الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موتُ سبتي الشيخُ ابراهيم

كمال سبتي

2004 / 8 / 16
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


ولدَ أبي عام 1924 بعد تأسيس الدولة العراقية بثلاث سنوات ، ومات بعد انهيارها بعام واحد فجر الثالث والعشرين من آذار من هذا العام 2004 ، في مدينة الناصرية التي كنت قد وصلتها قبل فجر موته بأربعة أيام.
تخرّجَ أبي في المدرسة الإبتدائية عام 1936 وبدلاً من أن يذهب إلى دار لإعداد المعلمين كما كان يحبّ،فضَّلَ له أخوه الأكبر أن يتخصص في مهنة، فتخصص لاحقاً في مهنة كان يحبها أيضاً:تصليح أجهزة الراديو ومحركات المكائن. فكان عاملاً صناعياً ،حقاً، في بلد ريفيّ.
وأبي ماكان سياسياً، فلم ينتمِ إلى حزبٍ قطّ ، لكنه كان يحبّ أن يرى بطله في السياسةِ طيباً مثله وفقيرا.
فأحبّ السياسيّ العراقيّ نوري السعيد ، وعبد الكريم قاسم ، وجمال عبد الناصر. وكلّ واحد من هؤلاء الثلاثة عدو لغيره في ثلاثيِّ أبي بل وسبب مباشر في قتله. عندما أخبرته ذات مرة بإستغرابي من ثلاثيّه ، هزَّ يده متعجباً ، ربما من قلة خبرتي.
الآن ، بعد أكثر من خمسة وثلاثين عاماً على هزه يده في ذلك المساء ، أتقرّب من فهمه الطيب للبطل :الثلاثة لم يخلفوا أموالاً ولا أملاكاً،إثنان منهم ماتا قتلاً،والثالث الذي لم يكن قد مات بعد في مساء هز اليد ذاك، مات في ما بعد قبل أوانه ولما يزلْ مهزوماً.
كان أبي فرحاً لأنني استطعت أن أعود إلى البلاد،قال لي:ابقَ هنا،لا تغادرْ،ليس ثمة خوف عليك من رجال الحكم، هذه المرة.
لكنه كان غاضباً من الأحزاب المسلحة التي فرضت قانونها بقوة السلاح.
{ستتلاشى هذه الأحزاب عندما تتكون الدولة الجديدة}،قال لي واثقاً ولم أجبه شيئاً.
لم يقل أبي كلماتٍ كثيرة عن شكل مدينة الناصرية.كان ينتظر مني أن أقضي في المدينة وقتاً حتى يحاورني عن الحرب،واختفاء الدولة.
لقد أخذ الموت أبي مني قبل أن يروي لي شيئاً عن الحرب.وقد يكون الموت في فعله هذا قد أبقى لي أفقاً مفتوحاً لتخيِّلِ ما كان أبي سيرويه لي عن الحرب.تخيّلٌ سيكون مرتبكاً،لامحالةَ، ومحيِّرا.
ولأني تعلمتُ ألاّ أسألَ أحداً في شأنٍ شخصيّ كالحرب،فقد تجنبت أن أعرف كيف كان أبي يعيش أيامه في الحرب. لقد خشيت أنْ يُروى لي عنه ما ليس صحيحاً فيستقرّ في عقلي فلا أتحرر منه. لم أرَ أبي وقتاً طويلاً في الناصرية، ولم أحسبني أراه ميتاً،ولم أحسبني أدفنه فأرى قبره.
أكان أرادَ انتظارَ مجيئي إليه فيموت فأرافقه إلى القبر؟
كان أبي قد صار نهباً لمن بقيَ من أبنائه هناك. فنهبوا كدّ عمره كله وأجبروه على بيع بيته الكبير،ومورد رزقه..حتى لم يبق له بيتٌ،ولا محلّ عمل،ولا مالٌ غير نَزر قليل منه،زادَهُ له في ما بعد،شقيقٌ لي هاربٌ من البلاد أيضاً،حتى يمكّنَهُ من شراء بيت صغير،لم يكن مبنياً كفاية،فبناه له شيئاً فشيئاً..
وفي لعبة طمع الأبناء هذه،لم يغيِّر طبعه في الكرم ولا في محبته للأبناء، حتى لمن اِستأثر منهم به نهباً.فغضَّ النظر عن النهب،وزاد عطاياه للناهبين ، ولم أسمع له شكوى من ناهبيه،عندما بدأت دنياه تنكد، بل اعتزلهم بعظمه الثقيل وكبرياء الحكيم العارف،مكتفياً براتبه التقاعديّ وبما أوجبه له شقيقي الهارب من مالٍ دوريّ يعينه على العيش في عزلته.
أكان أبي يئس من العالم فارتضى أنْ يُنهَب؟
أباركَ أبي ناهبيه؟
بل لأسأل سؤالين محيِّريْن:
أكان أبي صوفياً ، زاهداً بالحياة ؟
لكنه كان مكافحاً فيها من أجل بنيه..
أكان أبي تاوياً،في تأملّه، يُذكِّر بالقصائد الثمانين للاوتسي في طريق الفضيلة ؟
لكنه كان عاملاً يكدّ في عمله كدّا..
* * *
لم يكن أبي يقتنع بأنني أستطيع أن أدبِّرَ أمري في الحياة ، فما كان يراني كائناً عملياً. وحينَ ساقوني إلى الخدمة الإلزامية في الحرب مع إيران،خاف عليّ أن أموت قبل غيري من أبنائه الذين كانوا جنوداً في الخدمة الإلزامية أيضاً.كان يظنّ بأنني سأرسَلُ إلى الحجابات الأمامية في الجبهة بعد مشاجرة واحدة مع الضباط. ولم يتحرر من فكرته تلك، حتى هربت من البلاد كلها.
أبقى لي أبي مزاحاً يُسمعني إيّاه في الهاتف بين حين وآخر.
مرةً ،في أحد أيام 1993 هاتفني إلى مدريد، فأخبرته برغبتي في مساعدته، ضحك وقال: شكراً، دبِّرْ أمرك أولاً، فضحكت.
* * *
كان راقداً في تابوته المحمول على السيارة حين دخلنا مدينة النجف في صباح الثالث والعشرين من آذار،واجتزنا بعد مدخلها ساحةً مدورةً رُفِعَتْ فيها لوحة كبيرة بأعمدة،للثلاثيّ الصدريّ.كتبوا في أعلى اللوحة آية من سورة يس: ( وإذ أرسلنا إثنين إليهم فكذبوهما فعززنا بثالث).كنت أجلس قريباً من السائق، اِلتفتُّ إلى من كان معي في السيارة وسكتُّ،لم أقلْ شيئاً.تذكرتُ أنَّ صاحبي ممددٌ في تابوت،وأني ذاهبٌ لدفن الفطنة في قبر.

بعد أن انتهى مجلس الفاتحة وأيام العزاء،ذهبت إلى بيته الصغير لأبحث عن نفسي في جرارات خزانته القديمة. وجدت فيها صرةً،ووجدتُ في الصرّةِ أوراقاً كثيرة من ماضيَّ ، منذ أيام الدراسة الابتدائية،ووجدتُ في الصرّة،أيضاَ،مجموعتي الشعرية الرابعة :" متحف لبقايا العائلة". كانت تلك المجموعة هي آخر مجموعة شعرية أطبعها في بغداد،قبل الهرب من البلاد بأواخر الثمانينيات. دمعتْ عينايَ لوفائه ولجحود منفاي..

1 – 7 –2004 هولندا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل يكون قانون -الحريديم- في إسرائيل سببا في إنهاء الحرب؟ | ا


.. فيليب عرقتنجي ولينا أبيض: رحلة في ذكريات الحرب وأحلام الطفول




.. مصر: مشروع قانون الأحوال الشخصية.. الكلمة الأخيرة للمؤسسات ا


.. هآرتس: استعداد إسرائيل لحرب مع حزب الله بالون أكاذيب




.. إسرائيل تؤكد على خيار المواجهة مع حزب الله وواشنطن ترى أن ال