الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأب الضّال والفرد المؤسّس للجماعة الحرّه

ياسر اسكيف

2004 / 8 / 17
الادب والفن


ما من منظر للحداثة الشعرية العربية إلا واستعار الكثير من الأسباب الأوربية للحداثة , معتبرا أن دفاع الذات الفردية عن وجودها واستقلالها ومقاومة عوامل تشيؤها أو محوها كان أهم تلك الأسباب . غير أن أحدا منهم لم تعن له الفردية سوى أل التي امتد ت وتضخمت حتى غدت اختصارا للكون أو بد بلا عنه .
وانتظرنا تصحيحا لهذه العلّة الخلقية,التي ورّثهاالحداثيون الأوائل , من الأجيال الشعرية التي تلت , غير أن الفرد الذي انتظرناه كان شديد البطء في التخفف من أثمال الجماعة التي أعطت لظله ضخامة ولذاته تقزّما .
وجاءت بعض التجارب,على قلتها , لتؤكد أن الانتظار كان طبيعيا . وأنه بمعزل عن بدء الإحساس بالتشكّل الفردي على المستوى الحياتي فلن نلحظ هذا التشكّل على المستوى الشعري .


في هذا الإطار يأتي الكتاب الشعري الأخير للشاعر < لقمان ديركي > الصادر عن دار ألف للثقافة والنشر – دمشق 2003 مانحا المشهد الشعري السوري نكهة شديدة الخصوصية , ومتّخذا لنفسه موضعا سبقيا في النواة التي تتخلق للمختلف الحقيقي .
إن <لقمان دير كي > يؤكد , ومن خلال كتابه هذا , حضورا خاصا ومؤسّسا لتجربة شعرية يقدمها النص وليس مرجعياته . وهو بهذا يقدّم نصيّا ما يظهر بؤس التنظير وما يدفع إلى التوقّف والنظر بجديّة ومسؤولية إلى ما سطّر ,
وما أنتج فعلا .
وفي حضرة < الأب الضّال > لابدّ من التفكير بحجم الخراب والكبح الذي أحدثه ومارسه < دونكيشوتات >
الحداثة الشعرية العربية وما زال بعضهم يحدثه ويمارسه .
فالذين نادوا بالجنون ظلوا عقلاء أكثر من العقل ذاته .
والذين نادوا بالقطيعة اتصلوا بتواريخ أخرى وانتموا إلى أبوّات جديدة .
وأما الذين نادوا بالإعلاء من شأن الذات الفردية فقد أضحت دواتهم جماعات .
وحصد أولئك, عمّا ادعوه جنونا وقطيعة , جوائز استثمروها بعقلانية لا تدع هامشا , مهما بلغت ضآلته , للجنون
وشيدوا باسم القطيعة معابد الحقيقة والصواب . الصواب الذي يؤبدهم نجوما , والحقيقة التي تصون تألقهم وتحفظ ذواتهم كرموز أزلية .
ويأتي الأب الضال ليفتح ثغرة في الهيكل الذي شيّده السدنة الحداثيون , وليؤكد خروج < لقمان ديركي > من < فورة البياض > و < غبار الضيوف > قصائده التي تخبط فيها طويلا وهو يعيد إنتاج الآباء الصالحين أمثال
< سليم بركات > و < عباس بيضون > وغيرهم ..... وخروجه أيضا من البهلوانية التجريبية المتكلّفة التي رسمت < وحوش العاطفة > إلى عالم الذات التي لا تتأكد بالانتماء بقدر ما تتأكد بالتجاور , محققا , عبر التجربة والعيش ,مايمايز ويفصل بين ألأنا الأنوية والأنا الفردية :

* أنا الابن الضال الذي بلا صورة معلقة له في البيت ولا مفتاح خاص به ---- ص 36

فهذه الأنا غيرها فيما استقر من تعريف للأنا عبر تاريخنا الثقافي والاجتماعي . إنها دلالة على الطرد المزدوج من حظيرة التشابه والانصياع إلى فضاء التعدد والحرية .
إن الابن الضال لم ينشد بضلاله تميزا , ولم يعتذر عن هذا الضلال بالكون أبا صالحا , شأنه في ذلك شأن الأبناء الذين انتحلوا الضلال في ثقافتنا العربية , إنما يستمرّ في أبوّته اختلافا يهدّد طمأنينة الإجماع :

* -- منذ أن هربت صورتي من إطار العائلة وابنتي التي تعلّمت أن تكتب اسمي واسم أمها وأختها واسمها ....... وعندما كانت تلتفت كنت أشطب اسمي ....... ص16

هي محاولة لتأكيد الفردية بالتعدد , ليس عبر المفردات واشتقاقاتها بل عبر التحول الذي يفترض بإنسان يعيش في آن مرتبك , إنسان يتعرّف إلى كينونته ويعرّفها في مواضعاتها التي لا تستند إلى مرجع ولا تأتمر بقبل .

* ---- في صورة بالأبيض والأسود كنت أمشي إلى خارج الإطار بألواني الطبيعية ....... ص17

ليس التفاؤل هو من تمكن قراءته في الصورة السابقة . بل أبواب الاحتمالات اللامتناهية خارج الثنائيات الضدّية التي أتخمت ارثنا الحداثي . والتي مارست إرهابا أفقر حياتنا وأقفرها , لدرجة أصبح معها الطبيعي والتلقائي علامة فارقة وعنصر شذوذ :

* --- وما حمل ساعة في معصمه وما علّق في عنقه زردا وما نقش على جسده وشما
ولكنه مشى في الشوارع المزدحمة كعلامة فارقة ....... ص9

غير أنّ الذات المتنبّهة , الذات التي تقاوم أسباب ابتلاعها ومحوها , الذات الباحثة عن التجاور والاتحاد اللذين لاترى تأكدها إلا بالاستقلال , الاستقلال وحسب , تجد نفسها على الدوام , وخاصّة في المجتمعات الماقبل مدنية , عرضة للعذاب والقهر والأ لم , ذات لاتعرض ألمها لتستجدي , أو تقول قهرها سعيا للتعويض بل تعرض وتقول لتؤكد أن ذلك جزء منها وجانب من تعريفها :

*.---- إذا تعب الشعراء قالوا : تعبت يا صاحبي أو يا أبي ...... أو يا أخي .... أما أنا .. فتعبت
وما عادت بي طاقة للعيش ولم أقدر على الدنيا ويأسي أكبر من رغبتي بالحياة ولكن
دون أية كلمة تستطيع أن تسند هذه الجمل المرهقة ........ ص8

هي ذات تخترق بالفعل لا بالقول , وتؤسس لفردية هي الفاعل في مساحة الحداثة دون ادعاء أو إطناب :
* -- في علبة الثقاب المبللة أنا العود الجاف ...... أنا عود الثقاب المحترق في علبة الثقاب المبللة
التي جفّت الآن ....... ص34 – ص39

وفي العودة إلى الأبوّة والضلال لن نقع على أثر للنشاز أو للتناقض في انكتاب التجربة الشعرية . والذي نجده هو اجتراح معنى جديدا للأبوّّة باعتبارها خصيضة بشرية لا سرا مقد سا . وكما الكثير من الخصائص المدركة كوعي شخصي , وليس كتمثيل للإجماع , فان الأبوّة التي تقدمها تجربة <لقمان ديركي > هي أبوّة جارحة , معذّبة ومخزية , غير أنها ما من سبيل إلى نكرانها . وهي لا تتنازل , كما في البنوّة , عن وعيها بالمجموع كاتحاد لأفراد يعون ويدركون استقلالهم :

*---- في الزحام سيرتطم بكتفك وستأخذين معك رائحة الخمر وعينيه المليئتين بالدمع وتعبرين
................ وبإصبع ثابتة ستشيرين هذا هو أبي . ص50 – ص57


أخيرا يمكنني القول إن الأب الضال يختصر الكثير من البيانات , ومثلها من الاجتماعات التي تتشدق بالحديث عن مجتمع مدني وأفراد أحرار . فهذه وتلك إذ تحدّثت فإنما عن مجتمع متخيل وفرد يخجلون من السير قربه في شارع عا م , ذلك أن القليل مستعد للخروج من الإطار الذي خطّه الفقهاء قبل مغادرتهم المزعومة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي