الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
حول اليسار وعودة اليسار
بدر الدين شنن
2010 / 7 / 22ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
أحدث تغييب وغياب اليسار فراغاً كبيراً وخطيراً في الشارع السياسي . ومع تفاقم الأزمات المتعددة في البلاد ، بات من الضروري البحث المبدئي والموضوعي ، في أ سباب ذلك ، وفي الشروط التي ينبغي توفرها ، لتحقيق عودته إلى المشهد السياسي ، لا ليسد فراغاً طال أمده وضرره وحسب ، وإنما ليسد عجزاً .. وليلعب دوراً نضالياً نهضوياً في الحراك المعارض ، من أجل التحررمن الاستبداد ، وتجاوز الأزمات المعيشية ، والسياسية ، والاقتصادية ، التي تزداد كل يوم سوءاً وتدهوراً .
جاء اليسارمنذ نشأته الأولى ، في أوائل القرن الماضي ، مشحوناً بما هو أبعد من المفهوم السياسي ، وبما هو أوسع من الفعل الثقافي ، إذ جاء مشحوناً بالإلتزام النقي الصادق ، بالنضال التحرري ضد الاستعمار ، وبالنضال الطبقي ضد الاقطاع والاستغلال للعمال والفلاحين ، وبالنضال ضد الديكتاتوريات من أجل الديمقراطية والحريات العامة .. ومن أجل علاقات اجتماعية أكثر عدالة .. وأكثر احتراماً لكرامة الإنسان . وعلى ذلك نشأت علاقات وأواصر حميمية بين اليسار وشرائح واسعة من المثقفين ومن الرموز الوطنية والديمقراطية . وفي أواسط القرن العشرين الماضي ، غدا اليسار المعبر الواسع الانتشار ، عن القيم والاستحقاقات الوطنية ، وعن طموحات القوى الشعبية من عمال وفلاحين وفقراء المدن ، والمعبر عن اللحظة الثقافية ، المقاومة للظلم الاجتماعي ، والواعدة بأن مستقبلاً متحرراً من القهر والفقر والاستغلال ممكن . حيث صار الانتماء إلى اليسار ، بصفة عامة ، سياسة ، وثقافة ، وتنظيماً ، صار شرفاً ’يعتز به .. ويرفع الرأ س ..
وجاء اليسار منذ نشأته أيضاً ، تعددياً . كان الشيوعيون رواده الأوائل . ثم كان آخرون يحملون مفاهيم ا شتراكية .. ووعي إنساني حضاري ، ومناضلون صادقون ضد الهيمنة الأجنبية ، وحملة رؤى فكرية تسموعلى خلفيات المظالم الاجتماعية الرجعية . وكادت أن تكرس ثنائية يسار - يمين في كل شيء .. في العلاقات الاجتماعية .. في الثقافة .. في الأدب .. في الأغنية .. في النظرة إلى نشوء وحركة الكون .. في الاقتصاد .. كما في السياسة والمواقف السياسية . وأضحت ثنائية تقدمية - رجعية هي الوجه الاخر لثنائية الخير والشر في الوعي الشعبي .
أهم سمات اليسار في تلك المرحلة ، كان الإلتزام بمعاداة الخارج الطامع في إعادة السيطرة على البلاد ونهب خيراتها ، وتسخير موقعها الجغرافي قاعدة لأنشطته الاستعمارية ، لإحكام احتوائه للبلدان المجاورة ، ودعم الكيان الصهيوني ، من خلال المؤامرات لجر سوريا إلى الأحلاف الاستعمارية ، مثل حلف بغداد ، ومبدأ أيزنهاور ، والهلال الخصيب . وكان أيضاً الإلتزام بمعاداة قوى الرجعية ، من اقطاع ورأ سمال كومبرادوري وقوى التخلف السياسي والثقافي .
على أن الإلتزام بمسائل الحريات العامة وتوفير اللقمة الكريمة للمواطن ، كان أكثر سمات اليسارإ شراقاً وبروزاً ، وأكثر فعاية في توثيق ارتباط اليسار بالحركة الشعبية ، التي تجلت بالمظاهرات الشعبية ضد الديكتاتوريات المتعاقبة ، وبانخراط مختلف الطبقات الشعبية بالمقاومة والنضال الوطني .. من أجل تكريس وطن حر ديمقراطي .. عربي الانتماء .. ا شتراكي السمت . بكلمة ، إن اليسار في تلك المرحلة قد تجاوز بامتياز مستوى النخب إلى المستوى الشعبي في طروحاته وحراكه .
ومن أ سف بالغ ، لم يتح لهذا النهوض اليساري الشعبي الديمقراطي أن يستمر، إذ تعرض ، بنية ومفهوماً ، للهجوم عليه من قبل جهات عدة . كانت القوى الإسلامية السياسية وفي مقدمها جماعة " الأخوان المسلمون " تعتبر أن كسر اليسار وإزاحته من الوجود من مهامها الاستراتيجية . وشنت على اليسار ، متحالفة مع قوى الاقطاع وغلاة الرأ سمال ومع جهات خارجية مشبوهة النوايا والهدف ، ومن أبرزها الولايات المتحدة الأميركية والمملكة السعودية ، شنت حرب " مكافحة الشيوعية " على اليسار با سم نصرة الايمان والإسلام . وكانت القوى القومية المتعصبة ( حزب البعث والحكم المباحثي في زمن الوحدة مع مصر ) تعتبر أن هذا اليسار بتبنيه النضال الاجتماعي الطبقي ، يشكل عائقاً أمام الوحدة القومية ، وشنت هي أيضاً الحرب على اليسار ، نصرة للوحدة العربية . وكانت النتيجة أن اليسار ، واليسار الماركسي تحديداً قد أصيب أوكاد بالشلل والعجز . لكن لم يتحقق " للإسلام السياسي " نصراً ولم تدم " للقومية الوحدوية" وحدة . إذ لم يستطع الإسلاميون أن يحققوا ا ستلامهم السلطة ، ولم يستطع الحكم المباحثي حماية دولة الوحدة .. كما لم يستطع الإسلاميون السياسيون والقوميون المتعصبون ، أن يملأوا الفراغ الذي أحدثه تغييب اليسار . إن الذي تحقق فعلاً ، بعد انحسار اليسار ، هو ، أن صراعاً اتسم أحياناً بالعنف الدموي قد احتدم بين الاسلاميين والقوميين ، لاسيما بعد أن ا ستولي حزب البعث على السلطة بانقلاب 8 آذار 1963 ، ما أدى إلى ضرب جميع مكونات الشارع السياسي .
وقد شكل انقلاب 8 آذار 1963 مفصلاً سياسياً سلبياً في تاريخ البلاد ، انعكس على السياسة والاجتماع والفكر والثقافة ، وانعكس على اليسار تحديداً . حيث أحدث في اليسار نقلة تحريفية ، أثرت على بنيته وفكره وسياساته . لقد ا ستولى حزب من مكونات اليسار في الخمسينات على الحكم بلافتة " يسارية " ومضمون قمعي . ولم تستطع حركة 23 شباط 1966 تصحيح صورته نحو الأفضل . فتمسكها بفصل الديمقراطية عن اليسار " التقدم " أخضعها لتناقضات غير مبررة دفعتها إلى عدم انجاز مهام الوحدة الوطنية وإ شاعة الديمقراطية . فعدا عن بدءالتعاون الرمزي مع الشيوعيين ، لم يكن التعاطي مع قوى سياسية معارضة سوى القمع المفرط . ثم جاءت هزيمة حزيران 1967 لتفسح في المجال لحركة تصحيح معاكسة 1970، قام بها وزير الدفاع آنذاك " اللواء حافظ الأسد " ، الذي أ سس وعمل على احتواء اليسار وتفريغه من محتواه النضالي العريق .
وقد قبلت معظم من كانت من مكونات اليسار ( الحزب الشيوعي السوري .. الاتحاد الاشتراكي .. الوحدويون الاشتراكيون .. الاشتراكيون العرب ) قبلت بالاحتواء من قبل العهد الجديد ، وذلك مقابل وعود " برنامج " دون ضمانات شفافة لمصداقيتها ، بإقامة جبهة وطنية تقدمية ، ومجلس شعب ، والعمل من أجل تحقيق الوحدة والحرية والاشتراكية . وإذا ما ألقينا نظرة تقييمية شاملة لسيرورة عملية تحقيق هذه الوعود أو البرنامج ، فإننا نجد أن القوى التي كانت تنتمي إلى اليسار من الناحية المبدئية والأخلاقية على الأقل ، هي الخاسر الأكبر ، وأن هذه الوعود البرنامجية قد فرغت تماماً من محتواها الايجابي الموعود . وما نفذ منها هو الشكل فقط ، بل هو تكريس حكم ديكتاتوري ، وتعميق الأزمة العامة في البلاد . ولم تقم القوى التي انشقت عن الأحزاب المنضوية في الجبهة ، لم تقم بإحداث عودة جادة إلى مواقع اليسار ، مواقع ما قبل حكم البعث والجبهة ، أي الحفاظ على تماس واندماج بالهم والصف الشعبي ، بل انكفأت إلى النخبوية ، وكرست معارضة للنظام ، مضمونها الاعتراض على الاستئثار بالسلطة ، والمطالبة بالمشاركة بالسلطة ، ويالتعددية ، وتداول السلطة .
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي ، لم تبتعد بقايا مكونات اليسار التاريخي عن مواقعها الشعبية وحسب ، بل وتخلت عن كثير من القيم الاجتماعية والتحررية ، وتبنت سياسة وسطية " تسهيلاً " لقيام تحالفات مع قوى سياسية ، هي ، تاريخياً وموضوعياً ، في حالة عداء مع اليسار ، بزعم أن مثل هذا الحشد السياسي " العريض " سيؤدي إلى إ سقاط النظام ، وإلى تبوئها السلطة .
بعد الاحتلال الأميركي للعراق ، وانتشار النفوذ الأميركي بين البحر الأبيض المتوسط والخليج النفطي ، افتتن فريق من اليسار السابق بالليبرالية الأميركية الجديدة ، التي تم تسويقها مع جحافل الدبابات الغازية ، وعلق آمالاً سرابية على نتائج التحقيق الدولي في جريمة اغتيال رفيق الحريري ، متوخياً منها أن تجر رأ س النظام إلى قفص المحكمة الدولية ، وأعلن على الملأ التخلي عن الماركسية والانتقال إلى حزب ليبرالي . والتناقض الذي عبر عنه الانقسام في المجلس الوطني لإعلان دمشق ، وتعليق عضوية الاتحاد الاشتراكي وحزب العمل الشيوعي في الإعلان ، يعكس جزءاً هاماً من التردي في حالة المعارضة التقليدية .. وفي الشارع السياسي . ويستدعي بإلحاح مبادرات ذات مضمون يساري ، تتعامل مع عناوين وتفاصيل كثيرة تتعلق بمفاهيم وقيم وقوى المعارضة ، وخاصة ما يتعلق بالفراغ الذي أحدثه تغييب وغياب اليسار الشعبي المناضل ، وذلك لتجاوز هذا التردي وهذا الفراغ .
والملاحظ في الآونة الأخيرة ، أن النظام يتجه لملاقاة احتمال المبادرات اليسارية الجديدة ، وذلك من خلال أ سلوبين متوازيين ، الأول ، ا ستمرار التضييق على الحريات العامة ، وتشديد القبضة الأمنية ، حتى لايفسح في المجال لانطلاق وتجذر هذه المبادرات ، والثاني ، دفع قوى من بنائه السياسي الجبهوي ، لممارسة نوع من " اليسار " في إطار النظام . كما يتجه بعض من المعارضة التقليدية لملاقاة هذه المبادرات المستقلة أيضاً ، وخاصة من ا ستبدل مواقعه السابقة في اليسار بالليبرالية واقتصاد السوق .
ويبدو من التمظهر " اليساري " الجبهوي ، أن هناك مصاعب كبيرة تعترض مصداقية هذا التمظهر . فممارسة أنشطة " يسارية " تهتم بالمستوى المعيشي الشعبي ، والمناداة بتوسيع " الحريات " تتطلب أكثر من الإحصائيات والتحليلات ، وأكثر من ربطها بالتمني على قيادة النظام لتلبية ماينتج عن هذه الاحصائيات والتحليلات من حلول . فالزعم بإدراك أساسيات أزمة البلاد يتطلب اتخاذ مواقف عملية إزاء السلطات ، التي تمعن في تعميق وتوسيع هذه الأزمة بإجراءاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التعسفية المتوالية والمتعارضة مع مصالح الطبقات الشعبية .. ومصلحة البلاد عامة . حتى الآن ، لم نر ، ولم نسمع ، أن المتحمسين في هذا التمظهر قد قدموا لقيادة النظام احتجاجاً جاداً على الفساد والغلاء وتدني مستويات المعيشة ، وتدهور أوضاع الحريات العامة .. لم نر ، ولم نسمع ، أنهم في اجتماعات الجبهة التقدمية قد قدموا برنامج عمل حول هذه المسائل ، ولم نقرأ لهم برنامجاً للتحرك الشعبي ، لانتزاع مقومات تجاوز الحالة المأزومة على الصعد كافة ، ناهيك عن المبادرة العملية لتجسيدها على أرض الواقع .
كما يبدو حتى الآن ، أن حركة بعض المعارضة التقليدية نحو اتخاذ مواقف ترتدي عباءة " يسارية " ، هي مجرد محاولة مستدركة بعد نقد ، في سياق عرض سياسي عام ، لتسجيل ملاقاة الطلب . وكلاهما ، النظام من طرف والمعارضة التقليدية من طرف آخر ، بعيدان كل البعد عن طرح يسار يحمل روح اليسار الشعبي التاريخي المناضل . فكل منهما يحاول أن ، " يتيسرن " أي أن يظهر يساريته ، على طريقته السلطوية أو النخبوية ، دون الإلتزام السياسي والاجتماعي والاقتصادي الشعبي . اليسارية المطلوبة الآن ليست يسارية في الشكل بل في المضمون ، إذ ما قيمة طرح يساري الآن دون أن يتضمن الدفاع عن الوطن ، وعن الحريات العامة والديمقراطية والرغيف .. أي العدالة الاجتماعية .. معاً .. بكلام آخر ، دون حل لإيجاد مقومات تجاوز الاستبداد وحالة الطواريء والأحكام العرفية ، وتجاوز الغلاء والفساد واقتصاد السوق الليبرالي ، وتجاوز المعوقات الد ستورية التي تحول دون امتلاك الشعب لحقوقه السياسية وأولها حقه في تحديد حكامه ومستقبله .
ما معناه ، أن ما تعرض له اليسار الشعبي التاريخي من تآمر وإيذاء ، قد يتكرر مع اليسار القادم بأشكال أخرى ، لإفراغه من محتواه وتشويهه .
من هذا المنظور التاريخي والموضوعي ، لايحتاج الأمر إلى تنظير معمق ، حول نشأة اليسار التاريخية الدولية والمحلية ، وحول تنوع وتعدد مفاهيم اليسار ، أو حول إن كان مصطلحاً عابرارً على اللغة أو العقل الموروث ، إلى آخر تجليات الفكر لدى بعض المثقفين ، الذين ينتهون عادة في تنظيراتهم إلى نفي الموضوع .. أو نفي النفي .. أو إلى عدم اتساق الموضوع مع الليبرالية العتيدة .. والعقل المعولم ..
إن الملايين من المواطنين الذين جربوا معارضات تقليدية على مدار نصف قرن تقريباً ، ينظرون إلى الأفق .. بانتظار يسارجديد قادم لينقذهم من أحوالهم المتردية السياسية والمعيشية .. يسار ملتزم .. أولاً .. وثانياً .. وثالثاً .. بالهم الشعبي المتعدد المتمثل بالتوق للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ..
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. رولكس من الذهب.. ساعة جمال عبد الناصر في مزاد
.. Socialism 2024 rally
.. الشرطة الألمانية تعتدي على متظاهرين مناصرين لغزة
.. مواطنون غاضبون يرشقون بالطين والحجارة ملك إسبانيا فيليب السا
.. زيادة ضريبية غير مسبوقة في موازنة حزب العمال تثير قلق البريط