الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خيول بيض

رياض الأسدي

2010 / 6 / 25
الادب والفن


1- حوار مقتضب دسّ في وريقات لم يقرأها احد
لماذا لم تشمل بأي عفو صدر عن الحكومة؟ دعوتك تجسس أم مخدرات؟ أم زنا في المحارم؟ ثمة أقوال كثيرة عنك. رجاء. كلمني. لا هذه ولا تلك. شكرا. من الصعب التفاهم معك. أرجوك هذا مهم لإدارة السجن.
دعني. ماذا تريد؟ أنا لا أحب الحديث عن أي شيء. طيب طيب. يقولون أنت لم تكلم أحدا منذ عامين، هل هذا صحيح؟ ووللللي!. هذا ضروري للبيانات يا أخي. لا أخ لي في هذا العالم. أوهو!. دعني دعني!. يقال أنك كنت رياضيا معروفا. رياضي؟! هذا مهم للبيانات، إذا ما رفضت سوف تتعرض للضرب بالفلقة(1). أية بيانات؟ بيانات السجن. من أنت؟ سجين مثلك تماما. وتعمل معهم؟ اجل. لماذا؟ من اجل رعاية أفضل اليس كذلك؟. هههه. تضحك؟ فطير. وهل تعتقد بوجود ثمة رعاية ما هنا؟ ربما. أنا أعمل مع الباحث الاجتماعي في السجن. هآآآآآآ باحث اجتماعي.. هههههه! ها أنت طبيعي..؟ متى (فلقوك) أخر مرة؟ لا أذكر لا اذكر. هذا أفضل لك. ما دعوتك من البداية؟ كلمني. دعوتي قتل. هل انتهينا؟ مووو؟ هل قتلت أحد أرحامك كي لا تستثنى؟ أجل.. قتلت أبي! هوووو! ابوك!! يا الهي.. من يقتل أباه في هذا الزمان؟ أنا قتلت أبي؟ هل ارتحت الآن؟ لماذا؟؟ لست ادري.. معقولة؟! هكذا: باغته من الخلف بساطور قصاب اشتريته خصيصا قبل يوم واحد فقط بعد أن شحذته بشدة، ثم هويت به على يافوخه؛ طآآآآآخ ذلك الأب؛ كانت ضربة واحدة ناجحة! ربما لم يشعر المسكين بأي الم وقتذاك. كانت خيولا بيض. أية خيول ها؟ لن تفهم. خيول؟مسألة جديدة. وتقول عنه مسكين؟ طبعا، هو أبي على أية حال. غريب. هل قالت لك الخيول أقتل أباك؟! لا. كنت أسمع صهيلها. خيول تحت الورق. كنت أراعي ذلك دائما. لا علاقة لها بالقتل قط، إنه أبي هل تفهم؟ هل كان والدك مؤذنا؟ نعم. هل كان يحبك؟ جدا. صوته جميل. وكنت وحيده في هذا العالم كما قيل لي، لم قتلته إذا؟! الم أقل لك لا ادري.. يقتل امرؤ أباه وهو لا يدري؟ مجنون أنت؟ لا لا. أنا عاقل جدا. هل كانت علاقتكما متوترة وقتذاك؟ أبدا. لماذا قتلته إذا؟؟؟ قلت لك: لا أدري! هل عرضوك على طبيب نفسي مثلا أثناء التحقيق والمحاكمة؟ اجل. فقال عنك الطبيب أنك مصاب بلوثة عقلية حتما موووو؟ لالا لم يقل ذلك أبدا. كان تقريره إني بكامل قواي العقلية حينما أقدمت على قتل أبي. لماذا فعلت ذلك؟ يا ألهي! هل كنت غائبا عن الوعي مثلا؟ كنت في كامل وعيي، هل تفهم؟ ومن اجل أن اخفف عنك العبء أنا لم أتناول أي حبوب أو مسكرات أو شيء من هذا القبيل. أأنت ملحد؟ لا كنت متدينا جدا مثل أبي. عجيب. ما السبب إذاً ؟؟ دعني الآن وووووووولللللللي!!!
( تركت النزيل بعد أن أظهر شفرة صغيرة هددني بها ثم أبعدني عنه زملاؤه في القاعة وهم ينصتون إلينا مليا. كان يبدو متوترا إلى حدّ بعيد، لكنه لم يلبث أن عاد إلى هدؤه التام بعد مغادرتي. لم اكتب شيئا في استمارته سوى: السجين مصاب بجنون وقتي)
2- محاولة يائسة
ليس ثمة حيرة أشد من وجود ورق ابيض صقيل متناثر وفارغ هُيئ ليكتب عليه بيسر ثم وزع أمام منضدة صغيرة هزازة. ورق كثير. بلادة ما كان. العالم كله يراوغني بأشياء كثيرة في هذي السنين بعد الخمسين. مرة أخرى. معي وحدي من دون الناس. أنا من دون العالمين كلهم. عشرون عاما كاملة مرت في جمهورية الفناء. أبو غريب. ولم يبق إلا بضعة أشهر فقط ليأتي قرار تبييض السجون شاملا فشملني أخيرا. مباشرة ساقوني إلى الحرب. لا بدّ من دفع ضريبة الخروج. ربما كنت أتهيب الخروج لأننا ذهبنا مباشرة إلى معسكر للتدريب. لكنه الهواء الطلق أيضا. شكرا. الهواء مثل ورق ابيض: عنوان جيد. لا. إنه لا يشبه ورقا عاديا من ذلك الذي يوضع في فم طابعة رونيو، لكنه ورق ورق في النهاية ويتطلب عملا. صهيل. أحاول أن اكتب شيئا ما،أي شيء، كما كنت افعل قبل عشرين عاما. أعددت نفسي لكي أكون كاتبا رغما عن أبي الذي فضل أن أكون مؤذنا مثله. يا لها من نهاية: أنا لا أستطيع ان اكتب شيئا ولا انطق بشيء.
- هل أنت جاد يا ولدي في العمل بهذه المهنة الكتابة؟
- أجل.
- ستموت من الجوع إذا.
- أعرف.
- لماذا تعاندني؟
- بكيفي.
- هل لا زلت تكرهني ياولد؟
- طبعا!
بساط أبيض لا مالك له، جيء به من بقايا ورق من مطبعة قديمة. محاصرة متعمدة بلا شك. قطّع بانتظام ليبدو ورقا جميلا. فلتة زمان أخرى. تغوص فيه ثم تغفو على قاع رخو، كسرير لأب وابنه. هوووو. ما كان مؤلم ولا يذكر.. لكنه يبقى ورقا هرما اهدي لي كي أعاود الكتابة من جديد. هه. كان السجن يعني الكثير لآخرين حتى يسجل على ورق.. أخيرا. يكفي أنك تقف مبهورا إزاء كلّ شيء هناك. أية لعبة غامضة مورست ضدي مذ وأنا صغير؟ أي مصير؟ ليس ثمة شيئا أكثر سطوة الآن من كلمات هاربة كخيول برية. أركض على أرض جيلاتين بيضاء محاولا أن امسك أي شيء ممكن لأتمسك به؛ حاول حاول؛ ربما يكوّن لك شيئا ما ثم تعود كما كنت سابقا. هه هه هه. من أنتم؟ها؟ الرعاة الجدد لي. ههههههه! لا شيء يعيد لي نفسي بعد تجربة أبي لسنوات عديدة.
- نحن أصدقاؤك. لم لا تثق بأحد؟
- أنا لا أعرفكم!
- حقك. إنها عشرون عاما. تجارب قاسية.
- كم لبثت في السجن؟
- لا ادري.
- حقا! ألا تدري كم حكم عليك أيضا؟!
- لا أذكر بالضبط.. ربما مؤبد. اجل ربما عشرون عاما. هوووو! في البداية حكمت بالإعدام.. اجل.. ليتهم فعلوا ذلك وأعدموني.
- هوس ذهني جديد!
- كفى!!
هم انفهسم غرمائي، السفال القدامى، هنا، من كانوا يظهرون لي في يقظتي وأحلامي، الذين دفعوني إلى قتل أبي.. لكني لست نادما أبدا. قتلته قتلته!
- كان يستحق القتل!
- ربما!
- كنت لا تربرب هكذا
-كنت أفكر عما إذا كان ثمة وسيلة غير القتل
- أيها الولد العاق!!
أولئك المخفيون خلف بريق الورق الصقيل، هنا هنا، المجبولون بالضغينة الدائمة، هم وحدهم من كان يطرد الخيول بعيدا عني وكأنهم يريدون لي أن أبقى سجينا طوال حياتي. يا لها من لعب بائسة. لماذا تفعلون ذلك بي؟ أما يكفيكم السنوات العشرون التي قضيتها خلف القضبان؟
- أخيرا أعترف بالسنوات التي قضاها..
- لم يشملني أي عفو!
- طبعا!!
حاسدون بلا سبب واضح. ومن يدري ربما تكون مؤامرة جديدة تحاك ضدي: هكذا ظهروا بغتة في حياتي الكسيفة الفارغة من كلّ ما هو مثير، مرتدين أحذية بوما سوداء وتراكسوتات ذهبية قلما شوهد مثلها في الملاعب، هذه المرة لمخاتلتي، هيهات!؛ فما أن تحرك الورق قليلا بفعل هبة ريح مباغتة من الشباك الخشبي المربع الصغير حتى يظهروا رؤوسهم مقهقهين. طناطل. وحده من لم يسخر مني ذلك العجوز قصير القامة رئيس الجمهورية حينما سمع إصراري على عدم ذكر سبب قتل أبي بتلك الطريقة البشعة؛ أرسل في طلبي وقال لي: شاورني في السبب ولن أذكره لأحد. أعدك. شاورته كانت تفوح منه رائحة نفادة كأبي. فأمر من وقتها بتحويل الإعدام إلى مؤبد..
- ماذا يمكنك أن تفعل أيها القديم!
- سأفعل شيئا ما..
- مثلا
- سأحبّ ثانية!
- ههههه! بعد الخمسين!
- دعوني قليلا وسترون
لا احد يعرف من أين جيء بها في ذلك اليوم شبه المغبر من آب. قيل أنها هدية من اتحاد الشباب إلى الجنود المتدربين على ارتياد الموت. لم أكن نجما مثلهم غرمائي. كانوا يشبهون المشاهير جميعا؛ يضع صورهم الملونة أولئك الصبيان الغرر وهم يتراكضون متباهين. لاعبون محترفون حقيقة يعرفهم السيد العالم جيدا أكثر مني. فرصتهم قائمة. ربما لم تعد ثمة فرصة لي. ورطة. ليست ورطة. لا. القضية تتعلق بي شخصيا. حقيقة هم يحاولون مساعدتي. لكن من هم؟ أنا لم أسمع بهم قط ولم يسبق لهم أن زاروني في (الثقيلة)(2) أبدا. ولم يسبق لي أن حدثت نفسي أن أكون مثلهم، هؤلاء السريعين في مناولاتهم، وهم يصبغون وجوههم بسخام الأحذية من أجل استكمال عملية الغش والاختفاء،هناك، هم هم أيضا، أية حيرة هذه، وسط غابات موهومة ومعدّة لتشبه ساحة معركة. بساطيل قديمة ذات رائحة مميزة.
- أنت قتلته..
- أجل.
- تعترف؟
- ولم أنكر ذلك؟
- نريد أن نعرف الدافع..
- لو كنت اعرفه هل كنت أظن به عليكم..
- هل أنت مصاب بلوثة ما..؟
- كلا.
آخر مرة لي حاولت معرفة الجذر اللغوي لكلمة بسطال، وعما إذا كانت موروثة من العثمانيين، قيل لي هو حذاء خدمة: هذا كلّ ما يستفاد منه في القواميس. لم أفهم كثيرا لماذا نعرّب كلّ شيء دائما. كان أبي يفعل ذلك ويدعو التلفاز (مشواف) يا له من رجل. وحينما مارسنا لعبة كرة القدم ثانية ببساطيلنا العسكرية على الساحة الترابية لمعسكر الغزلاني، بدونا وكأن شيئا ما كبيرا عالقا بأرجلنا. حركاتنا مضحكة وركضنا خلف الكرة غير متوازن. هل تعرف أننا لن نركض بشكل جيد في هذه البساطيل إذا ما ساقونا إلى الجبهة قريبا؟. أعرف. وهل تدرك لم تكون البساطيل مهمة في حقول الألغام؟. لا. إنها وهم حماية الأقدام من لدغات الأفاعي والعقارب. ماذا؟ لست ادري. الحرب تأكل الأقدام أولا، ثم تأكل كلّ شيء. كان السجن شيئا مختلفا أكثر سكينة.
3- لقطة أخيرة
بلاد غريبة. حياة مبهمة. من الصعب أن يكون الإنسان كاتبا في هذه الأرض، ولا حتى نجما رياضيا ولا ممثل مسرح محلي. يستحيل عليه أن يمارس شيئا يحبه. أبدا. وحتى الجنس يمارسه كقضم شيء صلب. من المستحيل أن تكون شيئا. أرض ملعونة تشبه الموت البطيء غالبا. لم اكره أبي بهذا المقدار من قبل. لماذا فعلت بي كلّ ما فعلت ثم جئت بي إلى هنا؟ ها؟ هل أنت مرتاح في تربتك أيها القذر؟ كان القصف المدفعي يطال الطريق الموصل إلى سربيل زهاب.
______________________
(1) الفلقة: نوع من التعذيب الجسدي متوارث عن العهد العثماني تستعمل فيه عصا غليظة أو كيبل كهرباء في الضرب على راحتي القدمين بعد رفعهما بآلة الفلقة إلى الأعلى.
(2) قسم في سجن أبي غريب للأحكام الطويلة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عميقة من رحم المعاناة
المهندس كاظم الساعدي ( 2010 / 6 / 25 - 08:49 )
اطلع ماتطتب ويجود به قلمك وجميع ماتكتب من رحم المعانة بل انك تجسد ارهاصاتها بفذلكة رائعة السوداوية والقهر واضحة وضوح الشمس شكرا ...ربما لافقه الاميين مابين الاسطر والهلوسة التي تنشدها علىايدي ابطالك لكنك تجسد الحقيقة بروعة من نظر المثقفين وجميع من يطالعك من الاصدقاء ولكنه يااخي زمن عجيب تطفو على اسطحه اشباه الكتابات شكرا لقلمك مرة اخرى من كاليفورنيا عشنا ماكتبت بعد ان عشنا الحقائق على ارض الواقع بالزمن المدقع


2 - اجدت في الوصف
طلال بقوش ( 2010 / 6 / 26 - 06:16 )
وابدعت في القصة والرؤية الادبية...عشنا معك كل حرف ...نعم حال العديد كان مثل حال بطل الاحداث الواقعية
شكرا
شكرا للمهندس كاظم الساعدي على بعثه القصة الي
ننتظر المزيد


3 - حبي لكما
رياض الأسدي ( 2010 / 6 / 26 - 07:05 )
الحبيب الساعدي أيها البعيد شكرا لك وللاخ طلال بقوش لا زلت اشعر باهمية الكتابة عن الواقع الحا ليس لأني أعيش في العراق وفي البصرة هذه المدينةالقاحلة الميتة فقط بل هو الالتزام بهموم الإنسان على الضد من الادب النتن (الجديد) القديم الذي يستجدي فتات امراء النفط تحياتي لكما من مرجل البصرة طبعا اراسلكما على مولدة كهرباء مترترة تحياتي


4 - احتجت لمترجم
راقية غرايبة ( 2010 / 6 / 26 - 08:34 )
نسكن قريبين من المهندس الساعدي ...وكم غريب ان كتابتك احتاجت الى شرح مسهب منه فهو كما يقول انك ليس قريب في التصوير بل انك كما يردد من رحم المعاناة ...والاغرب ان تعليقك الاخير وصل الى الاخ طلال وهو وانا والاخ كاظم توقفنا كثيرا لنبصم بكلا اصابع ايدينا انك تستحق كل كل التقدير ان كانت الصحراء قد اكلت من ارض البصرة وان كانت الكهرباء مقطوعة ولكن عزاؤنا ان البصرة بصرة السياب وابناؤها هم هم وانت ياسيدي خير من يمثل الادب الج والواقعية والاسقاطات المضيئة في سماء القصة والادب تحياتي اختك راقية غرايبة


5 - راقية أنت
رياض الأسدي ( 2010 / 6 / 26 - 17:32 )
ماذا يمكنني ان اعلق غير ان اقول لك ياراقية الأسم والمعنى إن ما يعيشه الإنسان هنا لأغرب مما يمكن لست ادري انا لم أغادر بلدي للعيش بعيدا رغم إني بالطبع تلقيت عشرات التهديدات للرحيل عنه حسنا سأبقى مادام ثمة ما يمكن انجازه هنا بالكلمات تقديري العميق وودي

اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل