الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أرض الميّت - 6

هشام آدم

2010 / 7 / 18
الادب والفن


[الفصل الثاني]


حكت لنا الجدةّ مسكة كذلك عن أزمنة المجاعة، وكيف أن الأمهات كنّ يعتصرن أثدائهن ويُحلّين حليبهن بماء البلح ويُطعمن به أطفالهن، تلك الحقبة -التي لم أشهدها- هي من الحقب الأكثر صعوبة على أهالي أرض الميّت، وكادت أن تعصف بالقرى النوبية فلا تترك لها أثراً. قيل أن ساقية الشيخ إسماعيل دهب -التي أصبحت بعد ذلك سارية التمتام الرحيمة- قد امتلأت عن آخرها بجيف الحيوانات النافقة؛ بينما ناضلت بعض القطط والدواجن من أجل أن تبقى على قيد الحياة؛ وتوجهّت إلى تغيير نمطها الغذائي. فتشاجر الأطفال والقطط على مياه البلح الآسنة، وثمار الدوم الصلبة، وقشور الفواكه المصابة بالطفيليات، ولكن نيلنا المقدس الذي ينبع من بين أصابع أقدام الرب أعاد الحياة إلى القرى النوبية وأهاليها، الذين لم يكفوا يوماً عن مناشدته فرادى وجماعات. وما تزال قصص الطاعون والكوليرا التي داهمت القرية كجيوش من الأرواح الشريرة تسكن ذاكرتي محتفظة بطزاجتها الأولى لتُشعرني في كل مرّة بالأسى والقشعريرة؛ حيث قضى المئات من الأطفال والنساء نحبهم في أزمنة الوباء وعدّ أهالي القرية تلك الحقبة حقبة شؤم، غير أنهم لم يفطنوا قط إلى أنّ جيف الحيوانات النافقة على سارية الرحمة قد تكون سبب الوباء.

تذكر جدتي إن هاشم صليحة كان أول من مات بالكوليرا. ذلك الشاب الذي أرهق القرية بأفعاله الشريرة والرعناء، حيث لم يكن يدع نعجة ولا غنماً سائباً إلا وذبحها دون إذن أصحابها ليتخذ منها عشاءً له، ووليمة لأصدقائه في أمسياتهم الخمرية. اشتكى منه أهالي القرية، ولم يمتلك والده حيلة عليه. قالت: "إن الله أحب أن يضرب عصفورين بحجر واحد، فأماته ليريح الناس من شرّه وليمتحن صبر والديه على ابتلائه." ولكنها لم تجد تعليلاً مناسباً لحكمته في قتل المئات الآخرين! ولم تزل أرض الميّت تحت وطأة الطاعون والكوليرا عامين كاملين، ثم أصابها وابل من مطر لم يكف عن الهطول ثلاثة أيام، غسلت الأرض وطهرتها من الأدران والذنوب؛ هكذا قال الجميع. وقالت جدتي إن القرية بدأت تتعافى بعد ذلك المطر بعدة أيام، وأصبح المرضى بالكوليرا يُعدّون على عدد الأصابع، فيما قضى المئات نحبهم في ذلك الوباء اللعين. تضيف كذلك إن الشيخ عبد الصبور وقف ذات يوم على التلة المقدسة وقال: "إنه يتوجب علينا جميعاً أن نعي الدرس جيداً، وألا ندع الأشياء تمر علينا مرور الكرام. إن ما حدث خلال السنتين الماضيتين ليس سوى ناقوس خطر من الله، أراد به أن يوجهنا إلى أننا مخطئون ومذنبون. علينا مراجعة أنفسنا ومحاسبتها، وعذاب الآخر أشد وأبقى." ثم إن أرض الميّت بدأت تتعافى من جديد، وبدأت الأراضي تخرج ما ادخرته من خيرات مدفونة، وبدأت تظهر أولى أمارات العفو الإلهي واستجابة الدعوات والتضراعات التي لم يكف عنها الشيخ عبد الصبور دهب يوماً. وعادت الحياة مرّة أخرى تدب من جديد في عروق الأرض والبهائم والبشر، وبدأت أرض الميّت تستعيد رائحتها القديمة.

لكل الأماكن رائحــة، ولكل الروائح ذاكرة وشرايين تنبض بالحياة؛ وهكذا كانت "كِدِن دَفّي" الغارقة في سواد الكبريت الواقعة شمالي أرض الميّت؛ إذ تذهب نساء القرية إلى هناك لجمع الهبّوت أو الرماد الطبيعي الذي يستخدمنه علاجاً لبعض الأمراض الجلدية: كالطفح، ومداواة آثار الجُدري المائي، والبهاق، والثآليل الفيروسية. تلك الثقافة التي تُعد من أكبر الأدلة على ارتباط الإنسان بأرضه، والعلاقة التي تربط بينهما قبل اكتشاف العقاقير الكيميائية، والفزلكات الطبية الحديثة. تجمع النساء الجرار الصفيحية، ويضعن فيها ما تيسّر لرجالهن صيّده من أسماك الباروش، والأسماك النمرية المتوحشة، ويضعنها –بعد إزالة الحسك- كما هي دون نزع الشوك، فقط يُضفن الثوم والملح والبهارات الخاصة إليها، ثم يُحكمن إغلاق الجرار التي لا تُفتح إلاّ بعد مرور أربعة أيام. في هذه المدة يستوي تعفّن الأسماك؛ فتقلّب مراراً بأعواد خشبية غليظة وطويلة مُعدّة لهذا الغرض حتى تصبح كالطين اللازب، يأخذنه ويُفرغنه في علب زجاجية صغيرة، ويطبخنه كإحدى الوجبات الرئيسة للعائلات النوبية. ربما لمرّة واحدة في حياتي شهدت صناعة التركين الذي تقوم به مجموعة من النساء في وقت واحد. يرددن عندها أغنيات تذكر شجاعة الرجال ومهارتهم في الصيد. حضور تلك الطقوس الجماعية بالنسبة إلينا -نحن الأطفال- نوع من التسلية، إذ تأتي كل امرأة برفقة أطفالها. وبينما تنغمس النسوة في العمل، ننغمس في اللعب بالطين الكبريتي دون أن نخشى توبيخ الأمهات المنهمكات في إعداد التركين. تلك اللحظات المثالية النادرة كانت حفيّة في القرى النوبية؛ لاسيما لدى الأطفال الذين يتجمّعون عند عتبة سرايا العمدة ويختلقون الأفاعيل التي تثير غضبة الكبار. وفي مواسم الأعياد يتجمّع الأطفال، وقد ارتدى كلٌ منهم ملابسه الجديدة والتي لم تكن تختلف كثيراً عن بقية ثياب السنة، ثم يتسابقون حتى حدود القرية الشمالية، ويدخلون البيوت مشرعة الأبواب فاتحين جيوبهم لاستقبال الحلوى والبلح الذي يُغدقه عليهم الكبار بكرم جمّ. ويظلون ينتقلون بين قرى المنطقة حتى يصلون إلى شجرة اللبخ المشهورة التي تمّد أغصانها كشمعدان سحري عملاق. يجلسون تحت ظلها، ويخرجون حصيلة ما في جيوبهم من حلوى. يفرشونها أرضاً ويأكلون حتى يلتهمهم العطش، ثم ينطلقون إلى النيل يشربون من ميائه البارد حتى يرتوون، ولا ينسون أن يتراشقوا بالماء، وأن يبللوا ثيابهم الجديدة مهرجاناً لشغب الطفولة الذي لا ينقضي. ولا ينقضي العيد حتى تُقبّلهنّ العجائز، ويحملهم الرجال على ظهورهم، ويملئون الدنيا بالضحكات.

كل شيء في أرض الميّت روتيني ومكرر، حتى تلك الأعمال الأكثر حفاوة وتقديراً: صناعة التركين، والعزاءات النسوية، وحفر المقابر، وحصاد البلح، وحتى الهمبيق الذي يقوم به الرجال في المناسبات السعيدة: حيث يصطف الرجال في نصف دائرة مُصدرين من حويصلاتهم الرئوية أصوات الهُمبيق التي كنتُ أخاف منها كثيراً. ذات الأصوات تسكب القشعريرة الباردة نهراً في أوصال النساء، وتُلهب الحماسة في قلوبهن، ولكننا لم ندرك روتينية هذه الأشياء حتى زيارة الشياطين البيضاء لنا ذلك اليوم. أهالي القرية، ضاربي الهمبيق لم يعرفوا –حتى في أزماتهم ومحنهم المتوالية- غير رسم الابتسامات الصافية من غير تكلّف. ولطالما سردت لنا جدتي حكايات عن تلك المآسي التي مرّت بها أراضي النوبة وأهلها البسطاء لقرون طويلة، وكانت تغني لنا بلكنتها النوبية المحببة ملاحم شفوية تداولتها الأجيال النوبية عاماً بعد عام.
ومازلت أتذكر تلك التقاسيم المتعَبة التي تجيد الجدة مِسكة رسمها بعفوية، وهي تحكي لنا ما فعله جيوش الإمام عبد الله التعايشي بأهالي القرية، والقرى النوبية المجاورة في أزمنة سابقة على المجاعة الكبرى. وكم جاهدتُ معها لتُحدد لي متى كان ذلك، ولكنها لم تكن قادرة حتى على التخمين، كل ما قالته: "تلك أزمنة كانت حمير الأسلاف تأكل فيها الكاجو!"

كانت الجدة مِسكة صغيرة حين شاهدت -لأول مرة- سنابك خيول أولئك المرتزقة الذين غزوا القرى النوبية، ونهبوا ما بها من خيرات: حبوب، وبقول، وبهائم ليموّنوا بها قواتهم التي تقاتل ضد الوجود المصري في السودان. يُهاجمون القرى النوبية وينهبون ما تطاله أيديهم، حتى أن البهائم والدواجن لم تسلم منهم. وعندما تخفي الأسر النوبية بهائمها التي تعوّل عليها كثيراً في معايشها عن أنظار اللصوص، يأتون بجدي ويعضّونه من أذنه حتى يعار؛ وعندها تنطلق يعارات الماعز الأخرى داخل البيوت والأخبية؛ فيهجم عليها الجنود دون رحمة. بفطرة الطفولة الفوّارة والمسالمة أحببتُ الإمام التعايشي الذي تعلّق في مخيلتي كأحد الفوارس الأسطورية: بمنظره المُتخيّل ناصع البياض الذي لا يشوبه شيء؛ إلاّ بعض البقع المتوقعة على حصانه الأبيض الضامر الرشيق، غير أنني أخذت عليه أنه تسبب في تجهّم جدتي مِسكة التي تشبه صفاء الجنة، وعبقرية اللحظات الإيمانية بكل نقاوتها القدسية. لم أستطع في ذلك الوقت المبكر أن أحدد موقفي منه، رغم ما سمعته من حكايات عنه وعن الإمام محمد أحمد الدنقلي الذي أفشى بين الناس قصصاً عن منامات رأى فيها النبي، وهو يُبشّره بأنه المهدي المنتظر. واستغل بساطة من معه؛ فأغراهم بمجد خطّه لهم على تراب المسايد المُباركة، على ضوء لهيب التُقّابات الليلية، بأنه سيُجدد بناء الدولة الإسلامية ويُحرر القدس.

كانت شخصية المهدي مرعبة بالنسبة إليّ، ولكنني لم أستطع أن أقارنه بالإمام التعايشي؛ حتى علمت أنه بنا على قبة المهدي –بعد موته- قبة أخرى، وأمر الناس بالحج إليها بدلاً عن الكعبة المشرّفة. لا أدري؛ ولكنني شعرت بالخذلان عند معرفة ذلك، وفيما بعد عرفت أن كثيراً من أتباعه -الذين أطلق المهدي عليهم اسم الأنصار تيمناً بأنصار الرسول- قد غلوا في أمره، حتى أن كثيرين منهم لم يكونوا يسمعون اسمه إلاّ ويقولون: "عليه السلام"، فعرفت أنني لم أكن الوحيد الذي بهرته شخصية هذا التعايشي المخدوع الحالم. سار التعايشي على خطى إمامه المهدي في جهاده ضد الكفار، ونواياه المعلنة في فتح مكة، واسترداد القدس قبل أن تداهمه حمى التايفود الأفريقية المميتة؛ فأردته قتيلاً ليحمل لواء خلافته من بعده، ويأخذه جنون العظمة لغزو مصر، بعدما أذاقوا أهل السودان ويلات التقتيل والتشريد. حكت الجدة مِسكة -بكل فخر، وهي تحاول بيُسر غير متكلّف محو ملامح البؤس النوبي المستديم- عن موقعة أرقين التي شارك فيها النوبيون جنباً إلى جنباً مع القوات المصرية والإنكليزية لدحر عدوان البدوي الحالم، قالت: "نهاية حملة النجومي التي أعدّها التعايشي عنت لنا نهاية المحنة." كم طيّبة وحالمة هي الجدة مِسكة! ومرّة أخرى سألت نفسي: "هل النوبيون وحدهم الأحامسة؟ أم أنّ ذاكرة الشعوب يُصيبها العطب كذلك؟" بعد سنوات طويلة، عرفتُ أن تاريخ السودان الحديث المكتوب ليس بتاريخ يُمكن أن يُعتد به؛ فهو تاريخ يُعلي من شأن القتلة والمرضى النفسيين، الذين لم يتركوا من المآثر سوى عشرات الأنهار الدموية، وبذروا بواعث العنصرية البغيضة؛ في حين ظلّ أشخاص أكثر أهمية طيّ النسيان. قلت في نفسي: "التاريخ لا يكتبه إلاّ الخونة!"

مقارنة بأعاجيب التمتام والحكّاي ومقولات عبد الشافي الثورية؛ فإن عودة نجيب آشا غير المتوقعة إلى القرية كانت من الأحداث التي لا تقل أهمية في تاريخ أرض الميّت. عندها فقط ابتدأت صفوف الرجال المنتظرين للفرج جوار ضريح التمتام، وعلى أعتاب سرايا العمدة تتجه إلى منزله؛ فقد عاد وقد بدت عليه أمارات الثراء المشرقة بعد سنوات اغترابه العشرين التي قضاها في أسوان برفقة السيّاح الأجانب؛ تعلّم فيها -إضافة إلى اللغة الإنكليزية-: الانضباط في المواعيد، وتنميق الكلام، وتهذيب أفكاره تجاه الحيوانات الأليفة. لم يكن من المنتظر -بعد اغتراب طويل كهذا- أن يجد نجيب أحداً من أفراد أسرته على قيد الحياة. ولكن المعجزة الحقيقية أنّ جدته لأمه عائشة (أو آشا كما ينطقها النوبيون) كانت ما تزال تناضل من أجل أن تبقى حيّة بعد أن فقدت بصرها، وخفّ سمعها، وتساقط جلّ شعرها.

بابا نوبة التي ظلت طوال الثمانين عاماً التي عاشتها متشبثة بالحياة، اختارت اليوم التالي مباشرة لعودة حفيدها لتموت، وكأنها كانت في انتظار عودته لترحل هي عن الدنيا؛ وبينما خمّن البعض أن مقدم نجيب كان قدم شؤم على جدته؛ تندّر البعض الآخر بهذه القصة، وقالوا: "إنّ ما حمل بابا نوبة على البقاء حيّة هو كونها آخر من تبقى من سلالة آل كُبْرة المنقرضة، وبعودة حفيدها لم يعد لديها ذلك الدافع للبقاء!" بدأنا نسمع اسم أسوان يتردد أكثر من ذي قبل على ألسنة الناس. ما فعله نجيب آشا ببساطة أنه صوّر أسوان لأهالي القرية على أنها إحدى الجنان الأرضية المفقودة التي مات المئات من المغامرين في بحثهم عنها، تلك الجنة تقع على بُعد ملء السواعد بالتجديف الحثيث، الأمر الذي جعل الناس يتدافعون إلى منزله كالجراد؛ لاسيما أنه صوّر لهم عشق الفتيات البيضاوات هناك للرجال السُمر.

ردد كثيراً: "إن سُمرة الرجال تجذب الإناث البيض كما تجذب مُكعبات السكر سرب الذباب!" الأمر الذي جعل رجال القرية يشحذون هممهم، ويُمنّون أنفسهم بمضاجعة المصريات والخواجيات اللواتي ينتظرنهم وراء الجبال. طلب من كل فرد جنيهاً كاملاً مقابل أن يُوفر له عملاً هناك. لم يتوقف الأهالي كثيراً للتفكير في جشع نجيب آشا واستغلاليته، وإنما ذهبوا لبيع ما يملكون من نخيل وأراض وعِدد، ومن لم يجد؛ رهن ما لا يصلح بيعه على أمل جازم بالسداد. البعض تصوّروا أنفسهم وقد أصبحوا أثرياء مثله أو مثل العمدة؛ حتى أن كثيرين منهم تلبّسوا شخصية الثري المتغطرس. وتذكر الجدة ملكة أنّ أحدهم وقف قائلاً في إحدى ليالي أرض الميّت الحالمة: "عندما أعود من أسوان سوف أشتري سرايا العمدة ـ أو أبني واحدة إلى جوارها!" ذلك جلّ ما حلم به. النساء كنّ الباعث الحقيقي وراء أوهام بعض الرجال، ولم يستطع أحدهم أن يُوقف تلك الوساوس التي عاشت في دماغه كخفّاش ليلي لعين تلّصق على جدار الجمجمة. ظنت النسوة أنّ من يذهب أولاً تتفاقم فرص ثرائه أكثر من غيره؛ لذا فإنهن لم يتوقفن عن الوسوسة، وارتاح الشيطان وقتها من عمله وتركه لهن. تلك التجربة أفرخت عشرات السوشكّيين الذين لم يعلم أهل القرية بأمرهم.

في ذلك الوقت الذي بدأ فيه نجيب آشا في إرسال الشباب إلى مصر، سمع الأطفال عن أسوان أكثر مما سمعوا عن الخرطوم، ومثلّت بالنسبة إليهم إحدى عجائب الدنيا التي لم يتوقعوا -حتى في أكثر أحلامهم رومانسية وخصوبة- أن يسافروا إليها، أو أن يروها بأم أعينهم. سمعوا عن البيوت الحجرية، والكهرباء، والقوارب ذات المحرّكات، والعربات التي تجرّها الأحصنة، والسيارات المعدنية، والراقصات، والخمّارات، وصندوق الدنيا، وملاهي الأطفال، وشوارع الإسفلت، ورسموا في مخيلاتهم المحدودة تصوّرات بدائية عن شكل الإسفلت ولونه. سمعوا عن كل ذلك، ولكنهم لم يعلموا كنهها حتى عاد نجيب آشا من هناك حاملاً في جراب ذكرياته قصصاً وحكايات عن أسوان والسويس وبورسعيد التي سمعت بها أرض الميّت لأول مرّة. لم يلحظ أحد غير (سرّي نَبْرَة) ذلك البريق الماكر الذي لمع في عيني نجيب وهو يُخاطب إحدى الفتيات: "توجد فرص عمل للنساء أيضاً في أسوان." ورغم محاولاته لإخفاء همجيته البيولوجية، إلاّ أنه بعاطفته الأبوية المتيقضة رآها بادية بين فكيه كذئب صائم يتعرّف على فريسته للمرة الأولى، فقفز رافضاً الفكرة، ولم ينس أن يشكره على عرضه السخي. ولكن سرّي نبرة وكل أهالي القرية تفاجئوا باختفاء نجيب آشا والفتاة بعد أسبوع من ذلك. وبحسب فهرس الوفيات الأبجدي فإنه قد تمت إضافة اسمها إلى القائمة فوراً، وأصرّ سرّي على ألا تقوم النائحات بعملهن ذلك النهار. قال: "تموت ابنتي كما تنفق الخراف." ولم يساعده إحساسه بشرفه ذلك على أن يتذكر جرائره السابقة.

حين ذاع خبر ولادة عوضية كوشة المتزوّجة حديثاً؛ ذهبت النساء لزيارتها في المنزل، وحملن معهن كل ما ينبغي لهن حمله في مثل هذه المناسبة؛ ففي حين حملت بعضهن علب حلوى الماكنتوش التقليدية، حملت الأخريات أكياس البخور والصندل وبرطمانيات الخُمرة والمحلبية المصنوعة محلياً، بالإضافة إلى مديدة الحِلبة بالتأكيد! في حين لم تذهب النساء اللواتي رأين جنازة عابرة ذلك اليوم. تلك العادة النوبية التي مازلتُ أستغرب من تفاصيل وضعها في قوالب اجتماعية لا يحاول أحدهم كسرها أو تجاوزها؛ إذ تتشاءم النفساء من استقبال من رأت جنازة أو دماً مسفوكاً بأم عينيها، وإن كانت تلك إحدى القريبات؛ فإنها تأتي لزيارتها دون أن تسمح لها برؤية وجهها، فتكتفي برؤية قفاها ثم تغادر المنزل بسرعة. يقال: إن الموت والحياة لا يُمكن لهما أن يلتقيا أبداً إلاّ في ظروف نادرة؛ لا تتوفر إلاّ كانت أمارة لكارثة وشيكة، ومن أجل ذلك جعلوا مقابر الموتى في الضفة الغربية من النهر، بينما بنوا منازلهم في الضفة الشرقية منه، ليفرقوا بين الحياتين. وربما آمن الأسلاف -الذين سنّوا هذه المُشاكرة- بأن لكل من الموت والحياة حيواتهما الخاصة، وأن محاولات الخلط بين هذه الحيوات يُعدّ تحدياً سافراً لقوانين الطبيعة ونواميسها الأزلية، الأمر الذي يُنذر بما لا يُحمد عُقباه. تظل النفساء حبيسة هذه المُشاكرة حتى تُكمل عدتها، وفي اليوم الأخير، تأتي نساء القرية ليتم اختيار إحداهن لتغسيلها بيدها بماء الذهب على طشت من النيكل. تجمع النساء ما توافر في أيديهن من ذهب حقيقي، ويُلقينه داخل الطشت، ثم تُنقع القطع الذهبية في الماء لبعض الوقت قبل أن تستحم به النفساء. في الأربعين، أرسل النسوة في طلب فتحيّة بُشارة لتُلقي بذهبها الخرطومي في طشت عوضية كوشة وتفاءلنّ بذلك. ولكن فتحية خافت أن تفعل، فتصدأ مجوهراتها المزيفة ويُفتضح أمرها؛ لذا رفضت بقوة؛ متحججة بأنّ ما يفعلنه يُعبّر عن تخلّف ورجعية، وسير على خطى عادات آسنة لا معنى لها. ولكن ضراوة العادات دفعت بالنسوة لمهاجمتها، ونزع بعض الذهب من يديها، وإلقائه في الطشت عنوة، وعندما صدأ عرف الجميع بزيفه. وأصبح الحديث عن ذهب فتحية بشارة الفالصو فاكهة المجالس النسوية؛ حتى أنّه غدا مثلاً يُضرب؛ فيُقال: "أزيف من ذهب فتحية!" وسافرت فتحية إلى الخرطوم وراء زوجها بعد ذلك.

تذهب نساء أرض الميّت الحوامل كل صباح إلى النهر برفقة بعض النسوة، فيجلسن على حوافه، ويغتسلن، ويمسحن شعورهن بمياهه المباركة التي حملت أحد الأنبياء السماويين ذات يوم. ثم يبدأن بالتهام الطين المتوافر جوار النهر، ويحملن جزءاً مقدراً منه في أكياس ليأكلنه مساءً في البيوت. نساء أرض الميّت المفتقدات للكالسيوم يتخذن من طين النهر مصدراً أسياسياً للكالسيوم والحديد؛ يقوّين به أجسادهن الضعيفة. والبعض يصنعن الطين في قوالب كأصابع الشوكولاته، ويأكلنه بنهم جمّ في الأمسيات والأسحار، وليس طين أيّ نهر كطين نهر النيل.

[نهاية الفصل الثاني]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - الزمالك كان في زنقة وربنا سترها مع جوميز.. النا


.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ




.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت