الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقاربة تحليلية لرواية معمر بختاوي/أطفال الليل

حسن_العلوي المغربي

2010 / 7 / 16
الادب والفن


رواية "أطفال الليل" للكاتب معمر بختاوي،صدرت عن دار التوحيدي في طبعتها الاولى،سنة 2010 ،و هي من الحجم المتوسط في طبعة أنيقة من 102 صفحة،و تشتمل على 10فصول متفاوتة الأحجام..
عتبات النص
1_عتبة الغلاف و الصورة
الغلاف هو عنوان الرسالة وليس قبراً بارداً، داخله ورقة أو مجموعة أوراق بالحروف المرتبكة وحرائق الشوق، الغلاف هو اللغويات الأولى……
بهذه الفقرة، ينفتح لنا عالم " أطفال الليل"، ليساعد القارئ كي يخطو أولى الخطوات نحو عالم النص، ومن هنا كانت هذه الفقرة بمثابة بوابة العبور، التي تمنح القارئ فتنة اكتشاف الكتاب وأغواره، فالغلاف يفتن متلقيه، بالمعني الذي ينساق وراءه.
وذلك ما يغريني للقول: أن تصميم الغلاف قي "أطفال الليل"، يعبر عن تشكيل تجريدي، لمنظر واقعي، قد تكون له علاقة مباشرة بالمضمون الروائي، وقد لا تكون إلا أنه يمتلك قدرة ملموسة وواضحة في اجتذاب وافتنان القارئ.




جاء الغلاف بلون بني يحمل لون التراب و يتفاعل معه،و اختيار اللون لم يكن اعتباطيا،انه يخضع لمقصدية الكاتب و يمتثل لدلالة المتن الروائي،إن اللون يرتبط بالتراب ،بمعنى أن الغلاف يخبرنا بأننا إزاء ارض ستكون مسرح أحداث الرواية،و هي مكمن الصراع،و اذا قمنا بحمل هذه الدلالة كسؤال فان النص سيقدم لنا الجواب،فعلى مدار عدة مقاطع نجد احداث النص تقع بضيعة فلاحية لانتاج الورود،كما ان الفتية حين يكبرون تمتد أطماعهم،و أقصد تلك الثلة من الأطفال الوصوليين،إلى الأرض و تميل إلى كسبها و استثمارها،من جهة،و تحويلها كواجهة وجاهة بالنسبة لهم،من جهة أخرى..
،تزين وسطه صورة بارضية بيضاء بها ثلاثة اطفال متماسكي الايدي و هم يزاولون لعبة الدوران.يحمل كل واحد منهم لونا خاصا،الاخضر و الاحمر و الاصفر..فوق الصورة و بلون ابض اسم المؤلف جاء بخط رقيق،و يقدم ظهر الغلاف تعريفا به و بمساره الدراسي و العملي.و تحته عنوان الرواية و بخط اكثر بروزا للفت انتباه القارئ المحتمل و تحتها النوع الاجناسي للعمل.و تحتها دار النشر و جاءت بخط رقيق جدا ثم علامتها البصرية.
2_ عتبة العنوان

مفهوم العنوان:
يعد العنوان من أهم عناصر النص الموازي وملحقاته الداخلية؛ نظرا لكونه مدخلا أساسيا في قراءة الإبداع الأدبي والتخييلي بصفة عامة، والروائي بصفة خاصة. ومن المعلوم كذلك أن العنوان هو عتبة النص وبدايته، وإشارته الأولى. وهو العلامة التي تطبع الكتاب أو النص وتسميه وتميزه عن غيره. وهو كذلك من العناصر المجاورة والمحيطة بالنص الرئيس إلى جانب الحواشي والهوامش والمقدمات والمقتبسات والأدلة الأيقونية.
2- الاهتمام بالعنوان:
لقد أهمل العنوان كثيرا سواء من قبل الدارسين العرب أم الغربيين قديما وحديثا،لأنهم اعتبروا العنوان هامشا لاقيمة له وملفوظا لغويا لايقدم شيئا إلى تحليل النص الأدبي؛ لذلك تجاوزوه إلى النص كما تجاوزوا باقي العتبات الأخرى التي تحيط بالنص . ولكن ليس العنوان" الذي يتقدم النص ويفتتح مسيرة نموه- يقول علي جعفر العلاق- مجرد اسم يدل على العمل الأدبي: يحدد هويته، ويكرس انتماءه لأب ما. لقد صار أبعد من ذلك بكثير. وأوضحت علاقته بالنص بالغة التعقيد. إنه مدخل إلى عمارة النص، وإضاءة بارعة وغامضة لأبهائه وممراته المتشابكة(...) لقد أخذ العنوان يتمرد على إهماله فترات طويلة، وينهض ثانية من رماده الذي حجبه عن فاعليته، وأقصاه إلى ليل من النسيان. ولم يلتفت إلى وظيفة العنوان إلا مؤخرا."
للعنوان دلالة خاصة لأنه يمثل مجموع النص الروائي ويحاول أن يجمل كل علائقه، ويعبر عن كل مكوناته، ويلخص مجمل موضوعاته، ويكشف عن الشكل الفني المتبنى في النص، فالعنوان حسب ياوس، مستوى من مستويات السياق الداخلي لأفق الانتظار الذي يتشكل خلال احتكاكنا بالنص. وعليه: فما أفق الانتظار الذي نخرج به من قراءتنا للعنوان
تتكون من مركب اسمي محذوف احد اطرافه و هو المبتدا هنا،الخبر جاء مشكلا من كلمتين،واحدة نكرة و الثانية معرفة،فأطفال جاءت معرفة بالليل،و بذلك تكون شخصيات النص الاساس و المرسومة على صفحة الغلاف لا تتخذ هويتها و تعريفها الا من الليل،ان الليل هو الذي منحها الوجود و مكنها من الحضور و بناء عليه يمكن القول اننا امام شخصيات ملتبسة غير واضحة تتميز بقيم غير سليمة مادام انها ترتبط بزمن يستدعي كل السلبيات
و قد تكون مرتبطة إكراها بهذه الفسحة الزمنية للقيام بأعمال ما بفعل ظروف خاصة أو عامة.
فالطفولة مرحلة عمرية ينبغي أن تتمتع باللعب و اللهو و ممارسة كل الحقوق التي تكسبها اليناعة و الاستواء،و لربما كانت تلك الرقعة البيضاء الواردة باللوحة تعبيرا عن هذه القضية و ميل إليها و دعوة تستوجبها،و قد اقتطعت من بنية ارضية الغلاف،أي اقتطعت لها من حيز أكبر موسوم بالتعب و الشقاء حيزا أضغر يتصل بها و يسعدها و يعد بالتالي فسحة زمنية لتحقيق الارتواء....
3_عتبة الإهداء،و ظهر الغلاف
عتبة الاهداء
تم الاهداء لاخوي الكاتب احمد و مصطفى الاول لانه كان من مشجعيه على نشر العمل و الثاني لمساعدته
و هو تكريم يبرز فيه الكاتب ذلك الارتباط العاطفي بأخويه،بشكل خاص و بأسرته بشكل عام،إنه إعادة اعتبار لأبيه في شخص الإخوة....
و بظهر الغلاف جاء التعريف بالروائي،و هو امر طبيعي لان العمل الذي بين ايدينا يعد الاول في مساره و بالتالي فلابد من تقديم ورقة تعريفية دقيقة به
تشتمل على تاريخ ولادته و مساره التكويني العلمي ،مع الاشارة الى انتاجاته المنشورة قبلا ببعض الجرائدو المجلات و التنويه الى الجائزة التي حصل عليها سنة 1993
4_ المتن الروائي


ينقسم الى قسمين،قسم الطفولة و الاعمال التي كان يزاولها الاطفال ايام العطل باحدى ضيعات الورود مع ذكر المشاق كل ذلك من اجل الحصول على نقود تساعد الاسر و تمكن الاطفال مما يساعدهم على تحقيق بعض المتع،انه عالم القيم الايجابية حيث الاعتماد على النفس و ادراك معنى العمل رغم صعوباته و اخطاره،و لا يفوت السارد الاشارة الى الاختلالات الاجتماعية بين طبقتين واحد فقيرة و الثانية غنية و هي طبقة المعمرين اولا و الذين حلوا محلهم من المغاربة ثانيا.يركز السارد على مساكنهم و طريقة اكلهم و مشيتهم و كل الامور الخاصة و العامة،و في القسم الثاني التركيز اساسا على ثلاثة اطفال، بقدرة قادر، تحولوا الى وجهاء المنطقة،باعتماد تهريب الحشيش و المتاجرة في الممنوعات،هؤلاء الثلاثة الذين كانوا من الطبقة الفقيرة و يتميزون بطباع غير قويمة منذ البداية، و كأّن مسار حياتهم قد تحدد بالوراثة لان الاستعداد في مزاولة الانشطة الممنوعة كانت بادية عليهم،بين القسمين تحضر احداث واقعية تشكل علامة فارقة بين المرحلتين،لحظة قيم انسانية رفيعة و لحظة قيم منحطةنإنها أحداث الانقلابين الخطيرين اللذين هددا استقرار البلد و كانا بداية ظهور مرحلة جديدة يمكن وسمها بمرحلة الانفتاح،حيث سيتم بروز الكثير من الاختلالات على مستوى القيم و على مستوى الثقافة و الاقتصاد و السياسة،و لعل من أبرز سماتها ظهور طبقة غنية فاحشة الثراء و طبقة فقيرة تعاني الويلات..مما هدد الاستقرار الاجتماعي،حيث شهدت البلاد العديد من الاضطرابات الاجتماعية المطالبة بالخبز أساسا....
كيف عمل السارد على احتواء هذه الفترة الطويلة من عمر الاشخاص،من الطفولة الى الكبر؟
اعتمد السارد على تقنية الاختزال و الحذف باستعمال ،حدث مرات عدة و غيرها من الاشارات..
ما لفت انتباهي،حضور تقنية خاصة بالسارد و التي تدل على تشبع الروائ بالدين،انها تقنية المجمل و المفصل،اذ في كثير من الاحيان يقدم لنا شخصية او حدث بشكل مجمل،في جملة او جملتين،و تاتي الصفحات الموالية لتفصيل القول فيها،و احيانا تكون هذه التقنية وسيلة للربط بين فصول الرواية او بين بعضها على الاقل
من ذلك نهاية المقطع السابع و بداية المقطع الثامن و ذلك الأمر بالنسبة لنهاية المقطع الثالث و بداية المقطع الرابع....
يحضر الوصف بشكل كبير و هي طريقة لتعطيل السرد و تكسير سيرورته،و الوصف يلعب ادوارا اخرى كالتعريف بالشخصيات شكلها طريقة تصرفها و مشيتها و غير ذلك،كما يحضر لخلق المقارنة بين الوضعيات و الطبقات..
و للمكان حضوره القوي فهو الضيعة و المنزل و مكان الحلاقة الذي عرف تدهوا فظيعا بعد ان كان مزدهرا بسبب المحلات العصرية..

الرواية تحكي عن مجموعة من الأطفال يعملون في قطف الورد بإحدى الفيرمات ليلا . ويتتبع السارد مسيرة هؤلاء الأطفال حتى يكبروا ويأخذ كل واحد مسارا مختلفا عن الآخر. هذه الشخصيات تمثل عالما مستقلا، وتمثل شريحة من شرائح المجتمع، وتحيل إلى عالم من العوالم في حركيته و تموجاته عبر مصائر مختلفة، ومتقاطقة أحيانا. ومن خلال شبكة العلاقات التي تنسجها هذه الشخصية أو تلك، مع محيطه أو مجتمعه أو مع نفسه.
والرواية تكشف عن تيمات تمور في المجتمع ويأخذها الكاتب بعين ناقدة ، يعري ما فيها من فساد من أجل الإصلاح و التجاوز إلى الأفضل.
و قبل الإشارة إلى هذه التيمات_الطيم بحسب الأستاذ رشيد بنحدو_اود أن أشير إلى احتفال الرواية بشخصيات من الطبقات الاجتماعية المسحوقة،تلك التي تكتوي بنار شظف العيش،دون أن يمنعها ذلك من السعي جاهدة لاقتناص لحظات المتعة العابرة..و الكاتب معمر بختاوي استهواه المهمش و الهامشي في درجاتهما القصوى...
5_ تيمان الرواية

تيمة السلطة:
أعلى هذه السلط يمثلها الأب ( الشيخ عيسى) مع أولاده . فهو من طينة الآباء الذين يظهرون قسوة بالغة مع أبناءه و زوجته ( في البيت) ويكون متسامحا ضحوكا مع الناس في خارج البيت، هذه الازدواجية تطرح علينا أكثر من سؤال . ماذا يريد الكاتب من خلال نموذج الأب؟ أهو تنفيس عن العمل الذي يشغله الأب، أو رد فعل.
الأب الذي يمارس على أبنائه كل أنواع التسلط، فهو يحرمهم من الأكل،ومن اللعب، ومن أبسط حقوق الأطفال، ولا يترك لهم فرصة حتى الرد أو المناقشة.
يقول لأحد أطفاله: (...انهض، اخرج، إن أسيادك وصلوا " الفيرما".انهض الله يمسخك.) (... انهض يا وجه القرد...) (ص13)
وهو يدفع بأبنائه إلى العمل دفعا، وهذا مخالف للعواطف الإنسانية،و لكل القوانين والشرائع الوطنية والدولية والأخلاقية. فمن حق الأطفال الرعاية التي يحتاجونها .و نتساءل لماذا لا يحس هذا الأب إزاء أولاده بأية عاطفة. فمن حقهم اللعب والراحة والاستجمام والتخييم والترفيه.بالعكس هذا الأب الذي يرى في أبنائه مجرد مصدر دخل إضافي يزداد على مدخوله الهزيل.فهو يفرغ الغضب الذي يتلقاه من طرف مشغله، وهو تنفيس أيضا عن تأزمه ومعاناته من عمله الليلي،وهو الحارس الذي يريد أن يكون أولاده كذلك الموظف الكبير، لا يشبهونه في العمل في المستقبل، فيصبحون محروسين لا حارسين.
وكذلك يتجلى الوجه الثاني للسلطة في الأجنبي " الرومي" الأوروبي الذي يهابه الجميع ، بما في ذلك " الكابرانات" والأطفال ..وهو يخيفهم بالكلب الذي يصاحبه دائما.وبجسمه الذي يتباهى به.
ويتجلى الوجه الآخر للسلطة في هذه المؤسسة التي تشغل هؤلاء الأطفال، وتستغلهم أبشع استغلال، تشغلهم ليلا لقطف الورد، مستغلة فقرهم وعوزهم للنقود ولقضاء بعض حاجياتهم كشراء اللوازم المدرسية. بحيث أن العاملين في هذه "الفيرما" هم من الطفال أو يساعدون أسرهم في الحاجيات اليومية.
السارد يحكي عن وضعية هؤلاء الأطفال بضمير المتكلم ، وهو يعايش الأحداث من أولها إلى آخرها. لأنه سارد مشارك في الأحداث.وهو يصف مجموعة من الأمكنة و عبر أزمنة مختلفة بين ليل ونهار...
ويمر السارد في هذه الرواية على الفوارق الطبقية التي تتحكم في النسيج السردي لهذه الحكاية. فهناك من جهة الطبقة المحظوظة من آباء الأطفال الموسرين، الذين لم يعرفوا " الفيرما" ولم يسمعوا بها، فهم بمجرد انتهائهم من الدراسة يسافرون أو يذهبون مع آبائهم في عطلة مريحة ويعودون منشرحين مبتهجين إلى دراستهم.وهؤلاء يستمتعون بالرياضات التي يحبونها .
أما أبنا الفقراء ، "أطفال الليل" فهم أولاد المحن و العذاب والعمل ليلا . كيف نتصور أن طفلا في العاشرة أو الثاني عشر يعمل الليل كله، ويذهب مسافات على دراجة هوائية هو وأخوه أو أحد أصدقائه.هؤلاء الأطفال عانوا الأمرين من عمل الليل ومن السهر ومن عدم النوم كفاية. وكذلك عانوا من الضرب المبرح من طرف " الكابرانات"
(... بدأ الكابران يضربني و يضربني.. حتى فشلت يداه، ( الوعل ينطح أرنبا) ثم جرني وطرحني أرضا ركلني بحذائه الغليظ ركلات كيفما اتفق، لا يميز الوجه عن الرأس والبطن.وأنا ّّأستغيث ولا مغيث..ص (27)
سلطة الكابران:
في هذا المجتمع الإقطاعي الطبقي، يهيمن الرجل صاحب الفيرما على الجميع، ويشكل سلطة مطلقة على الكل . ويستعمل الكابرانات والحراس والكلب ..كل هؤلاء يشكلون موانع، ووسائل لقمع الضعفاء والمستخدمين الغلبة.
وفي الرواية أيضا نقد للشباب السلبي الذي يهتم بالمظاهر فقط، ولايهمه سوى اللباس والعطور والروائح، ويتبع الفتيات في الشوارع والأزقة. والفتيات اللواتي ينخدعن بالمظاهر الخارجية، وتنغدع بأول يكلمها ، ولم تعد تهتم بما هو جوهري، وبما هو ثقافي أو معرفي.
الطبقية في المكان:
الرواية تحمل مفارقة في المكان، فهناك المدينة وهي بدورها تنقسم إلى 1 ـ : أحياء هامشية فقيرة، عديمة التجهيز أو تكاد. 2 ـ وأحياء مضيئة بشوارعها النظيفة الفسيحة التي تركها الاستعمار حين ولى أدباره، تاركا إياها للموظفين الكبار والسماسرة الذي ابتاعوها من المعمرين بأبخس ثمن .والقسم الآخر هو المكان في البادية، أي ما بعد الساقية. حيث الحقول والبساتين وأشجار البرتقال و الكروم ..وهذا العالم يمتلكة الإقطاع الكبار، ويتخذونه مجالا لاستغلال الأطفال و الرجال و النساء. فهم يشغلونهم بسعر زهيد. وطبقية حتى في الأسماء وفي ما بين المدن . الرباط تتفوق على المدينة التي توجد فيها "الفيرما "هذه المدن الصغيرة هي التي تخدم المدن الكبرى.ولا تستفيد مما تنتجه، بل تصدر كل شيء إلى المدن المحظوظة.
استغلال النساء:
وكذلك تيمة استغلال النساء في الرواية، حين يختار الحاج النساء الجميلات الصغيرات، وربما استغلهم في أغراض أخرى غير العمل في الحقول .والعجائز لا تحظى بفرصة عمل، وترجع إلى بيوتهن خاويات الوفاض مقهورات مغبونات.وكذا استغلال حسين للفتاة التي غرر بها وضيع شرفها وبدأ يمنيها بالزواج
(.. علت صرخة شابة مدوية في الغرفة، أرجعتها الجبال النائحات، وأزهار الدفلى اليابسات في الوادي. ضاع الشرف .لاتخافي سوف نتزوج...( ص92)
وكذلك في ما بين الرجال الذين يتمتعون بقوة عضلية تمكنهم من حمل الصناديق الثقيلة هم أوفر حظا من الضعفاء الخاملين الذي لا يظفرون بأي فرصة عمل.
أو الكابرانات الذين يتحرشون بالفتيات الصغيرات، ويحاولون أن يستغلوا سلطتهم ككابران للتستر علهن في تخطي الورد دون محاسبة أو مراقبة.
تيمة التحول:
جاءت تيمة التحول لتفضح هذا المرض الذي انتشر سريعا في هذه المدينة و في غيرها من المدن، إذ انتشرت مجموعة من الموظفين فزاوجوا بين عملين، ولكن على حساب العمل الوظيفي الذي يتقاضون عليها أجرا ، وهو الأصل. وبعضهم كان إذا زاوج بين عملين أهمل الوظيفة أو لم يعيها حقها من الجهد والعناية.
وينضاف إلى هذا التحول السلبي عند بعض الموظفين أن انتشر الجشع . وكذا بعض المثقفين الذين تخلوا عن دورهم القيادي في التوجيه والتثقيف والتوعية وانصرفوا إلى مآربهم الخاصة. وتنافسوا مع تجار الحشيش و الخمور في البناء ودخول سوق السمسرة والعقارات، أو انخرطوا في أحزاب الغرض منها الفوز في الانتخابات البلدية والبرلمانية.
الفضاء في الرواية:
يتنوع الفضاء في الرواية بين "خارج" المدينة، حيث الفيرمة التي يشتغل فيها الأطفال، والمدينة حيث تدور أحداث هؤلاء عندما يكبرون، ويشقون طريقهم كل واحد وفق مصيره.
والرواية تصور الشخصيات بأسلوب يمزج بين الواقعي والشعري. بحيث أن اللغة تصبح الوسيلة التي يركبها السارد لبلغ لنا ما بداخل الشخصيات ونفسياتها. فنحن نرى الواقع بعين الطفل السارد ثم بعين الشاب الذي أصبحه في ما بعد. ونتابعه في رحلته ، فيعرفنا بالشخصيات واحدة واحدة. ونتعاطف مع هؤلاء في لغة تنحو نحو الغروتيسك ، التهكم الساخر من الواقع المر.
يصور الكاتب معمر بختاوي من خلال هذه الرواية، كيف أن المدينة تحولت في ظرف وجيز من مدينة هادئة وديعة إلى مدينة للنصابين والمحتالين، تحولت كلعنة أصيبت بها فجأة.
(...بدأ الناس في التحول.تحول الكثير. تحولوا من موظفين و معلمين وأساتذة وممرضين وعمال في البلديات، إلى سماسرة أو مقاولين أو مربي نحل أو فلاحين أو بائعي سيارات مستعملة..) ص73
ولكن هذا التغير لم يكن قدرا مقدرا، إنما من فعل الإنسان وجشعه و رغبته في الربح السريع. كمزاوجة البعض بين وظيفته و عمل آخر في السمسرة أو الوساطة بين العقار والمقاولين ، أو تحول البعض من حرفة الكتابة أو الثقافة إلى البيع والتجارة. ولم يكتف الجميع أو حرفة واحدة ، وكأنما الجميع يريد أن يصبح غنيا في بضع سنين فقط.
كما ان الكاتب أشار إلى بعض السلبيات التي وقعت في هذه "الفيرما" ، وانبنت على استغلال الطفولة، والعنف ضد الأطفال .
6_ السخرية

لاشك أن السخرية شكل من أشكال التعبير التي تـجسد وعي الذات تجاه ذاتها لحظة ضعفها وفقدانها لملكاتها وبالتالي فهي موقف استرجاعي يهدف من خلاله المبدع إعادة التوازن للذات اتجاه ذاتها و اتجاه العالم، و أيضا لتحويل ما يفترض أنه عجز وألم وانكسارات إلى لحظات قوة و انتصار وتسامي. وإذا أن نتسامى على الألم والضعف معناه أننا نبحث في ثنايا العالم المختل و المقلوب عن فسحة لاسترداد أسباب القوة الكامنة داخلنا و التي تتقاطع وأحلامنا الهاربة وأوهامنا المنفلتة
إن اختـيار القاص الـمغربي معمر بختاوي في روايته،أطفال الليل، استثمار السخرية في عمله الإبداعي هو وعي منه لما يتميز به هذا الأسلوب من انفعال ساخر يعكس رؤية مغايرة للعالم تنبني على نقد الذات، محاكمة المجتمع وفضح القيم
و عليه،نجد حضور السخرية لتحقيق مجموعة أغراض،كالسخرية من أطروحة شخصية ما بتسفيهها و تبيان هشاشتها،كما في المقطع الثاني،حيث يجري حوار بين مجموعة من الشخصيات،يستشف منه إظهار موقف فريد المتهالك،فهو يشتغل في الضيعة و يتعب كما يتعب الباقون،و رغم ذلك يتبنى خطاب المستغلين،بكسر اللام،و يسعى إلى إظهار نفسه ذا قيمة عبر ذكر مكانة خاله و علاقته بصاحب الضيعة،يقول
خالي الذي يعمل في الرباط،يعرف صاحب الفيرما.فهو صديقه.يسهران معا في أماكن ممنوعة على بقية البشر..يملك المال الكثير،هو الذي يقرض البنك عندما يفرغ من المال.مثله لا يحسون بمثل هذه الضيعة الصغيرة.
ففضلا عما يستبطنه هذا القول من إحساس بالدونية و الضعف،إلا أنه قول يسعى من ورائه القائل إلى تحقيق التعويض..و ياتي الرد سريعا من طرف المختار الذي يحمل خطابا ساخرا من قول فريد :خالك يعرف مثل هؤلاء و أنت تعمل في الورد؟
يحس فريد بالسخرية،و لكنه يعاند بردها،حين يدعي أن العمل مهم كيفما كان،و هنا ياتي تعقيب قاتل يضرب بقوة منطق فريد و يحيله هباء،و خا حتى في الزبالة.
إن كلمة الزبالة ليست تحقيرا لمثل هذا النوع من العمل،و لكنه ضربة صادمة لايقاظ فريد من غفلته و تماهيه..
و بناء عليه نجد أنفسنا أمام مقابلة بين وضعيتين،و ضعية الأسياد الذين يتمتعون بملذات الحياة على حساب عرق الضعفاء،و وضعية الكادحين الذين كتب عليهم العذاب و الحرمان..إنه موقف نقدي ساخر من الطبقية المقيتة ..
هكذا،إذن،تتأسس السخرية على أساس المفارقة الضدية،حيث تبرز الهوة السحيقة بين طبقيتين متناقضتين،و هي الهوة التي رفعت من درجة التهكم و السخرية على وضع بالغ السوء،من جهة،و على أفراد لا يعون وضعيتهم الصعبة،من جهة ثانية.
كما أن السارد يعمد إلى المزاوجةبين تشخيص الوضع بمفارقاته بلغة تقريرية ترصد المفارقات و بين استرجاعات مرتبطة بالماضي التي تمثل له واقعا أفضل من الحاضر..
فبالرغم من ان الماضي شهد استغلالا و قهرا للشخصيات،فإن حصول البلاد على استقلالها و تخلصها من المعمرين الذين كانوا ينهبون خيرات البلاد بقوة أبناء البلاد، لم يأت بتحول إيجابي،بل أكثر من ذلك،سار باتجاه سلبي،لم يكن إلا وبالا على الطبقات المسحوقة،و هو ما يبرر حنينها إلى تلك الفترة الأقل سوءا،و خيرا على طبقة الانتهازيين الذين أصبحوا يشكلون فئة الأغنياء الجدد،و ريثة المستعمر،يقول السارد :..عندما غادر الفرنسيون البلاد تركوا مكانهم لأشباههم في كل شيء،في اللباس،و العادات،و الكلام و المشي و تقطيعة الشعر..في كل شيء.و المحظوظون هم الذين يعرفون كيف استولى هؤلاء الأغنياء الجدد على الأملاك و الأراضي و الضيعات و الفيرمات الكبيرة..ص 11
أن موقف السارد الساخر لم يأت اعتباطا،بل تعبيرا عن موقف الرفض من فئة ممسوخة استولت بغير وجه حق على الأملاك العامة و حولتها لصالحها تنتفع بها و تحرم الآخرين منها..و لم تكتف بذلك،بل قامت بإحداث تغييرات مشوهة بغية مزيد غنى،يقول السارد و اصفا التغيير الحاصل :لم تبق شجرة واحدة،فقد اجتثت كل الأشجار.فالأرض أصبحت حمراء خالية من البيوت الصغيرة التي كنا نزن فيها.أصبحت مغرسا للبطاطس و الخضر الأخرى..ص99
إنه واقع مرفوض بالنسبة للشخصيات و تحول إلى الأسوأ،و حنين إلى تلك الفترة من الماضي الذي مثلت فيه ضيعة الورود إنقاذا حقيقيا من الفقر و مدتهم بالنقود..أما الأن فقد أصبحت الضيعات بقرة حلوب لا يستفيد منها إلا صاحبها..
و نتيجة هذا التحول السلبي الماحي لذكريات جميلة رغم ما حملته من مرارة،يرصد السارد سعي فئات عريضة إلى إجراء تغييرات على حياتها هي الأخرى،بدا إحداث التغيير العام،يقول السارد ساخرا، :بدأ الناس في التحول.تحول الكثير،تحولوا من موظفين و معلمين و أساتذة و ممرضين و عمال في البلديات إلى سماسرة،أو مقاولين،أو مربي نحل أو فلاحين أو بائعي سيارات مستعملة،أو خرداوات،و جاءت الانتخابات فاقتحمها البعض معتمدا على الأموال و الحشيش و على الرصيد السياسي السابق الباهت،بنوا المقاهي و العمارات للكراء،و انتقلوا إلى المدينة الشاطئية يبحثون عن الربح مهما كلف الثمن..ص 73_74
هكذا نجد نبرة السخرية في كلام السارد من هذا السعي المحموم لجمع المال من أغلبية الناس و صراعهم المرير لكسبه و إنفاقه في الملذات..تكالب يؤرخ لانقلاب القيم من الايجاب إلى السلب.إنه نوع من التحسر لما يحصل و رثاء له،و يقف موقف المصدوم من أحلام مجهضة في الزمن الراهن.فهناك نفور من هذا الراهن و تهكم و سخرية منه،و حنين إلى الزمن الماضي و انشداد له،دون أن يعني ذلك الرغبة في البقاء أسارى الاستعمار..فالسارد و هو يسخر يجسد المفارقة بين زمنين أو بين واقعين لا ثالث لهما،فيغيب الحلم و المستقبل،الحاضر القاتل للأحلام،و الماضي الجميل و المحافظ على القيم الايجابية الرائعة،و المقطع التالي يظهر ميل السارد إلى الماضي العابق بالتقاليد الجيدة،يقول :و لما علم الحاج العربي،و هو خال الزبير،بالأمر دعا الأسرتين غلى وليمة في بيته،و كان مسموع الكلمة مهيب الجانب،و أجلس عائلة الزبير عن اليمين و عائلة عائشة عن الشمال.و عندما جمعهم في منزله الكبير،خاطبهم :عيب ما فعلتموه،انتم جيران....
و لما سمعوا المحاكم و المحامين و السجن،سكت الجميع،و رضوا بالصلح..ص

96وإذ نجد السارد ينتصر للقيم الجيدة و يقف موقف المعالرض من تلك السلبية الآتية مع رياح التغيير السلبية،نود أن نشير إلى مقابلة ساخرة بين الاثنتين،عبر حفل يراد الجمع فيه بين المتخاصمين السابقين،و يدرا الصراع الذي حصل مرة حين سعى الزبير إلى التحرش بعائشة..
يرسم السارد طقوس تهييئ الحفل و الفرحة المصاحبة،يقول السارد :اقترب يوم العرس.الكل مبتهج،الكل يتحرك.أصبح البيت كخلية نحل...ص 100
ثم ينتقل إلى رسم صورة مناقضة تجمع كل عناصر الطرافة و السخرية بفعل ماجريات الأحداث.حيث ستظهر على مسرح العرس زوجته الأجنبية صحبة ابنتيها،تتوقف أمام العريس و تسبه بلغتها الأجنبية..و هنا سينقلب الحفل إلى ساحة وغى،و ينفض الجمع،يقول السارد راسما ما حل :..انقطع التيار،و سادت الظلمة،فلا ترى شيئا.توقفت ساعة الكون.عاد التيار فجأة للكون،الزجاجات تكسرت فوق الرؤوس و الكؤوس تطايرت في الهواء.و صحا الجميع،و اقلب العرس مأتما...ص102
هكذا،نجد ان الزبير تحول من حامل لقيم ايجابية إلى حامل لنقيضها،انه اتخذ لنفسه طريق الغش،فحصل ما حصل..إن السخرية تنبع من المقابلة التي حصلت بين لحظتي التهييئ و لحظة ظهور الزوجة الاولى،و قد كان الرسم ساخرا بفعل الأفعال التي أتى بها الحضور و التي غاب فيها المنطق و حضرت الغريزة...تحققت السخرية في رواية،أطفال الليل،عبر المفارقة و التعارض بين طموحات الذات و بين ما يصير إليه الواقع من تحولات من السيء إلى الأسوأ و توالي الخيبات..
و قد اشتغلت السخرية كآلة دفاعية ضد القهرفي صراع الشخصيات مع واقع مترد،مع سعي السارد إلى المقاومة في صيغ ساخرة تلتقط مفارقات الواقع و انتقاده



لغة الرواية:
تتميز رواية " أطفال الليل" بلغة شاعرية رقيقة، تمتح من اللغة الواصفة واللغة الشاعرة.فهي تنقل الواقع ليس بحظافيره، ولا بواقعيته الفجة وإنما يصبغ هذا الواقع بصبغة شاعرية فيها تشكيل جميل من التشبيه و المجار والرمز. يقول السارد :( أرى القمر كملك أسطوري وسط الوزراء، ينظرون جميعا إلى العبيد يتصارعون على بقايا نقود حتى الموت...) ص22. فصور الأطفال وهم يعملون في الليل كعبيد يتصارعون على الحصول على كمية قليلة من المال، وصاحب " الفيرما" هو القمر الذي ينظر من فوق فوق وهم يقتتلون في الأرض على حطام الدنيا. وهذه الصورة استلهمها من المجتمع الروماني الذي كان يدفع بالعبيد للتقاتل في مابينهم من أجل المتعة والترفيه عن الملوك و الأباطرة. ويقول أيضا:( ...يهوي بي "الكابران" من سمائي إلى أرض الطين و الشمس والغبار...) ص 22.والسارد هذا الطفل الغارق في عوالم أخرى الحالم بواقع آخر أكثر جمالا، و أكثر إشراقا، وأقل عنفا و شرا وقبحا واستغلالا، يأتي "الكابران" فجأة ويوقظه من حلم اليقظة، منبها إياه و مرجعه إلى الواقع المحسوس ، بوخزة من عمود فيفيق الطفل ويرتطم بالتراب والغبار والشمس المحرقة ..
ولغة الرواية في تناص مع بيت للمتنبي ، وأغنية للحسين السلاوي ( يا موجة غني ..) وأغنية لأم كلثوم ( .. عمري ضايع..) وتتناص مع أغاني محلية تتغنى على شكل حوار . وفيها لغة التهكم والسخرية .
(..قال فريد: (...أنت ما زلت غرا، لاتفهم شيئا في الدنيا.(ووضع أصبعه في فمه).يأتي بالطائرة ليلا ويعود ليلا.لاأحد يشعر به.
سأل المختار في سذاجة: وأين تنزل الطائرة ؟
فوق رأس أمك. أجاب فريد في نرفزة واضحة) ص 18
على سبيل الختم
كتبت هذه الرواية بأسلوب سلس و ممتع و متين،يفاجئ القارئ بانسيابيته و جمله السردية،التي تحكم الكاتب في بنائها بشكل يفي بالغرض.
1
..
اشير في النهاية الى ان قراءتي ليست قراءة ناقد و لكن قراءة هاو








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي