الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الى ليلى محمد أقف على رؤوس أصابعي

جمال علي الحلاق

2010 / 7 / 25
سيرة ذاتية


أضع العنوان وأجرّب أن أجد كلمات بمستوى المعنى ، وأن أجد معنى بمستوى التجربة ، وأدرك أنّ الكلمات ستقف الى جواري مثلما فعلتْ دائما ، وأنّها ستعرف الطريق الى البوح الذي يشبه المعنى ، ستكون قريبة جداً مما أريد أن أقوله الآن ، ولن تخذلني كما لم تفعل من قبل .
أريد أن أقول بوضوح صارخ : يولد الفرد لأنّه ضرورة تحتاجها الحياة ، كلّ فرد هو " واجب الوجود " ، لأنّ الحياة تتكامل ، كلّ فرد هو مساهمة في إكمال نقص هنا أو نقص هناك ، ولا يولد الفرد – أيّ فرد كان – سدى ، أي لا يوجد هناك ما يمكن أن نطلق عليه : " غير واجب الوجود " .
إلا أنّ بعض الأفراد ، على ندرتهم ، يمتلكون من شفافية الحسّ وعمق الإدراك ما يجعلهم قادرين أكثر من غيرهم على إدارة دفّة التغيير في الإتّجاه التكاملي للحياة ، ولقد صادفني الحظّ مرّة في أكون قريبا ، أن أرى وأن ألمس لمس اليد شفافيّة الحسّ عند ليلى محمد .
مواصلة الرغبة في التغيّر ، وفي ممارسة عملية التغيير - على الصعيد الشخصي والإجتماعي - ليس أمراً سهلا ، بل أنّ إحباطات هنا وهناك قد تلوي عنق الرغبة ، وقد تكبح قدرتها على الظهور ، تحيلها الى رماد ، لذا يبدو من الخارق للعادة أن يواصل فرد ما الإحتفاظ بجذوة النار حتى نهايته القصوى .
منذ ثلاث سنوات وليلى تصارع السرطان ، هكذا ، إلتقى بها وهي في الأربعين ، ليس لسوء حظّها ، بل لسوء حظّنا نحن القريبين منها شعورا وإحساسا ، ولسوء حظّ كثيرين كان يمكن أن تكون الإصبع التي تنتشلهم من الغرق .
وأشهد أنّها كانت - طيلة السنوات الثلاث الماضية - تخادع السرطان على حلبة ، وتعمل بحسّ إجتماعي راقٍ على حلبات أخرى . لم تتوقّف عن أن تكون فاعلة ومؤثّرة في بيئتها الإجتماعية ، تقف دائما الى جانب حرية المرأة ومساواتها للرجل في الحياة ككل سواء أكانت في البيت أم في مكان العمل من خلال قيادتها لجمعية المرأة العراقية في سيدني ، كما أنّها أدارت للعامين الماضيين أحد فروع منظمة أسترالية لرعاية الشباب ، بل ساهمت أيضا في تأسيس منظمة عراقية / أسترالية من أجل دعم الطبقة العاملة في العراق .
كانت دائما تحاول أن تمنح تبريرا عقلانيا لوجودها ، ولا تزال تفعل ذلك بما تستطيع من كلمات أو نظرات وهي على سريرها الأخير .
قلت لها : لقد كنّا أصحاب حلم ، وكان حلمنا يكبر معنا ، أردنا أن نساهم في عملية التغيير ، أن نجعل الإنسان أكثر إنسانيّة ، حاولنا قدر ما استطعنا أن نبذر الحسّ المدني بين الناس ، أن نجعلهم يرتفعون على الدوائر التي تجعلهم ينغلقون على أنفسهم ، لقد فعلنا ما استطعنا ، أنظري إلينا ، أنت لا تشبهين العائلة التي خرجت منها ، وأنا لا أشبه أبي ، أصبح لنا وجودنا الخاص في العالم .
قالت بصوت خافت : أنا أتّفق معك ، لقد تغيّرنا ، وحاولنا أن نساهم في التغيير ، لكن ، يجب أن لا نتوقّف ، لأنّ هناك الكثير من الناس بحاجة إلينا لكي يتغيّروا .
حوارات كثيرة ، نقاش له من العمق الإنساني ما يجعله جديرا بالتدوين ، كلّ ذلك وهي على السرير الأخير ، بينها وبين فتحة الباب الأخير قدرة الجسد على الإنقياد لإرادة الروح ، حوارات أعادت إليّ تجربة الفيلسوف الوجودي هايديجر مع جارته العجوز التي كانت تجادله - قبل موتها بنصف ساعة فقط - عن معنى الوجود ، وعن دور وجود الفرد في العالم .
يبقى هناك - في الإنسان - ما يشير الى لغز كبير وغامض ، لغز يتجسّد في الأفراد الذين يحاولون إيجاد معنى آخر للحياة خارج ما تمّ تعليبه ، معنى يشبه التجربة ، التجربة التي لا تتشابه ، التي تمنح الحياة قيمتها ، والتي تصرّ على أنّ الإنسان - كأفراد - لا يتكرّر كالحيوانات على الأرض .
ليلى محمد على سريرها الأخير ، وأنا مثل لصّ يحاول أن يسرق الكلمات منها ، الكلمات التي تمنحني القدرة على المواصلة ، أسرق إرادة التغيير .
قالت بصوت خافت : " كم نحتاج الى وقت كي نغني أغنية ماريانا ( تعال مارس الجنس معي ) دون محاكمة ، وخارج ثقافة العيب والحرام ؟ " .
قلت لها : ستحاول ( الليدي جاجا ) أن تمارس الجنس حقاً على المسرح أثناء غنائها .
قالت : إنّهم يتغيّرون بسرعة ، ونحن أيضا نتغيّر ، لكن ، ببطء " .
الجميل في حوارات ليلى أنّها لا تسأل عن الجدوى مثل ( عجوز هايديجر ) ، على العكس تماما ، ليلى ترى النقص بوضوح صارخ ، العالم غير مكتمل ، ونحن من يضخ فيه القيمة ، نحن من يكمل هذا النقص ، هكذا يكون لوجودنا جدوى ، ولا نكون فائضين عن الحاجة ، ولا يكون قدومنا الى الحياة سدى .
دعيني إذن أعترف أنّني تغيّرت باقترابي منك ، وأنّك حاضرة في حياتي ، وحاضرة في حياة عائلتي وستبقين ، ولست وحدي ، ولن تكون عائلتي الوحيدة ، فبالتأكيد سيردّد الكثيرون مثل قولي هذا هنا وهناك على الأرض .
فيا سيدة الجميلات ، ويا مجسّا شفّافاً يتحسّس الهواء النقي ، ويا أمّ نورس الثانية ( هكذا تسمّيك ابنتي نورس ) ، ويا حسّاً مدنيّاً لن يتكرّر ، دعيني أقول لك ، أنا الذي أحتاجك كثيرا ، وأعرف مدى قوّة إرادتك على البقاء ، أقول – بعد تردّد كبير - نيابة عن كلّنا ، بحبٍّ أقولها وبألم حاد : يحقّ لك الآن أن تأخذي إستراحة المحارب .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - إلى روح المناضلة ليلى محمد الخلود
مريم نجمه ( 2010 / 7 / 26 - 11:02 )
التعازي الأخوية الحارة لكاتب المقال الأستاذ جمال علي الحلاق
والصبر لعائلة الفقيدة الراحلة منى علي ,, مع التقدير والشكرلمقالكم ( الرثاء ) الرائع ووفائكم لصداقة الفكر والنضال ..
نقدم تعازينا الرفاقية الأخوية أيضاً لأسرة الحوار المتمدن الكريمة وكاتبات وكتاب الموقع المحترمون
محبتنا لكم جميعاً


2 - ستظل ذكراها باقية
تاج السر عثمان ( 2010 / 7 / 26 - 14:49 )
التعازي الحارة لكاتب المقال، واسرة الفقيدة ، واسرة الحوار المتمدن ،ولكل كاتباته وكتابه، وستظل ذكراها باقية بقدر ما ساهمت في التنوير والوعي والمعرفة


3 - تعازبنا
زيد محمود علي ( 2010 / 7 / 26 - 21:29 )
تعازينا الى الفقيدة والى كاتب المقال تقبلوا مايكتنز قلوبنا الحزن والاسى
وتعازينا مرة اخرى
زيد محمود علي - كاتب وصخفي من اقليم كوردستان


4 - لاعزاء في ليلى فلازال قبلها ينبض فينا
سحر الياسري ( 2010 / 7 / 26 - 23:00 )
لم استطيع التصديق أنك رحلت لا اعرف كنت روحا بحياه ابدية لاتتوقف
كيف توقف هذا القلب
وكيف توقفت كل هذه الطاقه المشعة بالحياة
كنت في كل مكان تنشرين حضورك الطليق لتمنحي الاخرين فرصه ان يفكروا انهم احرار
ويجب ان يعيشوا حريتهم
شكرا لحضورك في حياتنا
تاكدي لم انساك

اخر الافلام

.. إعلام: شبان مغاربة محتجزون لدى ميليشيا مسلحة في تايلاند تستغ


.. مفاوضات التهدئة.. أجواء إيجابية ومخاوف من انعطافة إسرائيل أو




.. يديعوت أحرنوت: إجماع من قادة الأجهزة على فقد إسرائيل ميزتين


.. صحيفة يديعوت أحرنوت: الجيش الإسرائيلي يستدعي مروحيات إلى موق




.. حرب غزة.. ماذا يحدث عند معبر كرم أبو سالم؟