الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نصف ظلام ، نصف حياة

احمد ثامر جهاد

2004 / 8 / 20
الادب والفن


نصف ظلام ، نصف حياة
أمكنة الحكايا
( إن المكان الذي نحيا فيه ، الذي ينتزعنا من أنفسنا ، وفيه يظهر تآكل حياتنا وزمننا وتاريخنا ، المكان الذي ينشب مخالبه فينا ، هو بحد ذاته مكان متغاير الخواص .. ) فوكو

مرة وأخرى تتحايل الأمكنة علينا بملامحها الظاهرة وبما تخفيه من أسرار وقصص . مراوغة فيما تعرضه من هبات أو ما تدخره من محن ، فللمدن غواية في طبيعتها . هي لنا ونحن أبناؤها ، ندخلها مرغمين ، آملين بحياة ، وان كنا نخشى غضبها أو شهوتها أو لامبالاتها .
بين المدن والبشر ، ثمة وصال وثمة جفاء ، تماس متحول ، يكون لنا أن ندخلها بامتلاء ، نحاكيها بعقل يتأمل وحس يتثاقف ، يناظره على الطرف الآخر فضول جارف لمتعة استجلاء ما خفي أو شوه عمدا . حينا تبقى الحكايا والشعر والابوذيه وسليتنا الناجعة لإضفاء مسوغ ما على تجرع رمادية الحياة وسخف الكائنات ، ولفرض صبغة ما مرغوبة على تقلبات الزمن والذاكرة حينا آخر . هكذا تبدو بعض مدننا أثيرة في عيوننا ، وهي تطلق لنفسها عنان الانفلات من سور المسميات وطرائق الهيمنة وقسوة الأزمان وسخافاتها .
ربما وضع أسلافنا لمسة معمارهم فيها ، بوجه من الأوجه ، شخصهم المموقع منها . وجبلنا نحن على ابتكار استبصار حذق يؤول غرائب محليتنا الأليفة . وبما يسمح لفك طوق الغرابة والسحر في أيما مكان من هذا العالم ، باتت الحكاية طقس ممارسة منزوعة الحذر . وحكايتنا كالليل ، مريرة وفاتنة .
حتى وان لم يمنح الرب الجميع هبة كشف الأسرار الكامنة لامكنة الحياة أو الموت ، يثابر بعضنا على انتزاع حقه المقدس في صياغة واقع نعيشه بمنعطفات متلاحقة ، قد لا تمنحنا فرصة أخرى لسرد الحكاية ثانية ، وهي على الدوام لذة الحياة ومعبرها الآمن .
هذه تجاربنا الشاقة وتلك مدننا الأثيرة .
 ضوء اسمر :
حيث أن للأمكنة إيحاء سماوي ، يكون للبصرة تاريخها الذي يوحي أن فيها من العطاء والأصالة ما يجعلها تماثل مدن العالم الجميلة ، مدن الألم العريقة . هذه مدينة سمراء ، تستأنف حكايتها العذبة كلما تصحو من كبوة مريرة ، فتنشر على الناس حبال كلماتها بعراقة متزايدة تواجه فيها أوبئة عصر طارئ ، حروبا ودمارا ، من دون أن تتخلى عن حس أصيل بالعطاء لكل من يدخل شواطئها ، متظللا بنخيلها ، منصتا سمار ألحانها ، حرارة كلماتها ، جمال خرافاتها .. هل سنكون أوفياء حينها ؟
لم يغادرها الجاحظ ، كما لم يرحل اسخيلوس بعيدا عن أثينا ، إذا ما كان هؤلاء ابرز ما يمكن للعين رؤيته في سجل المدن هذه . إلى اليوم ومنذ فجر بدأته بالأماني والخيبات ، كان ولم يزل يمتلك أهميته بأسماء كثر معلومة ، تصدح بالحياة والأمل والشعر ، يطالعنا وجهها على الدوام بمديد الأحلام والتساؤلات . فتؤكد نفسها في سماء الثقافة والفكر والموسيقى ، مساهمة بتلقائية أخاذة ، وان كانت المساهمة ليست إجابة دائمة عن أسى عميق . وفيما أبناؤها السمر يغترفون من ماضيها حكايا جديدة ؛ قصا وشعرا ولحنا راقصا ، تتقن هي لعبة الميل عن دائرة العادي والمبتذل ، فيثبت مبدعوها بذلك عمق هويتهم في مسامعنا الصديقة ، وينجبون أسئلة مؤرقة عن خطى مدن حالمة تغرق في نصف ظلام ، نصف حياة .
ومع الغرائب والأمنيات والفضاء الرحب ، تزفر الذات قلقها المروع ، محاولة اجتياز أعتاب عصر يأتي بجلال غموضه والتباسه .
 رئة الجنوب الحالم :
وأنت تحط فيها عابرا ، قد لا تترك مدينة الجاحظ انطباعا حسنا لديك ، لكنك قد تقرر البقاء فيها لساعات أخر ، طاردا عنك أسطورة ( الماء المالح ) وشبح ( القيظ الصحراوي ) لتنسى جفاف سويعات أمضيتها متلظيا بين حرها ومائها ، ومتجولا بعناد بين ( البصرة القديمة ) بشناشيلها و ( أم البروم ) بصراخ باعتها وزحمة عرباتها الهرمة . ستبحث عن اثر حقيقي يحلق قريبا منك ، يحط في زوايا غير ملحوظة ، طاردا عن هواجسك أشباح قصص سطروها .. حينها لن تتأخر عن الاعتراف : أن في البصرة امتداد مكاني لكل مدن الجنوب ، وإنها ملتقى انهر عذبة اكثر منها مكانا محددا ، إنها متوالية الاندثار – البقاء .
ربما يقال أن ماضيها لا يغادرها ، أو أنها لا تغادر ماضيها ، فتشف ملامحها لتكتشف من جديد على أيدي أجيال تتعاقب . في الحالتين ستفترض تصوراتك طريقة ما لإجابة محتملة تقارب بين ماضي المدينة وحاضرها ، ازدهارها أو انهيارها ، أحزانها وأفراحها .
يصر كهنتها على عدم مغادرتها ، فتصبح بالنسبة لهم مثل خوف أو لعنة أو انتماء ابدي . فثمة اندغام كامل بالمكان / الجذور ، بالإنسان / الذاكرة . لترى بجلاء إن ما تمتلكه البصرة من استحواذ واقعي وإبداعي تضاهي به مدن العالم ، ليس صفة قبلية مطلقة ، ولن يكون كذلك ، لانه محض بناء بشري متراكم . ولأنها أيضا هيمنة مكانية أو وهم مكان أليف ، باتت المدينة مملكة افتراضية أيضا ، توجد بقدر ما نوجد . هكذا تنتقل بنا فناراتها مثل عيون كبيرة لامعة ، تبصر الآخرين ، تحاورهم ، تمسح أحزانهم ، تبتهج لمسراتهم . والى أن يقترب منا خيط الزوال الأخير سنتذكر في أحلامنا سطوة مدينة كبصرياثا .
آنذاك سيظهر فينا يوما من يتقن اكتشاف المدن والناس ثانية ، لكن …. بلا غبار ، بلا خرائط ، بلا ملوك ولا أمراء ، فمدينتنا فعل اكتشاف دائم وإبداع ناجز أصيل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا