الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مخططات للحفاظ على القانون

نصيف الناصري

2010 / 7 / 3
الادب والفن


1

الأشجار ساخنة مثل أحلامنا في الظهيرة ، لكنها صامتة في الظلام المضاعف
للزمن ، واللحظات ترتجفُ مطمئنة خلف الأبواب الضبابية للموتى . لا خلود
لسهر الانسان وقربانه المعذب في العطاء الحلو للصيف ، والجزر التي حفرناها
لنوم العصافير ، تعبر الفضاء مترنحة في الريح المجهولة ، ثابتة واهتزازاتها
ترهن نومنا وضوء الحقول . لحظة لانجماد الأعياد . لحظة لبريق البشارة
كل تماثل في هذه اللحظات المتشققة ، تطفئه السُفعة الملتوية والمندفعة لتنفسات
أفعى الزوال . الخريف أسير عاداتنا ، والبجعة مغرمة وتشهد ضد النسيان حين
نترك أشيائنا بين الممرات المتقرحة ونمضي مثل العميان باتجاه الشرارة الأخيرة .
لموتنا . كل شرخ في مرايا الشجرة التي نمتحنها ، علامة احتضار لضفائر الرغبة .



2

يريدون أن أتحدث لهم عن عطر القرنفل في الينبوع
لكن كلمتي تتراخى محتضرة في النسيم الجاف للعزلة
ولا أمل لي في سنبلة قادمة . الصمت والجليد يغلفان
أغنيتي ، وأقصى ما أطمح اليه هو الوصول الى قمامة
موتي بلا عكازات وأقراص كارتيزون . لا يخلصنا شذى
الهلال من الرماد المقيم للبلوى ، ولا خرائب النهد تظللنا
بغيومها الخفيضة . كل أحلامنا تنطمس في الجرح المتلطف
لحليب النهار ، وانتظاراتنا تخشخش مغضوطة بفراغ أيامنا .


3

أنغام النعمة ذابلة في تنهداتكِ المنغلقة على الظلام ، ولا نسمة
حرّة تعينكِ على عبور قبو سجنكِ المنغلق على الفضاء ، الحبّ نصب
عجائب لعطور الموسيقى ويعلو دائماً في كستناء الزمن ، وابتهالات
نحل تُسمع عبر المرآة المزدوجة للحقيقة الانسانية . طروادة انتهت
الآن ، وايكاروس الغجري طار وحطّ متوسداً جروحه في الندف الثلجية
العميقة في أرض السويد ، وأنتِ تنتظرين الآن الانتحار ببطء تحت ثقل
خنزيركِ العجوز المريض . في أرض الصيد ، نقيم شعائرنا ونواصل
العيش مع الماضي . لا يقطن النسيم القليل للحبّ في الظلمة ، ولا الذكرى
تتنفس الضباب في فناء الهيكل العظمي لشجرة الزمن . يمتد النور بلا
مؤاساة دائماً ، ومذاق القبلة سهم موسيقى في الليلة التي يتجمد فيها الوعي
حين تعبر الغزلان شاطىء الخزف الصيني . كانت لحظة مباركة حين
التقيتكِ في ذلك اليوم الذي خرجتُ فيه من سجن { الموقع } بأربيل وأنا
أعاني من عقابيل داء الجرب . كنتِ جميلة جداً في ذلك اليوم المشؤوم
ولا تشبهين أيّة امرأة أخرى في العالم . كنتِ مضيئة كمعراج دافىء يصعد
من ليل السنبلة الى رتاج الشمس في الأحلام . كتبتُ لك رسائل كثيرة من
جبهة الحرب ، وكنت تقرأين عسلها للسحالي في صخور أعماقكِ .
هل كنتِ شفيعة حقاً في بلد يلتزم الناس فيه الصمت وسط ليل الطروادات ؟


4

أصوات منعمة كثيرة سمعناها تعبر تحطمات الليل في زحام الموتى
على الجسور ، والعظام لا تحفط عفتها في غياب الآلهة . فجوات عميقة
بين أملاح الوزن وهرطقات نار الفراشة . خلف كل ساحل يتظاهر الموتى
بالنوم ، لكننا نعرف انهم يرفعون أصواتهم ويتدرعون برماح الطفولة .
هذه اللحظة المدوخة معزولة الآن عن النور المختبىء في منحدرات
الغروب ، واخوتنا الغرباء يضيّعون آلات الصيد في الحشائش الذابلة
لغابات القرون الوسطى ، ويتركوننا نترقب مجيئهم الى الفجر . التعري
الآن ليس سهلاً أمام السقّالات المحمولة في جندول الحزن ، ولا صعود
رغباتنا أكثر حرارة في القناديل التي تلفها الترنيمة الكريمة لأغصان
السرفيل الأبيض . تنتظرنا الآن ونحن ننرقبُ وصول الموتى ، آلات
حادّة تسري بين العظم وبين الكلمة ، وفي الجنائن التي أعددناها لضيوفنا
تضطجع الموسيقى مقروءة في توهج لحظة العودة .



5

رجل مشجوج الجبين ، يحدقُ في فراغ أيامه ويتلمسُ باب صنوبرة سوداء .
الخطيئة هي ما تفزعه ، لكن المحاذير تعلو على أيّة اشارة منه في الانتحار .
لو كانت له القدرة على الفعل ، لما بقى لصوص في المدينة . ثلاثة عشر
عاماً تحت ثمار سماء السويد ، مخفياً موعظتي ، أفكر بالعودة الى بيت
العنكبوت ، لكنني بعد قرابين كثيرة سفحت خمورها في تعبدي ونجواي
تذكرت أيام شبابي التي قُتلت بسوط محبتي لذلك البيت الذي طُردت منه .
لا صفصاف للفاني ، ولا رجاء للشريد . كل دمعة هي لطخة جحيم في
رخام الذكرى ، والوطن سكنت أنهاره اليابسة ذبابة المزابل وذئاب الخراب .


6

للحفاظ على القانون يلزمنا أن نزيل الأشجار عن الطريق . كل تعثر علامة
انحطاط في القيّم التي نؤمن بها . أحلامنا المريضة تفسدها أصوات الصراصير
في ليالي الربيع ، ولا أمل لنا في الظل المتصدع للمومياء التي ننتظر وصولها
في العتمة المحلوقة . كل ما نؤمن به ، يدخن دائماً في رماده ، وما ينتظرنا
يدمر كل ارادة وكل شراع للطموح البشري . يتوجب علينا الآن أن نحطم
الأصنام في المستشفيات ، ونحرض المرضى على الموت . تطالبنا الالوهة
بالحفاظ على ادامة الطقوس والشعائر لها ، وعلى ما تبتغيه وما يشبع نهمها
لكنها تتجاهل باستمرار شقائنا في البحث عن مخرج للطوارىء ونحن نتعذب
وسط حقول الألغام الكثيرة التي نصنعها بأنفسنا عبر أوهامنا الدينية عن خلاص
ما . لحظة قصيرة من الصمت بين المشعل والشاطىء . تخفف عنّا ثقل المحنة
الصائتة في التلاقي العذب للحظة موتنا .


7

كنتُ أرافقهم في الخنادق خلال القصف المدفعي الكثيف ، وكانت منازلهم
وأيامهم تدمرها الطائرات . كانت لهم أحلام فقيرة وزوجات ينتظرن مجيئهم
وكانوا يتساقطون الواحد تلو الآخر في تلك اللحظات المؤلمة . أحمد نعيم كان
بحاجة الى الحبّ ، نثرت أشلائه قذيفة ثقيلة . رياض نوري كانت عنده آلة
موسيقية ، بترت يده اليمنى أثناء محاولته ازالة لغم في الطريق . جبار عسل
كان يتذكر ساعة ولادته بلهب أخضر ، لكنه في تلك الحظة ملأت روحه
التجاعيد ، ولا يريد أن يموت في الحقول الخرافية لسخرية القنبلة المشدودة .
انظرُ الآن الى صورة تلك السنوات ، وأفكرُ بأولئك الرفاق الذين ماتوا ولم
يأكلوا الثمار الصيفية ، ولا شربوا النبيذ في حانات بغداد ، وأتحسر على
مصائرهم ولطافاتهم التي تساقطت في غبار الحرب ، وأبكي على شبابهم
وحيواتهم التي ذهبت هدراً .


8

في السنوات الأخيرة من حياته ركّب الشاعر الجميل سركون بولص
طقم أسنان كامل ، ودفع 10000 دولار الى الطبيب من ماله الخاص
. في لحظة موته المؤسفة ببرلين وأثناء احتضاره . جاء ناشر كتب جشع
الى المستشفى وطلب من الأطباء والممرضات أن ينتزعوا له طقم الأسنان
من فمه الذي يطلب النجدة . كانت حجة هذا الناشر ، انه سيطبع في
المستقبل كل أعمال سركون ، واذا طالبه ورثته بالحقوق ، سيقول لهم :
{ لا حقوق لكم عندي . أنا دفعت له 10000 دولار ثمن طقم أسنانه هذا } .
سركون شاعرنا الساحر النبيل عاش حياته من دون بيت أو وظيفة .
سلبته الحياة والأسفار الراحة ، وسلبه الابداع النوم ، وسلبه الناشر السافل
أثناء لحظة احتضاره الأليمة أسنانه .


9

{ غراب يحمل بمنقاره قشة من أجل أن يبني له عشاً . رأى في مرآة دكان
حلاّق ، ظلاً يشبهه . أراد التقاط قشة أخرى ، فأضاع ما كان يحمله } .
لو كان هذا الغراب حصيفاً ، لتخيّر شجرة مفعمة بالعافية ، لكنه لا حدس
عنده ، وزبائن الحلاّق لا يتحرك النسيم في عظامهم الرخوة . عيوب الجاهل
مستورة دائماً في تخبطاته ، ونحنُ ننسى في المعاشرة كل الاستفسارات .
من الصواب أن نؤخر نضوج الثمرة ، لأننا في ساعات الاحتضار يطيب
لنا المقام تحت ظلال الصخرة السلطانة للهلاك .


10

{ في بغداد العصور الوسطى ، كان الخليفة والفقهاء يضطلعون بمهمة كل شيء
في الحياة اليومية للمدينة ، وكان الأمراء طبقة بربرية متوحشة تحافظ على
اقطاعياتها الكبيرة . كانت ميولها العدوانية الحربية تنحصر في الدفاع عن
لصوصيتها وزيادة ممتلكاتها . فيما بعد ، حين سقطت دولة الخلافة وأعدم هولاكو
آخر خليفة عباسي . تغيّر مفهوم البطل في تلك الفترة الحالكة من تاريخنا المأساوي
، وأصبح العيّار أو الشاطر يتصرف وفقاً لقانون الشهامة والنخوة ، ووفقاً لضوابط
اخلاقية جديدة . هذا الفارس الجديد العيّار . الشاطر . كان هو حامي الضعفاء وحارس
المدينة من الأعداء . الحروب من أجل هدف جماعي ، انتهت تحت تأثير النزعة
الفردية ، وانحصرت في المغامرات العاطفية ، وفي تحقيق المجد الذاتي }.
أخيراً – انتصر الحبَ واللهو والترف ، لكن حين احتل العثمانيون بغداد وفرضوا
رطانتهم ، احترقت وردة التاريخ وما زالت نارها مشتعلة الى الآن .



11


أنتَ مريض وأنا مريض
فأيّنا يقود حصان الرب
الى اسطبله حين يجيء
متعباً في المساء من ترحاله
الطويل في ممالك الأرض ؟


12

أضعتُ لويس في شوارع كوبنهاكن تحت قناديل الأشجار ، وكانت الكثير
من الحشود تغرق في أمطار الحانات . بحثتُ عنها تحت أقمار العمارات
وفي الشواطىء الرملية ، وفي الأفياء الزرق لصيف طروادة . لا الربّ
أعانني في الوصول الى صمتها ، ولا الأنهار دلّتني على عسل شفتيها الذي
ينير ظلمة الأدراج في ساعات النهار . كل القطارات ذرفتها دموعاً ، والريح
أوثقت نفسها من أجلها بالأغلال . كان حبّها هو من يصهر موتي بتألقات الربيع
وكانت قطرات المطر المتألقة في شعرها الفيروزي ، هي مثواي الأخير في
ليل محنتي ، ولحظة نجواي .

3 / 7 / 2010 مالمو








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مداخلة بسيطة
علي الأوسي ( 2010 / 7 / 5 - 11:31 )
أخي وصديقي العزيز نصيف الناصري
ذلك المتسكع في بلاد الله الواسعة
أتذكر أنتشيك أعتصر ذكرياتي
أذرفك دمعا وبقايا كأس تشظت قطراته الأولى
فلا أعرف طعم أخرها
يا منْ كان أحد صعاليك مقبرة حسن عجمي
أرثيك لا أسف عذراً
بل أرثي نفسي
مع شديد الأسف
لخطأي...
بل أرثي.. تلك اللحظة
التي تعرفت بها عليك
لا.. لا
بل أرثي اليوم الذي سافرت به من غير رجعة
أبكيك.. وأبكي مقبرتنا
ووزارة ثقافتنا
وطاولتنا المستديرة
(مقهى حسن عجمي)


2 - تحية
نصيف الناصري ( 2010 / 7 / 5 - 14:08 )

الصديق العزيز علي الأوسي . تحياتي الفائقة . . آملُ أن تكون كل أوقاتك لطيفة دائماً . لدي شعور قويّ انني سالتقيك في مقهى { حسن عجمي } ونعيد تاريخ الصعلكة بعيداً عن اللصوص والطائفيين وأدعياء الثقافة . . لقد دفنت بغداد عبر عصورها الماضية كل الغزاة والطارئين وأولئك الذين حاولوا خدش وجهها الجميل ، وستكنس رياحها هؤلاء الذين دمروا الثقافة والانسان والروح العراقية . محبتي واعتزازي

اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-