الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نوستالجيا الأبيض والأسود

صبحي حديدي

2004 / 8 / 18
الادب والفن


ثمة تلك اللقطة الفوتوغرافية المدهشة للممثلة الإيطالية الشهيرة صوفيا لورين: أكثر من نصف المساحة يشغله جدار رمادي معتم، وما تبقى يستهلكه ظهر أريكة من القماش، خلفها قبعة عريضة، وبين الأريكة والقبعة يطلّ وجه لورين، فلا يشغل أكثر من 10% من بورتريه يحمل اسمها! وجه الفنانة التشكيلية الأمريكية الشهيرة جورجيا أوكيفي، في لقطة أخرى، لا يكاد يحتلّ 5% من بورتريه معقّد، تجلس فيه على فراش فقير، خلفها جدار رمادي معتم عُلّق عليه رأس وعل ضخم ذي قرنين هائلين، وثمة شريط رفيع من الضوء يخترق العمل طولانياً من الجهة اليسرى. وأمّا البورتريه الثالث، والأعجب حقاً، فهو يمثّل عازف الفيولونسيل الإسباني الشهير بابلو كازالس: إنه يدير ظهره للعدسة تماماً، جالساً على كرسيّ خشبي، في مواجهة حائط حجري عتيق أشبه بجدار سجن أو سور قلعة، ويشغل بدوره أقلّ من ربع مساحة الصورة!
لماذا وافق هؤلاء المشاهير، والعشرات سواهم، على الوقوف أمام عدسة ليست سخية مع وجوههم، بقدر سخائها مع تفاصيل جامدة كالجدار أو الأريكة أو القبعة أو رأس الوعل؟ ولماذا وافق على الظهور في بورتريهات مماثلة، وإن اختلفت معطيات سخائها مع الوجه الإنساني، ساسة من أمثال الرئيس اليوغسلافي تيتو، والرئيس الهندي نهرو، والملكة البريطانية إليزابيث، والرؤساء الأمريكيون دوايت أيزنهاور وجون كنيدي وبيل كلينتون، والبابا بيوس الثاني عشر، والرئيس الكوبي فيديل كاسترو، والملك فيصل بن عبد العزيز؟ ومئات الأدباء والفنانين، مثل بابلو بيكاسو، وخوان ميرو، وألبيرتو جياكوميتي، وجورج برنارد شو، وألبير كامو، وتوماس مان، وبرتراند رسل، وإرنست همنغواي، وكارل ساندبرغ، وفرانسوا مورياك، وياسوناري كاواباتا، وجون شتاينبك، وتنيسي وليامز، وألبرت أينشتاين، وكلارك غيبل، وأنيتا إكبرغ، وأنا مانياني، وجيسي نورمان، وهمفري بوغارت، وبريجيت باردو؟
الإجابة بسيطة، بالطبع، ومبررة تماماً: تلك كانت عدسة المصوّر الفنان يوسف كرش (1908 ـ 2002)، أحد أعظم عباقرة التصوير الفوتوغرافي، وأمير البورتريه بلا منازع، وأستاذ "الاستعارة الفيزيائية" والاستخدام الدرامي للضوء، لا كما استُخدم من قبل في التمثيل التعبيري عن دواخل النفس البشرية. لا أحد يمكن أن ينسى صورة همنغواي الأشهر، بالكنزة ذات القبّة العالية المطوية، والنظرة العميقة الغامضة، والابتسامة الخفيفة التي تنطوي على المعني ونقيضه في آن! ومَن ينسى البورتريه الأشهر لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل، حيث يبدو "الأسد الهصور" متكئاً على مسند أريكة ومتحاملاً على خاصرته اليسرى، فيغيب التفصيل الأشهر في شخصيته: السيغار الغليظ!
وعن هذه اللقطة يروي كرش أنّ رئيس الوزراء البريطاني قام بزيارة خاطفة إلى كندا لإلقاء خطاب أمام البرلمان، في عام 1941، في ذروة الحرب العالمية الثانية، وحين كان تشرشل في قمّة عنفوانه. ولقد وقع الاختيار على كرش لالتقاط الصورة الرسمية، لكنه اختار تنفيذ اللقطة التي ستدخل التاريخ وتخلّد الرجل والمصوّر في آن معاً. وفي قرارة نفسه كان كرش يدرك أن احتفاظ تشرشل بالسيغار الضخم ليس التفصيل المناسب لهيئة التحدّي التي يريد تفجيرها في صورة قائد كبير يخوض حرباً كونية، ولكن أنّى له أن يقنعه بذلك! وفي اللحظة القاتلة، قبيل الضغط على زناد الكاميرا، سارع كرش إلى اختطاف السيغار وحصل من تشرشل على النظرة التي يريد: التحدّي والسخط والامتعاض والحيرة والإعجاب، في آن معاً.
ويوسف كرش مات وهو يحمل الجنسية الكندية، ولكنه آسيوي أرمني تركيّ ولد في مدينة ماردين، وهاجر إلى حلب السورية بعد أن بلغ اضطهاد الأتراك للأرمن مستوى المذابح المفتوحة، قبل أن يحطّ الرحال في هاليفاكس الكندية، في اليوم الأول من السنة الجديدة 1925. ويجمع النقّاد على أنّ السمة الأساسية في أسلوب كرش هي إيقاع الضوء، إذ أنه يجبر الموضوع على السباحة في أكوان من الضياء، يوازنها بالظلّ وبأدنى تباين بين الأبيض والأسود. وهو يقول: "بهجتي الكبرى أن أصوّر ما في القلب والذهن والروح، ولا يهمني في هذا المقام أن يكون موضوع الصورة وافر الإيحاء من حيث الشكل أو التكوين أو الثقافة أو الموقع. عليّ أن أتدبر له موقعاً فريداً علي الفيلم الخام".
وصدور طبعات جديدة متلاحقة من كتب كرش هذه الأيام، واستعادة أعماله في معارض عالمية حاشدة هنا وهناك، يجعلان المرء يرجّح افتقاد بورتريهاته بالأبيض والأسود في هذه الحقبة بالذات، حين تبلغ هيمنة الصورة الملوّنة درجة قصوى من الطغيان. الأرجح أننا نفتقده على سبيل الحنين الحزين إلى جماليات من نوع آخر، تماماً كما تكون عليه حالنا حين نغرق في النوستالجيا المحضة، وحين يذكّرنا عصر الصورة المتلفزة ـ الرقمية بأنّ الذُرى الكبرى في فنّ التصوير الفوتوغرافي كانت ذات يوم... بالأبيض والأسود!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يسعدنى إقامة حفلاتى فى مصر.. كاظم الساهر يتحدث عن العاصمة ال


.. كاظم الساهر: العاصمة الإدارية الجديدة مبهرة ويسعدنى إقامة حف




.. صعوبات واجهت الفنان أيمن عبد السلام في تجسيد أدواره


.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث لصباح العربية عن فن الدوبلاج




.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث عن أسباب نجاح شخصية دانيال في ل