الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نصر حامد أبوزيد وتراب الغرباء

نقولا الزهر

2010 / 7 / 11
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية



حين تلقيت نبأ وفاة المفكر المصري الكبير نصر حامد أبو زيد، لا أعرف لماذا ذهب ذهني مباشرة إلى فيلم (تراب الغرباء) للمخرج السينمائي السوري الحلبي سمير ذكرى، الذي يحكي قصة النهضوي الكبير عبد الرحمن الكواكبي صاحب (أم القرى) و(طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)..
سألت مرة صديقي سمير ذكرى مخرج الفلم وكاتب السيناريو: لماذا أعطيت لفلمك اسم تراب الغرباء. فقال: لقد عنيت بهذه التسمية غربة هذا الكاتب الكبير في وطنه في ظل الاستبداد العثماني، وكذلك غربته بعد مماته في تربة الغرباء التي دفن فيها في القاهرة".
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان الصحفيون والكتاب والمثقفون المعارضون في كل من سورية ولبنان وفلسطين يهاجرون إلى مصر، حين تشتد حولهم حلقة الحصار السلطاني بسبب أفكارهم وآرائهم ومواقفهم السياسية. ففي تلك الأيام كان مصر تعيش هامشاً واسعاً نسبياً لحرية الرأي والتعبير والكتابة..
يبدو أن عبد الرحمن الكواكبي كان لا يطيق ترك مدينة حلب لمدة طويلة، لكنه جاء وقت لم يعد قادراً فيه أن يعبر عن رأيه، وفي آن لم يكن بقادرٍ على حمل مدينته الحبيبة على ظهره. لكن زوجته فكَّت له عقدة تردده بآية كريمة من سورة النساء(96): " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي انفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا". اقتنع الكواكبي بالهجرة وترك حلب. هاجر إلى القاهرة، ولكن الباب العالي لم يتحمل قلمه ونشاطه في مصر. ويقال أن الشيخ المتنفذ في القصر العثماني (أبو الهدى الصيادي) وهو سوري من خان شيخون، أخذ على عاتقه أمر هذا المثقف الذي كان يدعو إلى التمدن ويقارع الظلم والقمع والجهل، وهو الذي قال أن الاستبداد الديني هو أسوا أنواع الاستبداد. مات عبد الرحمن الكواكبي مسموماً في ظروف غامضة ومريبة؛ ودفن في مقبرة للغرباء. ولم يكن الاهتداء إلى قبره يسيراً خلال تصوير الفيلم، لولا وجود بيتين مكتوبين على شاهدته للشاعر المصري حافظ ابراهيم...
مضت مائة عام على مصر وقد تراجع فيها هامش الحرية إلى حد كبير. ويصعد إلى ساحة الفكر مثقف من نمط عبد الرحمن الكواكبي وهو نصر حامد أبو زيد الذي يرفض أن يكون من المثقفين "المُمَجِّدين" أومن ذوي العقل المستقيل. ويشرع في معركة تكريس مشروعية نقد النص، وعدم تقديسه وعبادته. لم يتحمل التماميون منهجه فرفعوا عليه دعوة حسبة وكفَّروه وطلَّقوه من زوجته وتواطئت السلطة في مصر مع هذا الحكم. اضطر لترك وطنه فاستقبلته هولندا بالترحاب في مدينة ليدن ومنحته كل الإمكانيات ليواصل أبحاثه ونقده في أجواء مفعمة بالحرية.
لكن يبدو أن الوطن الأول، ومهما طالت الغربة، لا يخرج من النفس الإنسانية وتبقى العودة إليه توقَ المهاجر وأمنيتَه على الدوام . وكنا قد رأينا الأديب الروسي سولجينيتسن صاحب (ارخبيل الكولاغ) الذي ترك روسيا بسبب فقدان الحرية ولكنه حين وصل إلى أميركا بدأ ينخر فيه الحنين إلى روسيا، وهو نوع خاص من الحنين أكثر شدة من (النوستالجيا) يقال له بالروسية(توسكا/tocka ). وربما نصر حامد أبو زيد أصيب بهذا النوع من الحنين إلى مصر.
كان موت نصر حامد أبو زيد في أحد مشافي القاهرة مفاجئاً للجميع وقد قيل انه أصيب بفيروس غريب أودى بحياته؟... مات نصر في أوج نضاله الفكري وفي عز نضاله من أجل الحرية.. وهو يقول بأعلى صوته إن "المثقف حارسَ قيم وليس كلب حراسة". دربه كان درب آلام المثقفين الحقيقيين "الأمجاد"....
نقولا الزهر
دمشق في 11/7/2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أنها درب الوفاء للقناعة
فلورنس غزلان ( 2010 / 7 / 11 - 22:32 )
تحية التقدير والمودة الصادقة للسيد نقولا...
تحية تحمل ألم المنفى وألم الحنين حين يصبح - توسكا- تضيع المرء في متاهات الحنين وتجعل جسده يستقبل فيروسات غريبة تفتك به ...لأنها ربما أرحم من غربته..فقد أعادته للقاهرة مريضاً ...لكنه لم يمت غريباً ولم يدفن خارج وطنه..عاد لكنه لم يعد كما يشتهي ويحب..ظل غريباً في وطنه ..وهي أقسى أنواع الغربة على من يؤمن بالوطن لأن قساوة الأهل هي أبشع أنواع الظلم التي لاتحتملها القلوب العاشقة، والتي تهب فكرها كي ترى وطنها عظيماً معافى
هذه هي حقيقة عاشها الكثير من المفكرين الصادقين والعظماء...ونصر أبو زيد كان واحداً منهم..وقولك فيه شهادة خلق وإيمان بالوطن وبالحزن على المصلحين الذين نحتاجهم اليوم أكثر من أي وقت..وكما قيل- في الليلة الظلماء يفتقد البدر-
مودتي وتقديري لكل ما تخطه لأنه يحمل الصدق والأمانة ..


2 - تعليق
سيمون خوري ( 2010 / 7 / 12 - 07:11 )
أخي العزيز نيقولا المحترم شكراً لك على هذه المقارنة الجميلة ، مع تقديري لك


3 - شكراً للأخ نقولا الزهر على المقال الرائع
مريم نجمه ( 2010 / 7 / 12 - 13:57 )
التاريخ يعيد نفسه لم يتغير شيئاً من الإحتلال العثماني حتى اليوم , الإستبداد هو الإستبداد والضحايا هم الضحايا في كل عصر .المنافي والسجون والإغتيالات للأحرار والمتنورين تزداد يوما بعد يوم ..!؟
المجد والخلود للكاتب والمفكر المصري نصر حامد ابو زيد للأفكار والخط الذي عمقه في حياته ,, ستتعلم الأجيال منه معنى حرية الرأي والنقد وتطوير النص الديني بما يخدم تقدم الإنسان والإنسانية لبلوغ أعلى درجات المحبة والتاّخي واحترام العقل , طوبى لأبطال وشهداء الفكر التحرري وأولهم فقيد الإنسانيىة نصر حامد أبو زيد ..
عاش قلمك يا عزيزنا نقولا وفكرك الممتع بكل ما فيه من دروس وإضافة لامعة .. لكم منا كل الحب والتقدير .. سلام


4 - رد للأحبة والأصدقاء
نقولا الزهر ( 2010 / 7 / 12 - 23:42 )

تحياتي السيدة فلورنس على تقييمك لمقالي، ولقد قصدت من المقارنة ليس التشبيه تماماً بين الشخصيتين، وإنما قصدت أن أذكِّر بشخصية هامة جداً في تاريخنا الحديث وأردت أن اكشف على مسألة التواطؤ بين السلطة ورجال الدين. إني مسرور جداً على تألق قلمك .تحياتي وسلاماتي
تحياتي أستاذ سيمون خوري على مرورك وتقييمك للمقال، وإني آسف إذ لم يتح لي التعليق على قصتك كاتالونيا،واخبرك باننا نحن مجموعة أصدقاء كنا نسهر كل مساء أربعاء عند صديقنا الدكتور جورج بنا وكان لديه كلبة اسمها ماكسا،كانت تستقبلنا بعواء اهلا وسهلا، والغريب أنها حينما كنا نغادر إلى منازلنا كانت تودعنا بعواء مختلف تماماً وفيه شيء كم الحزن. سلاماتي واحترامي وشكراً لك ولقلمك المفعم بالإنسانية

شكراً مريم على مرورك وتقويمك للمقال وانتم لكم حصة في مقالي وهو درب الآلام الذي يمر فيه كل المثقفين غير الممجدين للسلطان. سلامات....

اخر الافلام

.. مواجهات بين الشرطة ومتظاهرين في باريس خلال عيد العمال.. وفلس


.. على خلفية احتجاجات داعمة لفلسطين.. مواجهات بين الشرطة وطلاب




.. الاحتجاجات ضد -القانون الروسي-.. بوريل ينتقد عنف الشرطة ضد ا


.. قصة مبنى هاميلتون التاريخي الذي سيطر عليه الطلبة المحتجون في




.. الشرطة تمنع متظاهرين من الوصول إلى تقسيم في تركيا.. ما القصة