الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشكاليات البديل العراقي ومشروع العيش المشترك

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2010 / 6 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


من مفارقات العراق الحديث أن يتحول ماضيه ومستقبله إلى مجهول، بحيث يصبح موضوعا للشكوك الجاهلة واليقين الأشد جهلا! بمعنى أن يصبح ماضيه مادة للتأمل الساذج والسرقة التافهة للقوى السياسية العرقية والطائفية، كما يصبح المستقبل آفاقا مظلمة لأولئك الذين لا يمكنهم العيش دون السلطة بوصفها أداة الاستحواذ والنهب الغريزي. وفي كلتا الحالتين نقف أمام الجهل المطبق بحقيقة العراق بوصفه واهب الحياة الفعلي لكل من فيه، أي لكل من تعتمل في أعماقه شعلة الحياة بوصفها نار الوجود. وهي حقيقة ليست غريبة عما في قدره المتراكم من أقدار وأوزان وجوده التاريخي، منذ أن ظهر للمرة الأولى بوصفه موطن أور وبابل وآشور لكي يتكامل في وادي الرافدين والعراق والهلال الخصيب. وسواء كان تصوير العرب الذين جعلوا منه ارض السواد في الهلال الخصيب إبداعا أدبيا صرفا أو تأويلا معنويا عقليا، فأنهم قد أدركوا بقوة الحدس الرفيع، بان وحدة السواد والقمر فيه هي وحدة الثرى والثريا، أو الأرض والسماء. وهو تأويل لا افتعال فيه، لأنه كان يتغذي من رحيق الحياة والقدر التاريخي والروحي، وليس من افتعال العبارة.
فالعراق صانع ذاته! بمعنى انه ليس فقط لم يرتبط من حيث تكونه الذاتي وقدره التاريخي بقوة غير سواه، بل وبما في هذه الصنعة الذاتية من قيمة واثر عالميين. الأمر الذي جعله مادة ضرورية لوعي الذات الثقافي العالمي في مدارس الأمم جميعا، وفي علم التاريخ. إذ لا يعقل التاريخ العالمي من حيث مكوناته المدنية الأولى وأصوله التأسيسية دون العراق. مما جعل منه بالضرورة هوية كونية. إذ تقف هذه الهوية على الدوام وراء حدوده الجغرافية السياسية ونظامه المحتمل. مما جعل من اسمه ومغزاه ومعناه وقيمته شيئا واحد. وبالتالي جعل من هويته الخاصة كينونة ترتقي إلى مصاف الماوراتاريخي. ومن الممكن تشويه بعض مكونات هذه الكينونة، لكنه يستحيل تفتيت وحدتها الذاتية. الأمر الذي جعل من كل المحاولات الخارجية مهما كانت مصادرها، فعلا طارئا في مصيره، بينما كان مصيره الحقيقي يتصير من القدرة على تمثل ما فيه من مكونات والعمل بمعاييرها.
فقد كانت الدكتاتورية الصدامية النتاج الخاص لصعود الراديكالية السياسية في مجرى القرن العشرين في العراق. مما جعل منها القوة الأكثر تخريبا لمكونات الهوية العراقية بوصفها هوية تاريخية ثقافية، وذلك لما في الصدامية من طابع سياسي حزبي ضيق وانعدام للتقاليد العقلانية والاعتدال. بحيث جعل من نفسية وذهنية الراديكالية السياسية مصدر التحلل والتفكك الاجتماعي والوطني على كافة المستويات وفي كافة نواحي الحياة. مما يعطي لنا إمكانية القول، بان تفكيك الكلّ الوطني في العراق هو نتاج الزمن التوتاليتاري والراديكالي. وفيهما ينبغي البحث أولا وقبل كل شيء عن مقدمات الاحتلال وقدرته على تفعيل منظومة التفكك الوطني. وليس مصادفة أن يكون الاحتلال الأمريكي للعراق ملازما لذروة الصعود الراديكالي لفكرة المحافظين الجدد، وذروة الانحطاط المعنوي لراديكالية التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية.
فقد كانت الحصيلة النهائية للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية على امتداد أربعة عقود هي سيادة الزمن الراديكالي وفقدان التاريخ بوصفه تراكما في المؤسسات والخبرة والتقاليد، وانحطاط شامل في منظومة القيم، وتفكيك كل ما يفترض الوحدة في بنية الدولة والمجتمع والثقافة. ومهدت هذه النتائج للاحتلال، وجعلت منه عنصرا إضافيا في توسع وتعمق "منظومة" وآلية التجزئة والانحطاط المادي والمعنوي للفكرة الوطنية. وهو سر الخراب اللاحق، بمعنى تلاشي كل التاريخ السياسي العراقي للأحزاب والقوى الاجتماعية عبر اندفاعها المغترب وراء المشروع الأمريكي والقبول "بالمشاركة الفعالة" في إرساء أسس "ديمقراطية العبيد".
وأدت هذه الحصيلة إلى نفث سموم خطيئة التجزئة والتفكك والانهماك فيها، بوصفها أسلوب الاستحواذ الجديد. وهي سموم قادرة على شلّ الحركة الوطنية لفترة مؤقتة لكنها عاجزة عن تخريب ما أسميته بالتحصن من سموم الخطيئة. وذلك لان تحصن العراق الذاتي هو الوجه العملي للقوة الذاتية الكامنة في تكامله التاريخي بوصفه هوية ثقافية. والخروج عليها يؤدي بالضرورة إلى الخروج على منطق تاريخه الذاتي، أي كل ما يؤدي إلى صنع منظومة التفكك الوطني الفاعلة بمقاييس الطائفية السياسية والعرقية القومية العلنية والمبطنة، أي اشد النماذج تخريبا للفكرة الوطنية ومرجعيات العيش المشترك.
إننا نقف الآن أمام وجود وفاعلية "منظومة" خفية آخذة في "التكامل" للنزعة الطائفية والعرقية. الأمر الذي جعل من رذيلة التجزئة "حقيقة سياسية". وحالما تصبح الرذيلة "حقيقة" وليس مجرد واقع، فان ذلك يعني بلوغ التجزئة حالة "المنظومة" الفاعلة في كافة نواحي الحياة وعلى مختلف مستوياتها. وحالما تستقل هذه الحالة بفاعليتها الخاصة في بلورة المواقف والقيم (السياسية والأخلاقية) عند الأفراد والجماعات والمجتمع عموما، فإنها تفرض بظلالها على الجميع وتجعل من الضلال دليلا على الواقع. وهو واقع يبرهن من جديد على البقايا الخربة والفاعلة لزمن التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية واستمرارها المباشر وغير المباشر في سلوك الكثير من القوى السياسية والاجتماعية الحالية في العراق. بمعنى أن اغلب القوى السياسية الحالية تخون الفكرة الوطنية من خلال استغلال واقع التجزئة والتفكك الفعلي للهوية الوطنية العراقية. إنها توظف هذا الواقع المؤقت بهيئة "حقيقة" يجرى رفعها إلى مصاف الأسلوب "الواقعي" و"العقلاني" للوصول غالى السلطة وتخريب فكرة الدولة. مع ما يترتب عليه من انحراف وخروج على مرجعيات العراق التاريخية الثقافية، ومن ثم الانقراض والزوال. وهي النتيجة النظرية "المستقبلية" التي تفترض بدورها بلورة ملامح البديل العراقي المستقبلي، أي بديل الرجوع إلى النفس.
إن رجوع العراق إلى ذاته يفترض الرجوع إلى مكوناته الجوهرية عبر صياغة مشروع عملي للمعاصرة والعيش برهاناته. فمستقبل العراق ووحدته المتجانسة وإخراج الدولة من أزمتها البنيوية الشاملة هو الرهان التاريخي الأكبر لقواه الاجتماعية الوطنية.
إن تجربة سنوات ما بعد الاحتلال الأمريكي وحتى اليوم تبرهن على أن المشاريع الأجنبية تبقى غريبة مهما كانت نواياها وغاياتها. كما أن القوى الجزئية من أقليات قومية أو طائفية أو هامشية اجتماعية وسياسية، لا تصنع غير التجزئة والعيش بمعاييرها. فهو أسلوب "ازدهارها" الوحيد. لكنه "ازدهار" سريع الزوال لأنه يتعارض مع حقيقة الهوية العراقية بوصفها هوية تاريخية ثقافية وليست قومية أو عرقية أو طائفية أو جهوية. وهي الحصيلة التي ينبغي وضعها في صلب الفكرة القائلة، بان نجاح أي مشروع كبير هو أولا وقبل كل شيء نتاج لتراكم الرؤية الواقعية عن طبيعة وحجم الإشكاليات التي تواجهها الأمة والدولة. وفي الحالة المعنية يفترض "العيش المشترك" في العراق تفعيل الهوية الوطنية العراقية بوصفها مرجعية العيش المشترك، أي تحقيقها العملي من خلال صياغة الأوزان الضرورية للهوية العراقية العامة والهويات الجزئية، للدولة الشرعية والسلطة الديمقراطية، للسلطة الديمقراطية والمجتمع (المدني)، للنخب الاجتماعية والسياسية، للثقافة العامة والخاصة، للتربية والتعليم والإعلام. بمعنى صياغة:
• رؤية واقعية وعقلانية عن وحدة وتجانس القومي والوطني في العراق من اجل تكامل الجميع في بناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني،
• تحديد ماهية الدولة الشرعية بوصفها المقدمة الضرورية والضمانة الفعلية لطبيعة ومجرى التطور اللاحق،
• المسئولية التاريخية والأخلاقية للنخب العامة والسياسية بشكل خاص، عبر ارتقاءها إلى مصاف الإدراك الفعلي لمنظومة المبادئ المكونة لفكرة المرجعية الوطنية العراقية، بوصفها هوية المستقبل أيضا.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة ضرب مستشفى للأطفال بصاروخ في وضح النهار بأوكرانيا


.. شيرين عبدالوهاب في أزمة جديدة وصور زفاف ناصيف زيتون ودانييلا




.. -سنعود لبنائها-.. طبيبان أردنيان متطوعان يودعان شمال غزة


.. احتجاجات شبابية تجبر الحكومة الكينية على التراجع عن زيادات ض




.. مراسلة الجزيرة: تكتم إسرائيلي بشأن 4 حوادث أمنية صعبة بحي تل