الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل نظرة براغماتية عربية للسياسة

محمد سيد رصاص

2004 / 8 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


قامت النظرة السياسية الحديثة على رؤية ريبية سلبية للطبيعة البشرية: يمكن تلمس ذلك من خلال الكتب الثلاث التي سيطرت مفاهيمها على الفكر السياسي في فترة ما بعد العصور الوسطى، أي كتاب ميكيافللي "الأمير" [1513]، "الليفياثان" (Levithan) [1651] لتوماس هوبز، و"ما العمل؟" [1902] للينين.
تتخلل كتاب ميكيافللي فلسفة ضمنية، تحكم منظوراته كلها، ترى أن كمية الشر أكثر من الخير في الإنسان وأن الإنسان موزع بين الطبيعة الإنسانية [= القانون] وتلك الحيوانية [= القوة]، مما يفرض على السياسي عندما يفكر في الوصول للسلطة، وكذلك أثناء ممارستها وفي عملية الحفاظ عليها، أن يأخذ بالاعتبار كل ذلك، الشيء الذي، حسب ميكيافللي، يحكم مجمل العملية السياسية. فيما يرى (هوبز) أن "الإنسان ذئب" وأن هناك جانباً وحشياً قوياً في الإنسان [أكدّه (فرويد) فيما بعد] يأتي من ميوله الطبيعية التي تنحوا نحو الاستئثار والتسلط، وأن الإنسان لو ترك لطبيعته لأصبح هناك صراعاً للكل ضد الكل، حيث تأتي شرعية الدولة، والقانون معها، من كونها تخلق قوة وقائية وضابطة لذلك من أجل منع الميول الطبيعية للإنسان من أن تأخذ مداها المدمّر، مما يمكن- والمقصود الشيء الأخير- أن يمنع قيام أي مجتمع يستطيع فيه الأفراد أن يكونوا مسيطرين على أجسادهم وممتلكاتهم المادية. بينما أكد (لينين) على أن الطبقة العاملة لا تستطيع بوعيها الذاتي أن تصل إلى أكثر من الوعي النقابي، وأن وعيها السياسي الطبقي لا يمكن أن تحصل عليه إلا من خارجها، أي من "طليعة منتظمة في إطار حزب"، فيما تقوم تراتبية هذا التنظيم على مبدأ تقسيم المعلومات بين الهيئات وأفرادها من الأعلى إلى الأدنى، في نوع من الإجراء الوقائي تجاه طبيعة الإنسان الضعيفة أمام قوة الدولة البوليسية، مما يشكل الفلسفة الضمنية لأي تنظيم سري.
كان ذلك تجاوزاً للمفاهيم السياسية، الآتية من العصور القديمة أو الوسطى، والتي كانت تحدد العملية السياسية من خارجها، أي إما من الأخلاق أو من الدين، ولو أن الأخير يقوم على فكرة ضمنية ترى الله مجسّداً للخير فيما الإنسان لا يستطيع أن يكون خيّراً إلا إذا اتقى الله واتبع نواهيه وتجاوز وحدّ من طبيعته، التي تحكمها "النفس الأمّارة بالسوء": هذا أدى إلى أن الفكر السياسي الحديث يحدّد السياسة من خلال ذاتها، أي عبر مطابقتها للمسار الاجتماعي للإنسان، والذي يحكمه –أي هذا المسار- منظور المصلحة، حيث تأتي السياسة، بوصفها تعبيراً عن قوة قائمة أو محاولة من أجل تحصيلها، كوسيلة للحفاظ على المصلحة وتعزيزها أو من أجل الوصول إليها لصالح فئة أو طبقة اجتماعية محددة، أو أكثر، أو لصالح الأمة إذا اجتمعت طبقاتها وفئاتها على ذلك، فيما تتم عملية تحقيق المصالح عبر رؤية، ترى الهدف، إلا أنها تسعى إليه عبر رؤية لتوازن القوى وفق المراحل المؤدية للوصول إلى ذلك الهدف.
سيطر ذلك على الفكر السياسي في البلدان المتقدمة، ولو ظهرت مقاومات لم تنجح مثل كتاب حان جاك روسو "العقد الاجتماعي" [1762] الذي بنى نظرته للسياسة على أساس أن الطبيعة البشرية هي خيّرة بالفطرة والأصل، وقد قدمت الليبرالية، في معسكر اليمين، وكذلك الماركسية [بفرعيها الشيوعي، والاشتراكي الديموقراطي] على اليسار، مفاهيم للتاريخ والاقتصاد والاجتماع ساعدت على ترسخ تلك النظرة للعملية السياسية الآتية من ميكيافللي وهوبز، مما أدى إلى انتصارها، على الصعيد العملي والمفاهيمي، فيما لا تظهر، هناك، مقاومات لذلك إلا في محاولات أكاديمية، لا تملك تأثيراً فعلياً في الوسط السياسي، تحاول ربط أو وضع منظور أخلاقي للسياسة، فيما يعتبر الليبراليون، والماركسيون، أن الأخلاق هي ذات طابع فردي محض، بينما السياسة هي في ملعب آخر تتحدّد عبر قوانين العملية الاجتماعية، مما جعل اليمين واليسار، في البلدان الغربية المتقدمة، يلتقيان على نظرة براغماتية للسياسة تتحدد عبر مفهومي (المصلحة) و(توزان القوى).
لم يصل المجتمع العربي الحديث، بعد، إلى ترجيح وتغليب ذلك المفهوم للسياسة القائم على المصلحة والقوة، الشيء الذي يحدد أسس وطريقة الوصول للهدف السياسي الذي يرسمه مبدأ تحدده الأيديولوجية المعنية، وإنما ما زال المفهوم السائد للسياسية، عربياً، هو ذلك القائم على اختلاط وتداخل النظرات الحقوقية والأخلاقية عند رؤية العملية السياسية، فيما لم يكن ساستنا العظام، مثل (النبي محمد) و(عمر) و(معاوية) و(عبد الملك بن مروان) و(أبو جعفر المنصور)، بعيدين عن ذلك المفهوم السياسي المنتصر، حالياً، في الغرب.
يمكن تلمس ذلك، عبر نظراتنا إلى مواضيع مثل (اسرائيل)، حيث نظن بأن الكلام عن اغتصاب فلسطين، من قبل اليهود الآتين من بقاع المعمورة، يمكن أن يقنع الرأي العام العالمي أو أصحاب القرار في الدول الكبرى، غير مدركين بأن هؤلاء يعرفون ذلك مثلنا، بل وأكثر، إلا أن ذلك لا يحدد موقفهم السياسي من العرب أو من اسرائيل ولا تجاه منطقة الشرق الأوسط برمتها، بقدر ما أن ذلك يتحدد عبر تلاق المصالح أو افتراقها سواء مع العرب أو مع اسرائيل.
كذلك في موضوع (التسوية)، حيث الغالبية العظمى من كتابنا ومفكرينا السياسيين يعالجون العملية التفاوضية والاتفاقيات، التي وقعت أو تلك المتوقعة، من منطلق حقوقي [=صراع بين الحق والباطل] أو أخلاقي [=صراع بين الخير والشر]، غير مدركين بأن هذه الاتفاقيات هي مجرد مرآة وحصيلة لواقع فعلي على الأرض، نتج عن الهزيمة في الصراع مع اسرائيل الذي استمر أكثر من نصف قرن، ليضاف إليه واقع جديد نتج عن سيطرة أمريكا على المنطقة، بعد حرب 1991 وصولاً إلى سقوط بغداد، وهي تريد –أي واشنطن- ترتيب أوضاع المنطقة، لفترة طويلة من الزمن، عبر (التسوية)، وإذا كان العرب يريدون مقاومة (التسوية) فمن الضروري وضع خطة طويلة الأمد تعتمد التمرحل للوصول إلى الهدف عبر مجرى (المصلحة) و(توازن القوى) كقطوعين يحددان السياسة الدولية.
كانت المعالجات العربية لتصريحات رئيس الوزراء الفرنسي (جوسبان) الرافضة لظاهرة (المقاومة وحزب الله)، في شهر شباط من عام 2000، مثالاً فاقعاً على الخلل الذي يعانيه المفهوم السائد للسياسة، والذي هو مسيطر على الساحة العربية المعاصرة، حيث ظنّ من رماه بقفاز "تراث المقاومة الفرنسية للنازيين" بأنه يضربه ضربة قاضية، من دون أن يدرك بأن حكومة المقاومين الفرنسيين، برئاسة ديغول والتي ضمت الحزبين الشيوعي والاشتراكي (آب 1944-ك2 1946)، هي التي ارتكبت مجزرة مدينة صطيف بالجزائر (9أيار 45) وهي التي اعتدت على مبنى المجلس النيابي السوري في يوم 29 أيار 1945. من جهة أخرى، فقد كانت عملية تذكيره بـ"فرنسة الحق" وبموقف الجنرال ديغول الذي جسّد "الحق" في حرب 1967، لا تحوي فهماً لأسس تحول السياسة الفرنسية، عام 1967، والذي أتى على خلفية انفراط تحالف تل أبيب –باريس، في عام 1963، عقب استقالة بن غوريون وانتصار جناح (أشكول –غولدا مائير) الذي مال إلى الشراكة العضوية مع واشنطن مما ولّد ما رأيناه في حزيران 1967 [بعيداً عن مراهنات بن غوريون على عدم وضع كل البيض الإسرائيلي في سلة واشنطن عبر تقاربه مع محور باريس- بون الذي تشكّل بين ديغول وأديناور بعد 1958]، حيث ظنّ ديغول بأن موقفه، في حزيران 1967، يمكن أن يعوضه عن ذلك ويتيح لفرنسة دخولاً للمنطقة العربية يتجاوز قطوعي (السويس) و(الجزائر)، إضافة، وهذا هو الموضوع الرئيسي الآن، إلى أن تلك المعالجات لم تستطع أن تقبض على نقطة تتمثل بأن (تصريحات جوسبان) كانت خلاصة لتحول بدأت أولى ظواهره في حرب 1991 (ولو أن ممانعة باريس، القصيرة الأمد، تجاه الأزمة العراقية في عامي 2002-2003 تظل تمثل استثناءً لم يطل، لتعود باريس إلى الانضباط مع واشنطن عقب الحرب الأخيرة) حيث تجسد ذلك في اتجاه فرنسي للركوب ضمن المركب الأمريكي بالشرق الأوسط وعدم محاولة مناوشة واشنطن أو انتهاج سياسة مستقلة عنها بخلاف ما حصل بعد 1967، لتأتي تصريحات جوسبان تعبيراً عن هذا التوجه الفرنسي الجديد، والأوروبي عموماً، والمتمثل بأنه إذا كانت أمريكا قد تفردت عسكرياً وسياسياً بالمنطقة بعد 1991، فإن الدور الاقتصادي بالشرق الوسط هو ما تبقى لأوروبة لكي تطمح إليه، وهم يدركون بأن سياسة غير متلائمة مع واشنطن وتل أبيب ستعيق عملية تحقيق ذلك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حُرم من حلمه والنتيجة صادمة ونهاية حب مأساوية بسبب الغيرة! ت


.. إيران تلغي جميع الرحلات الجوية.. هل اقتربت الضربة الإسرائيلي




.. ميقاتي لسكاي نيوز عربية: نطالب بتطبيق القرار 1701 وأتعهد بتع


.. نشرة إيجاز - مقتل شرطية إسرائيلية وإصابات في بئر السبع




.. اللواء فايز الدويري والعميد إلياس حنا يحللان المعارك الضارية