الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العداء في السياسة, والعداء كسياسة

منير شحود

2004 / 8 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


نحن السوريون الذين صمتنا طويلا لنا خصوصياتنا؛ فقد تشبعنا بخطابات منحوتة حول مفاهيم عديدة, منها مفهوم العدو والصمود في وجه مخططاته, وكان (ويمكن استبدال أختها مازال بها) علينا اجترار الخطاب الموجه إلينا, ليس إلا, متذرعين بالصبر, ومثقلين بالخوف والإحباط. ومنذ فترة وجيزة بدأنا نتساءل عن أسباب الضعف, ومن المسؤول عن كل هذا التراجع, الداخل أم الخارج؟ وما نصيب كل منهما في المآل الذي بلغناه؟.
وفي هذا السياق, يطرح السيد منذر بدر حلوم في مقاله المنشور في السفير بتاريخ 5/8/2004 سؤالا جريئا: كيف نكون بلا أعداء؟. وتتأتى أهمية مثل هذه الأسئلة من عدم التجرؤ على طرحها من قبل, في خضم الصراع العربي الإسرائيلي, وخاصة في سوريا, حيث تجوهرت فكرة العدو, لدرجة صرنا لا نتصور العيش دون التقوقع فيها. فمع أن العداء والعدو مفهومان واقعيان في الصراع مع إسرائيل, فإنهما, كغيرهما من المفاهيم, قابلان للتبدل والتحوُّر مع الوقت, من جهة, ويمكن أن يكونا من الحوافز التي تدفع للتطور في المجالات كلها بصورة متوازنة.
يدعو الكاتب إلى "رسم برامج تنمية بشرية واجتماعية واقتصادية وفكرية, وإلى خلق مناخات حرية تنتج إبداعات نصير بها أقوياء, على أن لا تقاس هذه الأشياء كلها بإسرائيل أو بسواها, إنما بممكنات الواقع البشرية والاقتصادية, بممكنات العقول, بما يمكن أن تصير إليه لو تركت تتشكل في وسط من الحرية والرعاية.". هذا المقتطف يلخص هموم كثير من المثقفين السوريين الذين اختنقوا بالصمت وعاشوا اغترابهم الداخلي المرير, ولم ينقادوا وراء شعارات من اللغولوجيا التي كانت تخفي تراجعا تنمويا على كافة الصعد تقريبا, ليس بسبب إسرائيل وحدها بالطبع!...لغولوجيا تقاسمها مثقفو السلطة مع بعض المعارضين من ممثلي الوجه الآخر لعملة الاستبداد, وحدث تحت بريق ألوانها الفاقعة استنزاف الثروة الوطنية وتهجيرها إلى الخارج على شاكلة نقود أو كوادر, بينما كان التضييق على من بقي في الداخل نتيجة لسياسات نظام أوامري في الإدارة, كبح الكثير من الطاقات.
يقترح السيد حلوم "فهما للتنافس يخالف مفهوم العداء", كما يعتقد"بتطور ممكن وضروري خارج معادلة العداء". فالتنافس يعني أن نسير في اتجاه موازٍ مع العدو, وننافسه بمزيد من الحرية التي تنمو فيها إبداعاتنا, ولكن هيهات ويا ليت!. فقد انتج عداؤنا ضعفا, وأثمر العداء قوة وجبروتا عند عدونا. فلماذا؟.
يعمل الشحن الأيديولوجي بمفهومي العداء والعدو, مع غياب البنية الاقتصادية والثقافية والعسكرية القادرة على إسناده, على سيطرة هذا المفهوم على آلية الوعي, بحيث يصبح, نفسيا, نوعا من التشبث بالفكرة التي تستحوذ على مساحة كبيرة من الوعي الشعبوي, وبالتالي صعوبة التخلص منها, حتى ولو زالت حالة العداوة نحو عدو معين, فتعاود تشكيل عدو آخر وافتراضه, لتشكل حالة من عدم القدرة على التجاوز. وعوضا عن البحث الجاد عن أسباب الهزيمة, يلجأ الإعلام السلطوي, راسم الخطة, إلى اختلاق التبريرات واستحضار نظرية المؤامرة.
وفي رده على منذر بدر حلوم ("إعادة الاعتبار لمفهوم العدو" المنشور في السفير 14/8/2004 ), يعيد السيد وسام سعادة التأكيد على مفهوم العدو, كما يتضح من عنوان مقاله, وذلك بالاستشهاد بثلة من الفلاسفة للتأكيد على مقولات أصابها الكثير من اللبس؛ مثل مفهوم كون الحرب تمثل شكلا مميزا للحرب الأهلية, وإن العالم محكوم بمبدأ الثنائيات؛ فالأسئلة الإشكالية التي يطرحها حلوم لفهم الواقع, يرد عليها سعادة بتبيان "محلها من الاعراب على الصعيد النظري", وهكذا, تبعا للكاتب سعادة, علينا أن نختبر تعقيدات الواقع بالعودة إلى النظريات, التي هي بنت لحظة تاريخية معينة, لا أن نختبر النظريات على أرض الواقع, لنطور أدوات استكشافه بطرح الكثير من الأسئلة, بعيدا عن استحضار الإجابات الجاهزة.
فعندما نعى "شيفرنادزة" مفهوم العدو في السياسة الدولية, كان يلخص مسيرة تجربة آيلة إلى السقوط, لم يعد ينفع فيها العداء السياسي نحو الغرب, في الوقت الذي كان فيه العداء الاقتصادي والثقافي والاجتماعي, أي التنافس, يترنح بصورة لا يمكن إخفاؤها؛ فقد كان على العداء السياسي في الاتحاد السوفييتي أن يخفي ضعف الأداء الاقتصادي التنموي والقدرة على التنافس, وما برحت هذه المفارقة تكبر تحت السطح إلى أن حدث الانهيار.
والحالة العربية الآن, والسورية بخاصة, تشبه كثيرا الوضع الذي كان قائما في الاتحاد السوفييتي قبيل انهياره؛ فالعدو الذي هو إسرائيل تمكن من بناء مقدرات عدائه تجاه الآخر – نحن- بصورة متوازنة؛ ولذلك لا نجد على المستوى الرسمي صخب العداء الأيديولوجي, مقارنة بما نضخُّه في وسائل إعلامنا من نوع هذا العداء. والحياة الداخلية الإسرائيلية, بمختلف مستوياتها الديمقراطية, تعمل على تمثل هذا العداء لتنتجه طاقات وقدرات, فلا يظهر بصورته الأيديولوجية السافرة. أما نحن (سلطاتنا) فنعوض النقص والعجز بتضخيم الجانب السياسي من التنافس, أي العداء, في السياستين الداخلية والخارجية, ما يمنع من تحويله في اتجاه تعزيز القدرات المجتمعية, بسبب غياب الحرية. وهكذا, تؤدي هذه السياسة دورا هاما في جعل الآخر, العدو, بعيدا عن ممكنات منافسته, فيتعفرت فينا, وخارجنا, وخاصة على المستوى الشعبوي.
لا يمكن أن نخرج أفكار الفلاسفة حول العداوة عن سياقاتها التاريخية, وأفكار " كارل شميت" التي يشير إليها السيد سعادة قد لا تصلح بصيغتها الحرفية في كل الأوقات؛ فما كان يفهم كعداء تناحري في القرن التاسع عشر, وحتى في القرن العشرين, يمكن اعتباره الآن خصومة تحفز على التنافس, كما يمكن للعداء أن يتحرك ويستعر في ميدان الاقتصاد بدل ساحات المعارك, كما نشاهد في تجارب البلدان الأوروبية, وتطور بلدان الهند الصينية. ويمكن فهم إصرارنا على العداء من خلال ضعفنا...إنه الخطاب البائس الذي يجعلنا ننهار, دون أن نطلق طلقة واحدة.
وفي واقع الاستبداد الملموس, نرى أن سياسة العداء الخارجية قد تكاملت مع الولاء السياسي داخليا, وأنتجت ثنائية محكمة, لم تحقق شيئا يذكر في نهاية المطاف. وإن التنافس (والتعاون كشكل مخفف من أشكال التنافس) مع الخارج متعدد الأوجه, مقرونا بسيادة معيار الكفاءة والعدالة والديمقراطية في الداخل, كان قمينا بفتح كل ممكنات المجتمع. عندئذ, وبالعودة إلى نتائج السياسة, كنا سنمتلك أوراقا حقيقية في صراعنا مع العدو, أقوى بما لا يقاس من ورقة "عبد الله أوجلان" أو حتى "حزب الله".
نتفق مع السيد "سعادة" في ملاحظته حول حضور الاتجاهين الشعبوي والليبرالي في الحياة السياسية الداخلية العربية والسورية؛ فقد بدأ الانتقال في سوريا من عهد الفكر الشمولي وجوقته المسيطرة إلى عهد بادئ بالتشكل, تتفتح فيه براعم الليبرالية بصعوبة وحذر. هذه الثنائية الجديدة, بقطبها الليبرالي الضعيف, والشعبوي القوي, تمهد لتعددية واعدة, لا يمكن وأدها بسهولة. إن برعم الليبرالية الأكثر تناغما مع الحياة الحية يَعِدُ بإعادة التوازن والانسجام إلى مفهوم العداوة, والذي سيتحول إلى تنافس حي, يؤسس لتكوين قدرات مجتمعية يحسب حسابها في هذا العالم المتحول بسرعة, بعيدا عن شعارات العداء الجوفاء, وسيوف التخوين والتفكير.
مشكلة الفكر القومي المشحون بالخطاب العدائي أنه يقف متعاليا على الواقع كأيديولوجيا فصامية, فحيث كان هذا الخطاب يتناسل أوهاما, تمت الإطاحة بثروات الأوطان ومقدَّراتها نهبا وتهريبا وفسادا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ميناء غزة العائم يثير بوجوده المزيد من التساؤلات | الأخبار


.. نتنياهو واليمين يرفضون عودة السلطة إلى القطاع خوفا من قيام د




.. حزب الله يدخل صواريخ جديدة ويزيد حدة التوتر في إسرائيل | #مر


.. دفن حيا وبقي 4 أيام في القبر.. شرطة #مولدوفا تنقذ رجلا مسنا




.. البنتاغون يعلن بدء تشغيل الرصيف البحري لنقل المساعدات إلى قط