الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكاية أنصارية

تقي الوزان

2010 / 7 / 19
سيرة ذاتية



كانت نوبتي في الحراسة الساعة الأخيرة , من السادسة الى السابعة صباحا, مع نهوض خفر الخدمة الرفاقية في إعداد وجبات الطعام لذلك اليوم . ونقطة الحراسة داخلية في الفصيل , لكون الفصيل في قاعدة مقر قيادة قاطع بهدنان, وتحيط بالقاعدة نقاط حراسات باقي فصائل سرية المقر . كان فصيلنا مستقل عن إدارة القاطع, وحمايته عسكريا في عهدتها , لكونه فصيل ( المكتب السياسي ) كما يسمى بعض الأحيان , وتواجد القيادة الحزبية فيه . كانت نقطة الحراسة عند المطبخ الذي يتوسط الوادي , ويقابل مجموعة الغرف التي تتواجد فيها القيادات الحزبية , وباقي أعضاء الفصيل . وجرت العادة على تواطؤ الخفر مع الحارس , ليذهب الأخير يواصل ساعة النوم الأخيرة في تلك البرودة الساحرة وسط شهر أيار . طلب مني الخفر علوان بعد أن ركن بندقيته في زاوية المطبخ وبدء بتهيئة الفطور , ان اذهب لمواصلة النوم , وفاته , إن التوجيهات العسكرية منعت أي تهاون في أداء واجب الحراسة منذ أكثر من عشرة أيام , أي قبل عودته إلى الفصيل بعدة أيام .

كان سبب التشدد العسكري , وجود سجين فرغت له غرفة منام الرفاق المواجهة للمطبخ تماما . والسجين عباس , شيوعي من أهل البصرة, ترك العراق مع عائلته (زوجة وطفلتان) أثناء ضربة الحزب الشيوعي من قبل النظام الصدامي عام 1979 , والتحق بتنظيمات الحزب في لبنان , وشارك في التدريبات العسكرية التي كان يجريها الحزب لأعضائه , ليتم الالتحاق بعدها بالقواعد الأنصارية الناشئة للشيوعيين في كردستان . ونتيجة جرأته, وإمكانيته في تأمين وضعية العودة إلى العراق – ولو لعدة أيام - للالتقاء بباقي الرفاق المقطوعين عن التنظيم , ولملمة علاقة البعض منهم . عاد إلى البصرة , وحقق بعض النجاح , وتكررت عودته إلى الداخل ولفترات طويلة عدة مرات , وبالذات بعد أن استقرت قيادة التنظيم في كردستان , واستقرت خطوط عمل الحزب إلى حد ما بعد بناء قواعد الأنصار , وعودة الروح المعنوية المتدفقة للشيوعيين , والإصرار على مواصلة الطريق , رغم بشاعة الهجمة الدموية الغادرة من قبل البعث .

لم يتعرض الحزب طيلة تاريخه الذي شيده بالصراع المرير مع أنظمة استعمارية , وقومية فاشية , وحتى مع البعث عام 1963, الى مأساة مثل مأساة عام 1979 , بعد ان تمكن البعث من مد نفوذه الى كل خلايا المجتمع , وبات حتى الهواء في داخل غرف نوم العراقيين مشبع بالمراقبة والوشاية . وكم من الزوجات , والأطفال , قد تم تحويلهم إلى مواسير لنقل المياه القذرة , عن طريق الرعب , أو الإغراء , أو الجهل واستغلال الطفولة , ليرسلوا آبائهم إلى الإعدام , لمجرد تذمرهم , او بصقهم على صورة صدام . ودع عنك المعارف والأصدقاء , لي صديق القي القبض عليه من قبل الأمن العامة وهو في بيت صديقه , ذهب إليه بعد أن ضاق به المجال لمبيت ليلته . يقول : حتى لو كنت اعرف ان صديقي – وهو رفيق أيضا - قد تعاون معهم , فلن أتردد من المبيت عنده , لتأكدي بعدم إمكانيته من الوشاية بي .

كان اكبر نجاح لفاشية نظام صدام هو إنهاء الثقة حتى بين أبناء العائلة الواحدة , وبات الجميع يبحث عن وسيلة تثبت براءته أمام اجهزة امن النظام , التي أخذت تنظر بعين الشك حتى لمن يردح أكثر للنظام , وبات البعث ومنظماته ( الجماهيرية ) من نساء وطلبة وعمال وطلائع يتسابقون في كتابة التقارير , وليس بالضرورة ان تكون صحيحة , بل المهم استمرار تدفقها .

كان اغلب البيشمركَة الشيوعيين من الشباب الذين تركوا كلياتهم ومعاهدهم, وتركوا عوائلهم التي باتوا لا يستطيعون السؤال عنها بعد أن غيروا أسمائهم , وعباس يدرك جيدا لواعج هؤلاء الرفاق الذين تركوا العراق منذ عدة سنوات , ويحاول أن يطمئنهم : بأن الأمور لم تعد مثل السابق , وان النظام اخذ يتفكك نتيجة استمرار الحرب العراقية الإيرانية التي مضى على اندلاعها أكثر من خمسة سنوات , واقرب مثال سهولة ذهابه وعودته . وجازف اثنان من الرفاق بإرسال رسائل معه إلى أهلهم , وطلب منهما أن لا يخبرا التنظيم , لأن الحزب منع إرسال أية رسائل شخصية مع من يعملون في الداخل . وعاد لهم برسائل من أهلهم, ومبلغ بسيط من المال . كانت عادته عند قدومه ان يتسامر مع الرفاق حول موقد نار المطبخ , وينقل لهم مشاهداته وتحليله للوضع السياسي , أحاديثه متنوعة, وشيقة , ولديه تلقائية تصل حد السذاجة , ويعرج على الجنس , الذي ينتظر الحديث عنه اغلب الرفاق , ويكايد بعضهم بوصفه تفاصيل التحلل الأخلاقي نتيجة الحرب , ويزيد في تشويقه فيضيف في بعض الأحيان وصف احد المشاهد الدافئة مع زوجته , التي سحبها لتسكن معه بعد ان وجد السكن الآمن كما يؤكد .

قبل أسبوعين وصل عباس قادما من البصرة , وحال عودته, وكالعادة التقى به مسئوله الحزبي لاستلام البريد , ومعرفة تفاصيل نشاطه , والطريق الذي سلكه في عودته , وفيما إذ واجه صعوبات بذهابه , وباقي الاستفسارات الأخرى . وبعد ثلاثة أيام – التي هي استراحة لكل رفيق قادم بمهمة من خارج المقر – طلب منه أن يهيئ نفسه مع ستة رفاق آخرين , للذهاب بمفرزة لإحدى القرى التي تبعد مسافة أكثر من يوم سيرا على الأقدام , لإنجاز مهمة استطلاعية . وعند استراحتهم في بيت احد الرفاق في إحدى القرى التي في طريقهم , تقدم الرفيق صاحب البيت , بعد ان طلب منه آمر المفرزة – منعا لأي التباس - تشخيص, من اخبر عنه , وشخص عباس من دون الرفاق الآخرين . والرفيق صاحب البيت , ( جحش )كان مع مفرزته التي ألقت القبض على عباس عند نزوله الأخير, وسلمته إلى آمر فوجهم , لينقل إلى امن الموصل . وبعدها يطلق سراحه من هناك , كما قال عباس الذي انهار بعد ان واجهه الرفيق ( الجحش ) بصرامة الأدلة . وتبين انه تعاون مع مديرية الأمن في بداية الحملة عام 1978, ومع تواصل التحقيق , وتوالي الاعترافات , عرفنا حجم التخريب الذي مارسه , وتمكن الحزب من إنقاذ بعض الرفاق الذين كانوا ( تحت الحُكَة ) .

كان المطبخ مربعا, وظلعاه المقابلان لغرف الرفاق مفتوحان إلا من دكة لا يتجاوز ارتفاعها المتر , لحفظ الموقد , ومنع الحيوانات من دخول المطبخ . كان الخفر علوان قد أشعل النار تحت قدر شوربة العدس , وبجانب الموقد وضع إبريق ماء الشاي , وفرغ من تحضير أقداح الشاي وصحون الشوربة . وناداني مرّة أخرى بشئ من العصبية , على أن اذهب وأعود إلى النوم , وأجبته : أشكرك , باقي . وأصر : آني أكَلك روح ارتاح يا رفيق ! وآني أكلك ما أروح يا رفيق , لان تعرف الوضعية ( وأشرت له على غرفة السجين ) , وإذا سألني آمر الفصيل : ليش تارك الحراسة؟ شراح أجاوبه ؟ أهو, أجابني علوان: لو باقية على توجيهات الجماعة جان حتى الشراويل بعناهن. روح ارتاح عزيزي وعلى مسئوليتي . اجبته بعصبية : وبيش كيلو مسئوليتك؟ آني الحرس لو أنت؟! توتر الجو بيننا بسرعة , وفتح عينيه على اتساعها - كان يحظى باهتمام أكثر من غيره لتواجده المستمر في مناطق الفرات الأوسط والجنوب – تطاير الغضب من عينيه , وبصراخ مكتوم : لك أنت تعرف ويامن تحجي ؟! تخرس , وتحترم نفسك , ودير بالك تتجاوز , أجبته بعصبية مفرطة . استدار ودخل المطبخ , واخذ علبة السكر ليملئها من المخزن , ومشيت بدوري لنهاية الفصيل باتجاه القاعدة , وهي اقل من ثلاثين مترا . التفت , كان المخزن بجانب غرفة السجن , وعلوان يتحدث مع السجين , وعند عودتي المسرعة , رفع صوته : جبان تافه , وتركه ليدخل المخزن .

عرفت علوان منذ أكثر من سنتين عندما كنت في قاطع السليمانية , كان موضع احترام البعض من البيشمركَة , ويشار إليه بالجرأة والرجولة , لنزوله المتكرر الى الداخل دون ان يتمكن احد من القبض عليه , وموقف متشكك من البعض الآخر, بسبب ( نزوله المتكرر دون ان يتمكن احد من القبض عليه ) أيضا . كان علوان يتبجح كونه احد المساهمين في معركة سولميش , وهي قرية في ريف السليمانية, جرت فيها معركة كبيرة بين قوات البيشمركَة والقوات الحكومية , وساهمت فيها آليات عسكرية ودبابات وطائرات هليكوبتر , واستمرت ليوم كامل , سقط فيها الكثير من أفراد القوات الحكومية والجحوش , وخسرنا فيها عدة شهداء وجرحى , وتم اجتياح القرية من قبل العسكر والجحوش . وقد تمكن علوان من الاختباء في إحدى المرافق الصحية, ولعدة ساعات , لينجو بعدها كما يقول .

في فصيلنا المستقل , تجري العلاقة الحزبية على مستويين, الأول الهيئات الحزبية داخل الفصيل لتمشية الأمور اليومية, والآخر لتنظيمات الداخل حسب تقسيم الحزب لمناطق العراق . وجاءني مسئول منطقتنا بعد الفطور , وسألني : أشبيك ويه علوان ؟! كان مسئولي لا يود علوان لأسباب عدة , وأهمها , ان علوان يستفز الآخرين( بتخوفهم ) من النزول الى الداخل . وكانت تربيتنا الاجتماعية , والسياسية , التي تعتمد على الحماسة والرجولة , تنتقص بشكل جارح من الشخص الذي لا يفي بما كلف به , دون الأخذ بالصعوبات, وتغيّر الظروف, التي قد تواجه إنجاز العمل . وعلى سبيل المثال: ترك احد الرفاق كلية الهندسة السنة الأخيرة في جامعة بغداد عام 1978 , والتحق بعد فترة من الاختفاء البطولي بقوات الأنصار في كردستان, وطيلة سنواته السبع في البيشمركَة , والتي خاض فيها معارك كبيرة وشرسة , وجرح في إحداها , لم يتأخر عن إنجاز أي واجب كلف به – كنا في البيشمركَة نعتبر فقدان البندقية من الرفيق من الكبائر – وحدث ان انزلقت بندقيته من كتفه أثناء تسلقه مجموعة من الصخور للاختباء خلفها في معركة شرسة , وغير متكافئة, مع قوات الجحوش , والنزول لأخذها يعني الاستشهاد المحقق . ورغم تفهم الآخرين للموقف , إلا انه – وبعد الانسحاب – اندفع بعملية انتحار فاشلة , والظلال المتخيلة ( للجبن ) أنهكته لسنوات . ولعل الآثار الكارثية لهجمة البعث على عام 1978 على الشيوعيين الذين استمروا تحت سطوة فاشية النظام , وما تركته من جروح لا يزال بعضها ينزف رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود , نتيجة اخذ التعهدات منهم بعدم العمل مع الحزب الشيوعي خير مثال لذلك , والتي لا يزال الحزب يعالج تأثيراتها السلبية على سير العمل الحزبي لحد الآن .

كان في سؤاله : أشبيك ويه علوان؟ نبرة لإدانتي , قبل ان يسمع مني أي شئ , ليس احتراما لعلوان مثلما أسلفت , ولكن لتأكيد سلطة الموقع , الذي لو جرى السماح بمناقشتها , لأسقط الكثير من أركانها الديكورية . أجبته , وقد شحنت صوتي بكل ما أستطيع من نبرات فن الإقناع , بعد ان تجاوزت نبرته المستفزة : المشكلة ليست بالمخاشنة التي حدثت معه , وهو الذي تجاوز في البداية , المهم , أريد أن أخبرك إني شاهدت علوان يتحدث مع عباس بصوت واطئ , وعند اقترابي منه , قال له بصوت مرتفع : جبان تافه . واعتقد ان كلام الرفاق عنه ليس من فراغ , وتشكيكهم بقدومه بسيارته التويوتا الحديثة لقرية قريبة من المقر , وبهذه الثقة , ما هو إلا استهانة بالوعي الأمني عندنا . وكانت الجملة الأخيرة القشة التي كسرت ظهر تحمله , وأجابني بنرفزة : أهو , عزيزي عندك شي ملموس عليه ؟ وشتعتقد ؟! يعني القيادة ما عده معلومات عنه ؟! بالعكس , الرجال أيعزك ويقدرك , وما راد ان يوصل المشكلة , مجرد عاتبني ويعتب عليك . طبعا ما يريده توصل, أجبته بحدة : لان ما يريد احد يعرف سبب المشكلة , وهو انه أراد ان اترك الحراسة واذهب إلى النوم , اجابني : في سبيل ترتاح . لا , أجبته بتأكيد : في سبيل ينفرد بعباس . وبعد يومين, ترك علوان المقر بشبه هروب , ولم يعد بعدها , والحديث المتشكك كثر عنه , واعدم البعض من الرفاق في الفرات الأوسط .

" القيادة تعرف كل شئ " , ومن أين تعرف أن لم تكن عبر مجساتها التنظيمية ؟! ولكنها الكلمة التي توصد كل الأبواب أمام أي تساؤل مشروع , وفي الوقت الذي أبطلت فيه هذه ( الحجة ) , ولم يعد احد يستخدمها من الشيوعيين , نجد ان بعض المعترضين على سياسات الحزب , وبالذات الذين كانوا مرتبطين به سابقا, يبنون تعارضهم ليس على خلاف فكري أو سياسي كما يزعمون , بل على نفس أساس فكرة ( القيادة تعرف كل شئ ) , ويحملون القيادة ( فقط )أسباب فشل عدم تمكن الحزب من العودة لامتلاك تأثيره على الشارع العراقي , وفشله في الحصول على احد المقاعد البرلمانية .

ولكن , الشئ الذي أدركه , ان وسائل النضال , والصراع , تغيرت كثيرا بعد فشل التجربة الاشتراكية , وفي عصر جديد سمي بعصر الثقافة الرقمية . وعلى سبيل المثال , وليس المقارنة كما قد يتصوره البعض: ان الحزب الشيوعي السويدي ( اليسار ) يدخل الانتخابات ليس على أساس الصراع الانتخابي وكسب اكبر عدد من الأصوات , بل للمحافظة على عدد أعضائه الأربعة أو الخمسة في البرلمان . ولكنه تمكن من خلال مدرسته ( كَفارن بي ) الشاملة , التي أشبه بالجامعة الخاصة وتمول من أجور الدراسة , ان يخرج الكثير من أفضل الكوادر الأدبية والفنية في الإخراج , والتمثيل , والتصوير , وكتاب لدراما , والسيناريوهات , وباقي المهن الفنية الأخرى . ليس من منتسبي الحزب واليسار فقط , بل ومن باقي أحزاب الوسط , وحتى اليمين , ليؤمن تحقيق طبقة مثقفة تمتلك الوعي الطبقي بين جميع الأحزاب , وتصبح الضمير الوطني لمراقبة استمرار حالة العيش الآمن للمجتمع السويدي . واعرف جيدا أيضا , ان علوان الذي فلت من العقاب , واستمر في خداع زوجته وأبنائه الذين يسكن معهم في السويد , كونه لا يزال مناضلا , , وبعد أن انكشفت لهم الحقيقية , طردوه , وأعلنوا براءتهم منه , وهرب ليعيش منبوذا , وحيدا , وخائفا , وهي عقوبة اشد من أية عقوبة أخرى .

[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - للتأكيد
محمد السعدي ( 2010 / 7 / 20 - 17:50 )
جملة المعلومات التي ذكرت في المقال صحيحة ... انا ايضا كنت بنفس الفصيل .دعنا من هو الوزان ؟ المهم المعلومات تكون موثقة , لكن معلومة مهمة علوان راح للداخل بالاتفاق مع قيادة الحزب ولم يختفي .. ولهذا اقتضى التنويه

اخر الافلام

.. علماء يضعون كاميرات على أسماك قرش النمر في جزر البهاما.. شاه


.. حماس تعلن عودة وفدها إلى القاهرة لاستكمال مباحثات التهدئة بـ




.. مكتب نتنياهو يصيغ خطة بشأن مستقبل غزة بعد الحرب


.. رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي: الجيش يخوض حربا طويلة وهو عازم




.. مقتل 48 شخصاً على الأقل في انهيار أرضي بطريق سريع في الصين