الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التعذيب .. بنظام »خدمة التوصيل إلى المنازل«!

سعد هجرس

2010 / 7 / 13
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


للتعذيب ظاهرة قبيحة متوطنة فى مصر منذ قديم الزمان وانكار وجودها أمس أو اليوم جريمة لا تقل بشاعة عن بشاعة التعذيب ذاته.. لأن هذا الانكار يعنى التعتيم على استمرار هذه الوحشية، ويعنى التستر على من يقومون بارتكابها، ويعنى تشجيع غيرهم على التمادى فى ممارساتها، رغم ما يترتب عليها من آثار سياسية واجتماعية وانسانية سلبية بالغة الخطورة، شأنها فى ذلك شأن ظاهرة الفساد التى اصبحت وباءً اجتماعيا واقتصاديا ومع ذلك تصر الحكومة على انها »أحداث فردية«!
وإنكار وجود التعذيب تفنده أدلة دامغة كثيرة أكثر من الهم على على القلب، ويكفى أن نلقى نظرة خاطفة على الأدب المصري القديم والحديث فضلا عما تركه لنا المؤرخين من روايات مرعبة عن تلذذ الحكام - ومعظمهم من الأجانب المستعمرين والمماليك المجلوبين من آسيا الوسطى - تلذذهم بابتبداع أساليب جهنمية فى تعذيب المصريين والتنكيل بهم لسبب وبدون سبب.
وعندما استقلت البلاد ظن المصريون أن انتقال الحكم إلى أيدى وطنية سيضع نهاية لهذه الوحشية، لكن سرعان ما تبين أن التعذيب ظاهرة عابرة للعصور، وأن »طبيعة« النظام قد تتغير لكن »طبعه« لا يتغير ابدًا وكان التعذيب واحدًا من اوائل هذه »الثوابت« التى استمرت من عصور »الاحتلال« وازدهرت فى عصور »الاستقلال« بل ان الحكم »الوطنى« كان فى كثير من الأحيان أشد قسوة فى لجوئه إلى هذا السلاح الحقير.
ولا يكاد يوجد تيار سياسى نجا من هذا البطش الرهيب فالشيوعيون قد تعرضوا لتعذيب رهيب فى السجون والمعتقلات قبل ثورة 23 يوليو وبعدها.
والأعجب انهم رغم مشاركة بعضهم فى دعم حركة الضباط الأحرار قبل 23 يوليو 1952 - بصورة مباشرة وغير مباشرة - ورغم نضالهم ضد النظام الملكى وتعرضهم للتنكيل على زيدى رجاله، فانهم تعرضوا لتنكيل أكبر على أيدى رجال »الثورة«، واستشهد عشرات منهم فى معتقلات جمال عبدالناصر تحت وطأة تعذيب تشيب لهوله الأبدان لمجرد استرجاع تفاصيله الوحشية، ومن نجا من الموت ظلت آثار التعذيب الوحشى على جسده طول العمر، حلمًا بأن من هؤلاء ابطالاً اسطوريين فى مواجهة هذا البطش الجبان.. نذكر منهم على سبيل المثال الدكتور إسماعيل صبرى عبدالله والدكتور فؤاد مرسى والمهندس فوزى حبشى والدكتو فخرى لبيب وغيرهم عشرات من المناضلين الذين تحملوا ما لا طاقة لبشر على احتمال عشر معشره، والكتابات عن ذلك العار أصبحت كثيرة ويمكن للأجيال الشابة أن ترجع إلى ما تتضمنه من شهادات مكتوبة بالدم.. كذلك الحال بالنسبة للاخوان المسلمين الذين تعرضوا لصفوف شتى من التعذيب البشع والكتابات الاخوانية بهذا الصدد كثيرة أيضًا ومروعة جدًا.
ورغم أن الشيوعيين والاخوان المسلمين بينهم أكثر مما صنع الحداد فإن تاريخ المعتقلات والسجون المصرية حافل بأشكال متعددة من التضامن فيما بينهم فى أوقات المحن والشدائد، وكثيرًا ما قام الشيوعيون بالاضراب عن الطعام احتجاجًا على إساءة معاملة المعتقلين من الاخوان المسلمين، والتهديد بأنهم لن يقوموا بفك الاضراب إلا بعد وقف تعذيب المعتقلين من الاخوان.
وكان ذلك مثار دهشة السجانين الذين كانوا يضربون كفا على كف ويقولون: كيف تضربون عن الطعام وتعرضون حياتهم للخطر من أجل اناس يعلنون على الملأ انهم أعدائكم وانهم لن يقودوا عن الفتك بكم إذا سنحت لهم الفرصة؟!
وكان الرد الدائم هو: المواجهة السياسية بيننا وبين الاخوان المسلمين في الشارع شىء والوقوف إلي جانبهم فى المعتقل وفى مواجهة التعذيب وسوء المعاملة قضية أخرى تمامًا القضية الأخرى قضية سياسية والمسألة الثانية مسألة إنسانية ولا يجب خلط هذه بتلك.
ولا يقتصر التعذيب على السياسيين المعارضين لنظام الحكم فى مختلف العصور، بل يمتد إلى جميع المواطنين »العاديين« الذين لا ناقة لهم ولا جمل فى السياسة ولا يقتربون من الاهتمام بالشأن العام بأى صورة من العصور.
بل ان تعذيب المواطنين غير المسيسين هو الأكثر شيوعًا وربما الأكثر قسوة والأكثر عبثية فى بعض الأحيان حيث يكون بلا مبرر »وهو في كل الأحوال غير مبرر« بل يكون »التعذيب للتعذيب« فقط إذا استعرنا تعبير »الفن للفن« أى يكون من أجل »استمتاع« من »يتسلى« بممارسته!
والخطير أن هذه »التسلية« أصبحت ظاهرة شائعة فى كل أقسام الشرطة ومنتشرة انتشار لعبة »الطاولة« و»الالدومينو« على القهاوى!
وما حدث للشاب السكندرى خالد سعيد هو مجرد مثال لذلك، ولم يعد مقبولاً القول بأن ما حدث لهذا الشاب المسكين مجرد »حادث فردى« لأننا جميعا تعرف أن سوء المعاملة هو القاعدة وليس الاستثناء، ولدينا الآن تقارير وأخرى تقارير لمنظمات حقوقية تشمل رصدًا لأسماء مصريين قتلوا من جراء التعذيب فى أقسام البوليس، ولدينا الآن احصائيات صادرة من وزارة الداخلية - وليس من أي جهة أخرى - عن تقديم ضباط وضباط صف إلى المحاكمة الجنائية وصدور أحكام ضدهم بتهمة تعذيب مواطنين ولدينا شكاوى كثيرة لم يتم تقديمها إلى القضاء من تعرض مصريين أبرياء للتعذيب.
كما أن لدينا بالنسبة للسياسيين عددًآ معتبرًا من أحكام القضاء التى تتضمن رصدًا وادائه لأشكاله شتى من تعذيب المعارضين وقد استشهد الكاتب النبيل والذكى الأستاذ نبيل زكى بعدد من هذه الأحكام فى مقاله بجريدة »الوفد« يوم السبت الماضى.
< < <
إذن.. لم يعد يجرى تبرير هذه الظاهرة الحقيرة بأنها »احداث فردية« فهى ليست كذلك بكل تأكيد.
والاعتراف بأنها ليست كذلك لا يعنى بالضرورة التحامل على أجهزة الأمن المصرية أو انكار دورها ودور معظم رجالها فى الحفاظ على أمن الوطن.
العكس هو الصحيح.. ألا وهو أن هؤلاء الذين يمارسون تعذيب المواطنين ربما فى ذلك الخارجين منهم عن القانون هم الذين يسيئون إلى مؤسسة الأمن ويشوهون - بممارساتهم القبيحة وغير المهنية - انجازات الأغلبية من أبناء هذه المؤسسة فى جميع المجالات.
< < <

ولعل مظاهرة الاسكندرية التى اجتذبت أكثر من عشرة آلاف شخص تدفقوا إلي شوارع الثغر احتجاجًا على تعذيب الشاب خالد سعيد أن تكون منعطفا فى التعامل مع هذه الظاهرة، وأن يستوعب كل الأطراف مغزاها العميق، فهؤلاء الآلاف ليسوا أقارب خالد سعيد، ولا من معارفه، وكثير منهم ربما يعجبون بشخصيته أصلا، لكنهم جميعا تظاهروا دفاعًآ عن »كرامة« المصريين وهذه مسألة ملفتة للنظر حيث يقول لنا التاريخ أن ثورات المصريين - على عكس بلاد الدنيا كلها - لا تندلع من أجل الخبز، بل تندلع من أجل الكرامة.. كرامة مصر وكرامة المصريين.
وهذا هو أحد الأمور التى يجب أن ندرك مغزاها فى مظاهرة الاسكندرية التى تعد - حتى الآن - أكبر مظاهرة عرفتها مصر فى السنوات الأخيرة، بما فى ذلك المظاهرات التى خرجت من أجل الأجور ولقمة العيش.
< < <
وليس المطلوب الآن التنديد فقط بالتعذيب أو استنكاره، المطلوب أكثر هو الاتفاق على آليات محددة لوقفه وهذه الآليات بعضها تشريعى وبعضها الآخر تنفيذى عاجل.
من هذه الأبحاث التشريعية إعادة تعريف التعذيب فى الترسانة القانونية المصرية وتغليظ عقوبته وسد الثغرات التى يفلت منها مرتكبوه حاليًا.
أما الآليات التنفيذية.. فهى كثيرة لكن معظمها يعتمد على اقتناع أجهزة الأمن بان منع هذه الظاهرة هو أقصر الطرق للحفاظ على الأمن وليس العكس، وانه يجب إعادة تأهيل العاملين فى هذه المؤسسة الأمنية وتثقيفهم بثقافة حقوق الانسان ونبذ أساليب التعذيب وشتى صور الإكراه البدنى والنفسى.
وارتكازًا على هذه الثقافة البديلة يمكن مطالبة المؤسسة الأمنية بالاستعانة بمنظمات حقوق الانسان وإشراكها فى الاشراف المشترك على أماكن احتجاز المواطنين بأقسام الشرطة، والحرص على حضور عناصر منها كمراقبين فى بعض مراحل التحقيق.
المهم.. أن نبتكر مبادرات وطنية للتخلص من هذه الوصمة، التى تقتل روح الانتماء فى الداخل، وتسئ إلى بلادنا فى الخارج.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الباشوات الجدد
سامي الرزاز ( 2010 / 7 / 13 - 02:42 )
أحد أهم أسباب المشكلة، يا صديقي، يكمن في قانون الطوارئ الذي يحكم البلد منذ 29 عاما. فكل ضباط وزارة الداخلية، من رتبة الملازم حتى رتبة اللواء، لم يخدم واحد منهم يوما واحدا في ظل القانون الطبيعي العادي الذي يكفل للمواطن حقوقه وحرياته الأساسية .. ويمكن أن نتخيل كيف يكون إحساسه بالمواطن العادي. والمطلوب هو إعادة تأهيل رجال الشرطة وتدريبهم على احترام حقوق الإنسان ( ولا غضاضة في ذلك، فهم لم يتعلموها ولم يتدربوا عليها من قبل .. وفي كثير من الحالات الدولية، تقوم الأمم المتحدة بتنظيم دورات تدريبية لأجهزة الشرطة في بعض الدول للتوعية بتلك الحقوق) .. وربما كان الأهم هو المطالبة بتولي مدني منصب وزير الداخلية كما في الدول المحترمة، بل وكما كان الحال في مصر من قبل (ونذكر أن سعد زغلول عين محمود فهمي النقراشي، وكان وقتها لا يزال مجرد -أفندي-، وزيرا للداخلية ليرأس اللواءات الذين كانوا يحملون رسميا لقب -الباشا-) .. يا ريتها دامت أيام


2 - الحل بيد الشعب
سرسبيندار السندي ( 2010 / 7 / 14 - 18:24 )
عندما يجار القانون لظلم الشعب وويستمر تفرج السلطة القضائية ، فما على الشعب إلا أن يأخذ دوره الريادي في تطبيق العدل كيف ... يعتبر كل ظالم ومستغل للقانون ومسئ للشعب هدف عسكري معادي يجب النيل منه ولو بعد حين ، عنهدها لن يتجر مسئ إلى ألإستهتار بالقاون وإعتبار نفسه فوقه ... تحياتي لك على المقال من حيث هو كلام في الصميم .....!؟

اخر الافلام

.. ما محاور الخلاف داخل مجلس الحرب الإسرائيلي؟


.. اشتعال النيران قرب جدار الفصل العنصري بمدينة قلقيلية بالضفة




.. بدء دخول المساعدات عبر الرصيف الأمريكي العائم قبالة سواحل غز


.. غانتس لنتنياهو: إما الموافقة على خطة الحرب أو الاستقالة




.. شركة أميركية تسحب منتجاتها من -رقائق البطاطا الحارة- بعد وفا