده تجربة روحية ، أو تجربة كتابة فنية .
تتفاعل الأزمنة - إذا - في مراكش ؛ لأنها تمثل الأصالة ، و البحث عن الخلود معا ، و هي غياب الحدود ، و تجسد أول مرح للعمل الفني في آن ؛ لأن الكاتب لم يحدد أين يبدأ عمل الوعي في تلقي مراكش ، و هو يصفها بالتجربة الفنية ، و كأنها عبور الأصالة الخالدة للذات ، أو العمل الفني معا .
ثانيا : الروح الجمالية للمكان :
و فيها يبدو السياق الجمالي أكثر حضورا . المكان يعلن هنا عن تفرده الجمالي ، و خصوصيته في الوعي ، و يضيف للأخير تجددا في الهوية ، و إغواء تصويريا يستلبه ، و يحفز ما أضيف إليه للتو من تأثير استعاري تمثيلي بديل عن الحدود الواقعية وحدها .
إن المكان يكشف عن هويته ، و قصصه الجديدة ، و حياته الأخرى داخل الآخر / المختلف .
في زيارته لموسكو يصف إبراهيم عبد المجيد النهار الضبابي الرمادي ، و الأرض البيضاء ، و تزحلق الأطفال على الجليد بين الأشجار صباح يوم الأحد .
إن المكان هنا يعلن عن خصوصية روحه الجمالية في وعي الكاتب ، و لا يبدو كمجموعة من الحدود ، و الأبنية ، و الفراغات ، و تتجلى الروح الجمالية في أخيلة النقاء ، و البياض من جهة ، و حالة البهجة الجمالية لدوال المكان ؛ السارد ، و الأطفال من جهة أخرى .
المكان هنا جمالي ، و طيفي في ذاته ، و يقع في بؤرة رؤية العالم في وعي السارد أيضا .
و عند زيارته لأوكرانيا يصف الكاتب التأثير الثقافي ، و الجمالي للمكان على أيقونات المسيح ؛ فهي ليست شاحبة كما هو في أوربا ، و مصر ، و لكنها مشرقة ، و عليها مسحة من فلاحي الريف الأوكراني ، و قد جاء هذا الوصف في سياق معاينة السارد لمتعة النظر لخضرة الربيع هناك ، و الأحاديث العفوية للأهالي .
لقد انتقلت روح المكان البهيجة من الجوانب الكونية ، إلى ثقافة الناس ، ثم أيقونة المسيح التي اكتسبت البهجة ، و النضارة ، و العفوية الجمالية للمكان ، ثم إلى وجهة نظر السارد عن المكان ؛ فقد صار جزءا من تلك الهوية ذات الحضور القوي المتجاوز للأبنية الفكرية المسبقة عن الحياة ، و العالم .
و في تناوله لمدينة الإسكندرية يقبض إبراهيم عبد المجيد على روح التمرد ، و الوضوح في جماليات المكان ، و ثقافة أهله ؛ فقد كانت مدينة مصطفى كامل المفضلة ، و أدباؤها لا يميلون لتكوين الشلل ، و لو ذهبوا للقاهرة ، و يدمج ذلك الوضوح بانفتاح المدينة على الضوء ، و الريح .
لقد التحمت الشخصية بالروح المجازية الانفتاحية للمكان ، و اكتسبت براءة إبداعية متجددة ، و رغبة في حياة تخلو من المركزية ، و السيطرة ، مثل انفتاح روح المكان على الثقافات الأخرى المختلفة .
و عند وجوده في روشيل بفرنسا قرأ مجموعة من الأحداث ، و الأخبار ؛ مثل خبر وفاة والدته ، و عدم وصول نقود من خلال أشباح العبث في رواية الغريب لألبير كامو من جهة ، ثم التواصل الإبداعي خارج اللغة مع ألماني ، و فرنسي ، و إنجليزي .
و يذكرني النموذج السابق للتواصل بالخروج من العبث من داخله عند يوجين يونسكو في نهاية مسرحية " المغنية الصلعاء " ؛ إذ صارت اللغة أصواتا مجردة تستشرف ماوراء العبث ، و هذه هي الروح الجمالية لفرنسا ؛ العبث ، و اللامبالاة ممزوجة بحالة انفتاح ، و مرح يتجاوز الحدود المنطقية ، و هو ما عايشه الكاتب من داخل دمج الأدب بالروح الجمالية ، و الثقافية للمكان .
ثالثا : التفاعل الثقافي :
و فيه يدرك الوعي أصالة التعدد الثقافي في بنية المكان من جهة ، و الوعي المبدع من جهة أخرى ؛ فدائما ما ينتج المكان لحظة انفلات باتجاه الآخر حتى يبدو التعدد أصلا تتراكم فيه الدوال الثقافية المختلفة ، أو يتجلى في السياق التاريخي ، و نتائجه الحضارية الإيجابية في الأعمال الفنية ، و المعمار .
عند زيارته لباريس استرجع الكاتب تأثير المعمار الفرنسي في القاهرة الحديثة ؛ و على الأخص تأثير الريفولي بباريس في شارعي محمد علي ، و كلوت بك في القاهرة .
يكمن الآخر – إذا – داخل التطور الحضاري للهوية الثقافية ، و ينمو تأثيره الثقافي الإيجابي من داخل مساحة لا مركزية للحوار ، و هو ما نجده عند المفكرين العالميين المعتدلين .
إن الحضور الثقافي الآخر للمكان يكتسب جماليات ثقافية جديدة تنبع من اختلاف المكان ، و من ثم الأمزجة ، و توجهات الناس الفكرية ، و الانفعالية .
و على مستوى آخر نجد التفاعل بين المحلي ، و العالمي في رحلة الكاتب للعلمين ، و فيها يسترجع أصداء الحرب العالمية الثانية ، و ذكريات والده ، و علاقة المكان بالبدو ، و خصوصيتهم المحلية في لقائها بالسياحة .
و يبدو التفاعل واضحا بين المحلي ، و العالمي في وصفه لبلدة سيدي عبد الرحمن ، و حكاية رأس الشيخ الذي خرج من البطيخة ، و طلب بناء ضريح له ، و كان صاحبه قد قتله من قبل في الصحراء ، و تحول المكان فيما بعد إلى مصيف .
لقد امتزج فعل الحكي بروح الصحراء الخيالية ، و كذلك تجاوز الفن الآن لحدود العمل الفني ؛ إذ صار المجاز قراءة للواقع التسجيلي ، و تلك هي نقطة اللقاء بين حكي البدو المحلي ، و تطور الفن العالمي .
هكذا يكتسب المكان في كتابة إبراهيم عبد المجيد حياة متجددة من داخل الرؤى الإبداعية ، و الثقافية ، و الشخصية لآثاره .
محمد سمير عبد السلام – مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز


.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن




.. هنا تم دفن الفنان الراحل صلاح السعدني


.. اللحظات الاولي لوصول جثمان الفنان صلاح السعدني




.. خروج جثمان الفنان صلاح السعدني من مسجد الشرطة بالشيخ زايد