الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : الهاتف

بشير زعبيه

2010 / 7 / 4
الادب والفن


ما اعتبر نفسي مسؤولاً عنه فى سلوك ( العم صابر ) هو رسم الظواهر العامة لحالته والتي بدأتها بالتأكيد : إنه الثابت فيها .. حتى أن السؤال الذى يحضر عادة : من الأقدام هو أم الحانة ؟ تظل الإجابة عنه مؤجلة فى الغالب بل إن هناك من يعلق وهو فىحالة نصف سكر أن الذي خطط لبناء هذه الحانة قبل أربعين سنة على الأقل لا بد أنه كان يتخيل المشهد كاملاً ، هنا منضدة مستطيلة من الخشب السميك صنعت على شكل سور صغير يمتد ليكاد يشطر الحانة إلى قسمين غير متساويين .. فى المساحة الضيقة تصطف على الجدار رفوف بنية غامقة انتصبت فوقها زجاجات متعددة الأحجام والأشكال ،اما لمساحة المتبقية المتصلة بمدخل الحانة فقد توزعت فيها خمس مناضد خشبية فقدت لونها الأصلي ، بينما هناك فى الزاوية المحاذية للمنضدة المستطيلة يجلس ( العم صابر ) والاسم لايحمل دلالة النداء فقط لكنه يتجاوزها ليلدلل على حالة شاملة : وجهه نصف الحليق دائما وانحناء الظهر قليلاً يجعل سترته الوحيدة الخالدة من الحلف موازيه لحزام لبنطال بينما يتدلى جانباها من ناحية الجيبين ، وهو مافرض عليه عادة شدهما بن الحين والآخر بقبضتي اليدين إذ يتدليان ، ولا يغر ( العم صابر ) نوع شرابه وربما هو من دون غيره الذي درج النادل الوحيد فى الحانة على أن يحتفظ له بنصف او ربع قنينة الشراب التي يتركها عندما يضطر إلى مغادرة الحانة .. وفي هذه الحالة يمكنك إذا كنت تقف أمام مدخل الحانة أن تتاكد من ثبات الطقس الذي ارتبط ( بالعم صابر ) قبل ان يترك الحانة خلفه ويختفي .. لايلتفت إلى الوراء .. كل مافيه ثابت حتى رأسه ..يخرج مستسلماً لانحناءة الظهر شاداً بقبضتيه إلى حيث منطقة ما تحت الجيبين من سترته ..المصباح المعكوف الذي ترتكز قاعدته الحديدية على الجدار الملاصق للحانة ضوؤه خافت يعطي قفا ( العم صابر ) لوناً واحداً غماثاً تختلط حدوده مع لون المحيط الائد .. ينعطف بهدوء معتاد نحو أقرب زاوية معتمة ..تتوقف خطواته فتسمع صوتاً أقرب إلى حفيف الثوب ثم شلال خفيف من الماء الساقط يطغي أولاً ثم يخفت ويأخذ فى التلاشي ويعود حفيف الثوب فتعود معه خطوات ( العام صابر ) مغمغما بشيء ما قبل أن تبتلعه العتمة مع خطواته التي تكون قد تلاشت حينئذ .. اعتاد النادل الوحيد الذي يقف خلف المنضدة المستطيلة ان يشخص بنظره في أول كل مساء نحو مدخل الحانة عند ذلك سيدلف ( العم صابر ) وسيكون ذلك علامة على أن الكرة الأرضية تكمل دورتها اليوم بسلام ، يبدأ ( العم صابر ) فى تشكيل حالته اليومية باتجاهه نحو زاويته المعتادة .. يهيئ كرسيه للجلوس مع سعلة موازية تختلط بصوت احتكاك الكرسى .. يفرغ جبينه على الفور من عدة قطع نقدية حديدية يضعها على كف يده اليسرى المبسوطة امامه ويرتبها فى شكل صف بباطن سبابة يده الأخرى مرتين أو ثلاثاً كأنه يعدها ثم يعيدها فى غهمال حيثما كانت ، وما إن يرفع رأسه قليلا حتى يكون النادل قد أحضر العدة المكملة للحالة او ما تبقى من كمية الليلة الماضية .. بعد الرشفة الطويلة الأولى يركز ( العم صابر ) مرفقيه بشكل عمودي على المنضدة ويشبك أصابع يديه صانعا قبضة كبيرة واحدة يسند إليها ذقنه ويظل ينظر فى فضاء الحانة المعلق إلى أن يشعل سيجارته الأولى .
إلى هنا توقفت مسؤوليتي عن رسم حالة ( العم صابر ) إذ فوجئت به يقرر احتساء ما تبقى من الشراب دفعة واحدة وإذ يقترب من حافة النشوة يلتفت كأنه يريد محادثة احد ، فتصطدم عيناه بنظرات النادل البلهاء ثم يغادر مقعده وينسل متجها نحو جهاز هاتف أسود قديم يشبه تلك الأجهزة التي استخدمت في إحدى الحربين العالميتين .. لقد تعمدت في مشروع النص الذي أتحمل مسؤولية حركة ( العم صابر ) فيه ان أتجاهل هذا الجهاز المركون فى إحدى زوايا الحانة ، اولا لأن الحالة التي تعمدت ان يكون عليها ( العم صابر ) تجعله أبعد ما يمكن عن شخصية ذات علاقات هاتفية ، بل ربما لاتمكنه من معرفة أي اتجاه يدار محوه قرص الهاتف ، قانيا لأن السياق الذي كنت منهمكاً فى ترتيب تطوراته يستوجب ملازمة ( العم صابر ) مقعده مستسلماً لتداع يعود به إلى أحداث قديمة تختلط فيما يتمكن الشراب من رأسه مع اللحظة القائمة فيهب مخاطباً شيئا ما فى الهواء صارخا كمشهد من يقوم بتأدية مسرحية فردية إلى ان أصل به عبر تطور مقنع إلى نهاية كنت بصدد البحث عن تميزها .إلا أنه أصبح بعد لحظة فى وضع يتيح له الاتكاء بأحد كتفيه على الحائط مقلداً الحركة التي شاهد كثيرين يؤدونها خلال استعمالهم الهاتف نفسه ويضع قطعة نقدية فى فتحة بقاعدة الجهاز ثم يأخذ فى إدارة قرص الأرقام عشوائيا .
المتوقع أن ( العم صابر ) سيعود إلى وضعه السابق في النص حين ينتهي مفعول القطعة النقدية من دون نتيجة تشجعه على التكرار ، لكنه وسط دهشتي يتكلم ثم يضحك ويظهر تأثير ثقل لسانه على قهقهة أقرب إلى الاستهزاء متمتماً فى الوقت نفسه باسم (.... ) ثم بكلمات غير مفهومة بينما يبدو أن الطرف المقابل قد سارع إلى إقفال الخط !
ياإلهى .. أي مصادفة عجيبة هذه ؟ وأي مأزق وضعني فيه ( العم صابر ) إذ لم يكن في ذهني أي استعداد لهكذا تطور ولم يعد ثمة مجال إلا الاستسلام لمشيئته هو ..
لم تمر دقائق حتى تطوق المنطقة وتقتحم الحانة ويقبض على ( العم صابر ) الذي لم يكد يسترجع بعد وضع الجالس المستند إلى المنضدة بقبضتين متشكابتكتين تقفل الحانة ويختفي هو زمناً وأظل حائراص أمام المفترق الذي أوصلني إليه .. كيف يمكن أن ينتهي النص على هذا النحو ؟ غير ان ( العم صابر ) يفاجئني بعودة عجابئية .. هاهو يتصدر شاشة الإذاعة المرئية ..حزينا محني الرأس قليلاً إلى الأمام لكنه يتحدث بطلاقة كما من تقمص روحاً أخرى وهو يجيب فى وضع المعترف عن سؤال لمحقق خفي : كيف تحصلت على الرقم الخاص بالسيد الرئيس .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل