الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وباء الأرواح

عدنان الدراجي

2010 / 6 / 28
الادب والفن


وباء الأرواح
أطبق الصمت على رواد مقهى ترقبا لسماع البيان الحكومي المهم, وبعد دقائق مشحونة بالتوتر اطل الناطق الحكومي المتجهم على الشاشة ليتلو بصوته الحماسي المعروف ديباجة البيان الذي افتتحه بآي من الذكر المجيد وختمه بأحاديث شريفة تحث على حب الوطن وطاعة أولي الأمر, لكنه سرعان ما أرعد بعدها محذرا من مغبة تصديق أراجيف الأعداء التي تتحدث عن انتشار وباء جديد في ربوع الوطن الحبيب, ثم أنهى بيانه بتهديد صريح يعد بمعاقبة مروجي الإشاعات.
كانت همهمة رواد المقهى ترافق جمل البيان حتى نهايته, لتنطلق ضجة المقهى المعهودة مع نهاية سطره الأخير.
تصاعدت رغبتي في الالتجاء إلى صومعة عزلتي لاتقي تبعات تعليقات رواد المقهى التي أنكرت مضمون البيان حال انتهاء الناطق الحكومي من قراءته.
لم يلبث الهمس المحموم طويلا إذ أوقد بائع الصحف أوار نقاش تناول أعراض الوباء وبؤره وأخبار الموبوئين, فشكلت لوحة سريالية للوباء عسّرت عليّ تصديق النفي الرسمي والتأكيد الشعبي, وقد لاحظت أن جميع المتشدقين نفوا تعرضهم للإصابة لكنهم أشادوا بالمصابين به لذا ظننت أن الأمر لا يعدو مرضا غامضا من تلك الأمراض التي اعتدنا على ظهورها بين حين وأخر, أو أنه وهم نتج عن مزحة سمجة أراد مطلقوها أن يثيروا رعب المغفلين.
توقف النقاش الحامي فجأة بسبب مشاجرة حامية بين متباريين بلعبة الدومينو كادت أن تتطور إلى عراك بالأيدي وبكراسي جريد النخيل التي اشتهرت بها هذه المقهى العريقة ورغم الزعيق والفوضى مكثت في زاويتي غير مكترث بما يجري حولي إلا أن المشاجرة خمدت كما بدأت فجأة فعاد النقاش حاميا.
كنت أنصت مجبرا إلى خادم رئيس التشريفات الذي انهمك يحدثني عن الوباء حديث العارف الخبير, اغتنمت فرصة انشغاله بالحديث مع عامل المقهى فقلت متهكما: وباء ينتقل بالسمع والبصر والمضاجعة إضافة إلى سائر طرق انتقال الأمراض الشائعة! لم اسمع بذلك من قبل! مرحى للأصم والأعمى والخصي حصانتهم.
وضع محدثي يده الضخمة على فخذي وهمس: ليس هكذا, ثم أضاف غير مبال بمؤذن الجامع الذي كان يتأهب ليتصدر ناصية الحديث:
الكل معرضون للإصابة سواء كانوا معاقين أو اصحاء, لا احد محصن إذ أن كثيرا من خصيان جلالته قد جنت أرواحهم ثم ذكر لي أسماء عدد غفير من القضاة والأطباء والعلماء والوزراء والشخصيات المرموقة الذين فقدوا أرواحهم خلال الأسبوع الماضي جراء إصابتهم بالوباء.
أطاح محدثي بسُحب شكوكي فصدقت أن هناك وباء جديدا يدعى جنون الأرواح لكن لم افزع، فجميع ضحايا المرض الذين اسمعني أسماءهم من المترفين فهمست: داء ملوك أخر, تكفل بردعه عنا الفقر, لا ادري كيف سمع همسي, فرشقني بنظرة ملؤها الشك وقال: هل تعني انك لم تصب بالوباء؟
-اتق الله يا رجل! فأنا لست مؤهلا لنيل شرف الإصابة بهذا الوباء!؟
- بعد إصابة جلالته, لا أظن أن أحدا قد سلم منه.
أيعقل أن الوباء التهم روح جلالة السلطان, ضحكت طويلا إلا أن محدثي قطع ضحكتي وهمس متابعا: أن جلالته التقط الوباء فور ملامسته الصولجان خلال مراسم الاحتفال بالذكرى الأولى لتتويجه.
التقط الخادم ريبتي بسخط وانفعال أظهره احمرار وجهه الممتلئ بالبثور ودوران عينيه الضيقتين في محاجرهما قائلا:
-جهلك بالمرض يثير غضبي!
-..........
-أتصدق أن سيدي رئيس التشريفات قد أمرني قبل أيام بإخفاء روحه المتفسخة فرميتها في مكب قمامة لنتانتها التي لا تطاق.
-لكن كيف تتفسخ روحه ويبقى حيا معافى؟
-لا علاقة للأرواح التي يتعرض لها الوباء بالموت الجسدي.
- كأنك تتحدث بلغة أخرى؟
- لن تخسر شيئا لو صدقتني.
-هل هناك وسيلة لتميز من أصيبت أرواحهم؟
-بل قل هل هناك وسيلة لتميز الذين لم تصب أرواحهم لحد ألان!
-أتعني أن الوباء قد اكتسح الجميع؟
-سمعت كبار أطباء جلالته يقولون: أن الوباء تفشى في جميع الطبقات! قال جملته الأخيرة ونهض مستأذنا إذ لمح صديقي مدير المدرسة متجها نحو مقعدي الرابض في ركن المقهى القصي.
وضع الأستاذ كفه على طية الشعر العابرة نحو الطرف الأخر من رأسه ليتفادى التيار الهوائي المتدفق من المروحة العمودية, وحين دنا مني كان لا يزال يربت على هامته كأنه يسترضي خصلات شعره الثائرة لتهدأ وتستلقي فوق صلعته التي لولاها ما بانت علية آثار خمسة عقود ونيف من عمره.
كم تفرحني إطلالة صديقي هذا بملامحه المتناسقة وسمرته الخفيفة وكياسته واعتدال آرائه.
ناديته ولما يجلس بجواري: جئت في الوقت المناسب يا أستاذ, كنت أريد تحفيزه لسماع وجهة نظره في موضوع الساعة فانا في اشد الحاجة إلى أرائه المتفائلة التي يحرص على إبدائها بصوته الشجي وقدرته الغريزية على اسر محدثيه وإقناعهم بما يشاء.
جلس على غير عادته ساهما ومحملقا بفضاء المقهى المكدر بدخان (الأراجيل) من غير أن يلمس قدح الشاي الساخن الذي وضعه عامل المقهى فور جلوس الأستاذ.
أدار بصره باتجاهي ثم قال: ماذا أعددت للكارثة؟
-فاجأني البيان وصدمتني عدم مبالاة الناس!
-الم تسمع إي شيء عن الوباء قبل إذاعة البيان؟
-ظننتها أراجيف!
-أتعلم أن جلالته موبوءا؟
-سمعت توا!
-وألان ماذا ستفعل؟
-اقترح مراجعة وزارة الصحة لشرح الأبعاد الخطيرة لهذا الوباء واقتراح البدء بتصنيع اللقاح المضاد للوباء.
- هل ستسعى الوزارة التي عجزت عن حماية روح السلطان إلى تحصين أرواح المواطنيّن!!!!
- نتوجه إلى الناس لشرح خطورة الوباء.
- إلا تعلم أنهم يتفاخرون بالوباء تزلفا وتأسيا بحاشية السلطان!
هممت بالرد على الأستاذ لكني قوطعت بعاصفة من التصفيق المدوي وصرخة جماعية حادة: هدف, هدف, هدف.


د.عدنان الدراجي
[email protected]
8-6-2009









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي


.. الممثل الأميركي مارك هامل يروي موقفا طريفا أثناء زيارته لمكت




.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري