الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جوزيه ساراماغو، برحيلك فقدنا الكثير من الشجاعة

رامي أبو شهاب

2010 / 6 / 23
الادب والفن


أمام الغياب لا نملك خيارا في أن نحاور معناه أو مبتغاه، أو حتى أن نبحث في ما وراءه من حيثيات، فالغياب صمتٌ يطغى على الجسد، نذعن للموت صاغرين، ولكن فيض الروح من الجسد مسبوق، بفيض العقل في نهر الفكر الخالد، هو العقل الجميل، منشئ الخيال الذي يعيد وضع شظايا الواقع في لوحة تختزل مواقع الألم، وجور الإنسان على أخيه الإنسان، هو الفن في مواجهة جنون الإنسان. رحلة الكاتب والروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو José de Sousa Saramago)) انتهت، ولكن أصداء لغته بقيت تستعاد وتستعاد، في خطوط السرد، وعلى مواطن البوح، وبين مفارقات خيال الواقع، وواقع الخيال، إذ ترك لنا هذا الكاتب الذي غيبه الموت شيئا من فتنة الفن، وعنف الكلام.
جوزيه ساراماغو روائي غير اعتيادي، وهو نمط من الاستثناءات التي تكسر مفهوم الاستثناء نفسه، رحلة الكتابة لديه لم تكن نمطاً مألوفاً من الموهبة التي تُوهب، الكتابة لديه هي نتيجة حتمية لواقع، ونزاع مع هذا العالم الذي عانده طويلا، حتى وصل به إلى الستين من العمر، ولكن في تلك السن المتأخرة امتلك هذا الكاتب المجد، ولكن في الحقيقة أن المجد قد امتلك ساراماغو، مما لا شك فيه أن روايات ساراماغو لها طابع خاص، فقراءتها تضع القارئ في مساحة لم يكتشفها من قبل، فقارئ أعمال ساراماغو ينغمس بالواقع إلى درجة الخيال، وفي لحظة ما يشعر إن هذا الخيال، ما هو إلا عالم آخر، أكثر واقعية من الحضور الحقيقي والمادي الذي يعرفه، يتقن ساراماغو سرد مشاعر الإنسان، وحساسية انعكاسها على الفضاء الداخلي للإنسان، و يعرف كيف يشتت المُسلّمات، ويجعلها منحنيات لحرية الإنسان.
في رواية "سنة موت ريكاردو ريس"، نرى " ريس" الشاهد المُتخيل لواقع تهشّم عبر اللعبة الخيالية التي نسجت بلغة مربكة، وتقنية كتابية غير مألوفة، حبكها ساراماغو عبور شخوصه المتخيلة من لدن شاعر أراد أن يكون أدبا كاملا، هي شهادة الفن على الوجود الإنساني، فيأتي ريكاردو ريس، وقد أمسك البرتغال عبر رائحتها وأمطارها ونسائها، وفي قلق الوطن وثوراته، هي حالة رصد للثورات الشيوعية والقلاقل، التي تشظي الواقع كما هي الشخصيات التي تجسد ذلك بامتياز عبر شخصيات مشتقة ومتراكبة ومتشظية في الوقت ذاته.
في أعماله الروائية يقوض هذا الكاتب مقولات المألوف، وينفي عنه قداسته، هذا سر الإبداع البشري، حين يسعى إلى تجاوز ما قاله الآخرون لنا، هي منظومة رفض لأصوات الآخرين التي تعبرنا عبر الزمان والمكان، هي فعل لاستعادة ما نتخيله في الأشياء لا كما رآها الآخرون، إنما كما نحس بها، كما فعل ساراماغو في " الإله الأكتع" و " الإنجيل بحسب يسوع المسيح". في روايته الشهيرة " العمى" مجاز الإنسان والمكان والزمان، ولذلك نرى أن الكاتب ينزع الأسماء عن كل فضائها السردي والجغرافي والزمني، هي كناية عن هذا الكل الكوني، وواقع الإنسان الذي أصيب بالعمى، فلم يعد يرى ما ينبغي أن يراه، كما يفعل الآن حين يواري بصره عن جرائم تركب بحق الإنسان، ولكن ساراماغو يجعل شخصية واحدة مبصرة، هي زوجة الطبيب، فهي التي تبقى شاهدة على الجنون الإنساني، الذي لم يغير العمى شيئا من سلوكه، فتم توظيف هذه الحالة الفنتازية للعمى لتحقيق أكبر قدر من المصالح والمآرب، هذا نزوع إنساني، رأي الكاتب أنه فعل راسخ بالطبيعة البشرية، هذه الرواية تستحضر فيلما آخر عن مجموعة من الأشخاص يعاقبون عبر العصور بالعودة لمشاهدة جريمة الإنسان ضد أخيه الإنسان، هذا عقابهم لأنهم شاهدوا الجريمة الأولى " صلب المسيح" إذ اكتفوا بالرؤية فقط، فكان هذا عقابهم الأزلي، ولعل ساراماغو في " العمى" يجعل من هذا العمى عقابا أو نتيجة لسلوك الإنسان، الذي يبصر، ولكنه إبصار سلبي اكتفى بالمراقبة فقط، فكما يبدو من الرواية فإن شخصيات هذه الرواية، وفي دائرة أكثر اتساعا، لم يصيبها العمى، إنما هم عميان في الحقيقة، وجاء العمى ليجعلهم يرون الحقيقة، ويعرفون حقيقة أنفسهم ودواخلهم وسلوكهم الحقيقي.
إن ما يميز هذا الكاتب قدرته على أن يكون مبتعدا عن مهادنة واقعه، فلا عجب أن يلاقي الاضطهاد في موطنه التي أحبته على الرغم من ذلك، وأن يكون إشكاليا ومجنونا في انتقاد الكيان الصهيوني وممارساته التي شبهها بالفعل ذاته الذي مارسته النازية تجاه اليهود، لقد اقتلع ساراماغو بجرأة دور الضحية الذي كان ذريعة للقيام بدور الجلاد في ثوب الضحية، وقد مارسته الصهيونية طويلا، لقد انحاز هذا الكاتب الشجاع إلى الضحية الحقيقة، ففي رام الله المحاصرة وتحديدا في آذار 2002 قال واصفا الجرائم الإسرائيلية ومشبها إياها بما كان يحصل في معسكرات النازيين : " إنه الأمر ذاته باستثناء الزمان والمكان" وأضاف "ما يحصل في فلسطين هو جريمة لا يمكن أن تغتفر"، هكذا يتجسد الحضور الطاغي لمعنى الموقف، لاسيما حين يبدو الكل مرتعدا من مقولة معاداة السامية التي كممت أفواه الكل في القسم الغربي من الكرة الأرضية، ولهذا تبدو هذه الأسماء عصية على أن تتجاوز، إنما تستحضر في الضمير الإنساني الحر، نعوم تشومسكي، وإدوارد سعيد، وول سوينكا وبي داو وغيرهم .
من الأشياء الجديرة بالانتباه في تتبع مسيرة هذا الكاتب ما اتسمت به من صعوبات وإخفاقات، لقد احتاج ساراماغو إلى وقت طويل كي يدرك العالم أو يدركه العالم، فتأمل طويلا، حتى تشبع من العالم، وأشبع العالم منه، إذ استهلكه الواقع إلى درجة أنه قد أصبح قادرا على اجتراح الخيال، وجلبه إلى عالم الرواية الواقعي، فجاء سرده طبقات من البحث في شكل الحياة، من القشرة إلى ما بعد الموت، تحقق ذلك عبر جدال أقامه الكاتب مع الإنسان محاكما إياه عن تهمة البشرية التي تحتاج إلى تبرير للتأكد من ثبوتيتها.
هذا الكاتب الذي ولد عام 1922 في "أزينهاغا" حيث نزح وعائلته لاحقا إلى العاصمة لشبونة ، لم يكمل ساراماغو تعليمه، فعمل صانع أقفال لسنتين، نشر أولى أعماله " أرض الخطيئة" 1947 حيث لم تجد صدى وقبولا لدى النقاد والقراء، فاحتاج الأمر منه إلى تسعة عشر عاما ليعود مرة أخرى للكتابة مرة ثانية، هنا نرى حساسية هذا الكاتب، الذي حاور الصمت لعقدين من الزمان، كي يتعلم منه أشياء مكّنته من أن يقول ما لم يقله الآخرون، وما بين مشاركة في ثورات، وانضمامه للحزب الشيوعي، وكتابة الشعر والترجمة والكتابة الصحفية، استمر هذا الروائي رحلته للبحث عن نفسه المعذّبة التي تتوق إلى أن تصرخ، ولكن هذا الصراخ كان يحتاج إلى زمن طال كي ينضج، ويصبح مؤثرا وفاعلا، هذه الموهبة المجلوبة بتمرس الحياة، تستحق أن تحترم، فالموهبة التي توهب للبعض، تكاد أن تكون أعطية سماوية، تعطى لمن يمتلك شيئا من الحظ، أما حين تصطنع موهبتك، فذلك هو الجدير بالاحترام، ساراماغو لم يمتلك هذه الأعطية والموهبة المجانية، بالإضافة إلى افتقاده لجوقة المطبلين والمزمرين الموضوعين من قبل الثقافة والمؤسسة الرسمية، والتي تضطلع بمهمة صناعة أنصاف وأرباع الكتّاب، كانت على خصام دائم مع الكاتب، بل حتى أنه كان مضطهدا ومحاربا ومُحيّدا، ولهذا جاء إبداعه نوعا من اجتراح المعجزة في مقارعة صوان الزمن، فبعد أن صُرف هذا الروائي من عمله بسبب مواقفه السياسية، تفرغ للكتابة بعد أن ذهب العمر به بعيدا، حتى وصل به الزمن إلى عام 1982 ليضع بصمته المتفردة على المشهد الأدبي العالمي عبر روايته " الإله الأكتع" ، وفي أعماله اللاحقة حطّم المقولات العلوية عبر روايتين قاربتا الموروث الديني المسيحي واليهودي، كما في رواية " الإنجيل بحسب يسوع المسيح "، و " قايين "،وفي الأخيرة وضع الرواية التوراتية كمصدر لبعث الأخلاق السيئة، وكالعادة فإن معظم رواياته، قد أحدثت جدلا في الأوساط الدينية والثقافية على حد سواء.
الكاتب هو قضية تتجاوز فكرة الأنا والذات، فهو نبي أرضي، يعمل على إعادة توازن القوى البشرية الهادمة والمأفونة؛ في خروجها المتكرر وانفلاتها من القيم والأخلاق، فالكاتب تجسيد للضمير المُغيّب في ظل دوائر السياسية والتشيؤ الاقتصادي والسلعي، هو أداة لثقب صخور الجهل والتخلف، وتمزيق أثواب الزيف والإدعاء، هو السعي نحو الحقيقة والانحياز الشجاع للقيم الحقيقية، هذه الخصائص التي تبدو مفتقدة في الكثير من الأحياز الجغرافية، لاسيما لدى شعوب قد استكانت لدروس وتعاليمها الآباء، فأصبحت تألف ثقافة القطيع، والمرويات التي تشكلنا كما يريد الآخرون، فلا نعد قادرين على ابتناء مواقفنا، التي تأتي صدى لتكرار استمراء الانقياد، الذي ألفه العقل الخامل والمستكين، رحل جوزيه ساراماغو مخلفا دهشة وإعجاب للقدرة التي امتلكها هذا الكاتب في تطويع أزمة الكتابة، في النهاية لا بد أن نعترف بأن رحيل جوزيه ساراماغو الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1998 هي خسارة كبيرة للكتابة الروائية العالمية، فبرحيل صاحب " العمى" فقدنا الكثير من الشجاعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الدكتور حسام درويش يكيل الاتهامات لأطروحات جورج صليبا الفكري


.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس




.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن


.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات




.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته