الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ابو شروق وتداعيات الزمن المنكوب

تقي الوزان

2010 / 7 / 22
سيرة ذاتية


أبو شروق وتداعيات الزمن المنكوب

تقي الوزان

بعد أكثر من ثلاثين عاما , اخبرني احد الأصدقاء إن " أبو واثق يسأل عنك " . توقفت لحظة لأعيد ترتيب الأسماء في ذاكرتي , وأردف : ان اسمه كان سابقا " أبو حليمة " . انه صديقي بدر الدليمي , ولكنه في ذاكرتي استشهد في التعذيب بعد أن أودع الأمن العامة في الهجمة الدموية على الحزب الشيوعي من قبل السلطة الصدامية عام 1979 . سألته بدهشة عن ملامحه لأتأكد من كونه " أبو حليمة " وليس شخص آخر , وكان هو , وناولني رقم تلفونه , اتصلت به وواعدته في اليوم الثاني . تعرفت على بدر في بداية السبعينات من القرن الماضي , وكان اصغر مجموعة الأصدقاء التي تضمنا " شلة أبو شروق " كما يود البعض تسميتنا .

كنا مجموعة من الأصدقاء الشيوعيين , بيننا الطالب والعامل والمثقف والشاعر ومحاسب البنك , ولا اعرف كيف تبلور تماسكها , وتحول إلى شبه تنظيم , قاسمه المشترك أبو شروق " كريم احمد النعماني " . كنا أشبه بالنادي, أو الجمعية , ولكن بدون مقر ثابت , نلتقي في مطبعة الحزب " دار الرواد " حيث كان ابو شروق المسئول النقابي فيها , او في المقهى الذي تحت مجلة " الثقافة الجديدة " في الباب الشرقي , أو في مقاهي وبارات أبو نؤاس وساحة النصر والكرادة. كنا ننشغل في " شلة أبو شروق " أكثر مما ننشغل في منظماتنا الحزبية في كثير من الأحيان , مثل جمع التبرعات للرفاق الذين شملهم البدل النقدي بدل الخدمة العسكرية , أو مساعدة الرفاق في مشاريعهم الخاصة , مثل مواصلة الدراسة الجامعية , أو الزواج , أو شراء الكتب , وفعاليات فنية تدعم المناسبات الحزبية والوطنية . كنا من مختلف المواقع الحزبية , ولكن مثل أسنان المشط كما يقال في علاقاتنا , وحاول اثنان من أصحاب المواقع المتقدمة ان يستخدما صفتيهما الحزبية في التعالي على الآخرين , إلا أن أبو شروق مال في تصرفاته نحونا , وأعادهم إلى الطريق بعد ان أشعرهم بأنهما سينبذان إن استمرا في سلوكهم هذا . ولا اعرف هل ان رفضه لسلوكهم كان نابع من عدم تكملته الدراسة , وحساسيته من كل ترفع مبني على امتيازات ليست إنسانية , أم انه جبل على هذا النبل . لم اذكر انه انب,أو قدم نصيحة لأحد , إلا أن الجميع كانوا متصافين في وجوده . لا اعرف هل كان " نادي أبو شروق " مهمة حزبية لكريم احمد , أم استجابة لنشاطه الأكثر إيقاعا من إيقاع الحياة العراقية , والذي لم يرتو بالعمل الحزبي والنقابي فقط , ودعمه بهذا التنظيم ألصداقي الاجتماعي , الذي جسّد في التزامه الكثير من نبل الأخلاق , ومدرسة للكثير من المناضلين الحقيقيين الذين شاركوه السير في دروب الحقيقة .

كان أبو شروق قصيرا , ليس مربوعا, ولا نحيفا , وجبهته عريضة , ووجهه دائم الابتسام مما يزيد في وسامته , سريع في مشيته , وفي كلامه , وسريع في إنجاز كل أعماله . كان معروفا لجميع عوائل العمال في بغداد الجديدة والمشتل , رغم ان الضاحيتين جديدتان نسبيا . يقول أبو واثق الذي رافقه في اغلب سنوات عمره , في عام 1965 كان أبو شروق فتا يافعا , يعمل في معمل المنيوم الصفار في بغداد الجديدة , وكان هذا المعمل يعج بالشيوعيين , وأبرزهم القائد النقابي المعروف كَليبان صالح العبّلي . تمكن ابو شروق ان يبني علاقات واسعة مع العمال والشغيلة في الورش والمعامل الحكومية والأهلية في المنطقة , وكانت حصيلة هذه العلاقات والنشاط أن يقود إضراب عام في ثلاثة معامل رئيسية عام 1967 وهي : معمل الشخاط ( علب الكبريت ) الحكومي ثلاث نجمات , ومعمل نسيج الأهرام الأهلي , ومعمل شخاط السيد الأهلي . وبعد فترة قصيرة تسربت معلومات إلى جهاز الأمن عن المحرض الأساس على الإضراب . إلا أن جهاز الأمن لم يتمكن من اعتقاله حيث كان يتمترس وسط العمال الذين هربوه عندما هاجمته مفرزة الأمن , وحصل العمال المضربين على كافة حقوقهم في وقتها .

ويواصل أبو واثق كلامه : بعد فترة قصيرة من نجاح الإضراب , تمكنت مفرزة أمنية من اعتقال أبو شروق , وبعد تحقيق دموي , زاد من حقده, كون أبو شروق في بداية حياته العملية . أودع في سجن بغداد المركزي في باب المعظم , واستمر في السجن حتى تم استلام البعث للسلطة من عبد الرحمن عارف عام 1968 , حيث أطلق سراحه ليعود الى عمله العمالي , ويعاود نشاطه النقابي والسياسي بهمة اكبر , وعزيمة اشد .

في عام 1968, وبعد مطالبات عمالية بإجراء انتخابات لاختيار القادة العماليين , وتأسيس نقابات عمالية نزيهة تستطيع الدفاع عن حقوق العمال , ونزولا عند رغبة العمال, قررت السلطة إجراء هذه الانتخابات . وكانت انتخابات عمال نقابة الميكانيك في معمل سخانات " فاير كنك هلون اخوان " , ونزل الحزب بقائمة يترأسها أبو شروق , ونزل حزب البعث بقائمة يترأسها سيئ الصيت شكري الشيخلي . وقد لعب مرتزقة النظام ووكلاء أمنه , الذين اخذوا يتكاثرون كالذباب , مكيدة للإيقاع بابي شروق , وجلبوا مفرزة من الانظباط العسكري , طوقت المنطقة لإلقاء القبض عليه , بدعوى انه هارب من العسكرية , وكان ابو شروق حذرا باستمرار , فاخبر العمال الذين أخفوه في المنطقة ذاتها , لينسل بعدها ويفلت من قبضتهم . وكان من المفروض ان ينوب عنه وكيله " سعدون " , إلا أن الأخير تحت تأثير التهديد والإغراءات انسحب وبقى صندوق الانتخابات من غير منافس , فأعلن القاضي فوز قائمة البعثيين بالتزكية لعدم وجود منافس .

اخذ البعثيون يشتد عودهم , وقائد عمالي شيوعي شاب وبهذا العنفوان , يفلت من أيديهم وبمساعدة العمال أنفسهم , شئ لا يسمحون به مطلقا . فكثفوا البحث عنه , حتى تم اعتقاله وإيداعه الأمن العامة , ليكون حقل تجارب وتمارس عليه كل وسائل التعذيب التي بحوزتهم , ولعدة اشهر , حتى كاد أن يفقد النطق والسمع . وبعد أن تأكدوا من عدم صلاحيته للعيش في الحياة الإنسانية الطبيعية , القوه حطاما على احد الأرصفة القريبة من الأمن العامة , ليكون درسا لباقي الشيوعيين والعمال الذين تعاونوا معه . انتشله احد الشيوعيين بعد ان عرفه بالكاد , وخضع لفترة علاج طويلة قاربت العام على أيدي أطباء مختصين , ليعود بعدها الى وضعه الطبيعي , ويعود إلى أحضان حزبه , ويواصل عمله النضالي بكل حيوية حتى قيام الجبهة الوطنية عام 1973 .

نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي , كانت من اشد السنوات التي شهدت تمزق الشيوعيين العراقيين , والتي جاءت اثر انشقاق القيادة المركزية , ليصبح الحزب حزبين , وتشهد الساحة على الكثير من الصراعات والاعتقالات فيما بينهما , وكانت الفرصة الذهبية للبعث وجهازه الأمني " حنين " الذي يقوده صدام للإيغال بدماء الشيوعيين , واغتيال الكثير من المناضلين الأشد صلابة سواء داخل الأمن العامة أو في الشوارع, ومن الطرفين , ليجد الشيوعيين أنفسهم محطمين ضعفاء , لأسباب لم تفي بصوابها الحياة . وقد ولدت فترة الصراع هذه الكثير من الترسبات والحساسيات , وكان أبو شروق من الذين تصدوا لمعالجة هذا الشرخ بشكل مبكر , وقد ساعد الكثيرين في تجاوز المحنة, طبعا مع الشيوعيين الحقيقيين , وليس مع الذين وجدوها مبررا لترك النضال, وبشتى الطرق . وتعامل مع زواياها الفكرية والنفسية والتنظيمية , بروحية الشيوعي الذي غارت الخسارة في جرحه عميقا .

في عام 1975 أوفده الحزب إلى موسكو في زمالة للدراسة الحزبية لمدة عام واحد , عاد بعدها , وظل يعمل حتى وقوع الهجمة الفاشية للبعث على الحزب عام 1979 . وأبو شروق من عائلة عمالية مناضلة , قدمت الكثير من التضحيات لقضية شعبهم , ووطنهم , وتمسكهم بأهداف ومبادئ الحزب الشيوعي العراقي . وأخوهم عبد الخالق احمد أول شهيد من هذه العائلة , حيث سقط يوم 9 شباط عام 1963 , عندما حطم الحرس القومي رأسه بأخماس البنادق والمسدسات , واخذوا يهزجون بفرح لأنهم تمكنوا من احد مقاوميهم الحمر .

في عام 1976 اغتيل الأخ الثاني عبد علي , كان نحات على الخشب , وصنع كرسي رئاسة الجمهورية الذي يظهر في الصورة الرسمية لأحمد حسن البكر وتكيته برأسي أسد . اغتيل من قبل عصابات الأمن داخل محله " موبليات بغدادية " في شارع السعدون , وقد مثلوا بجثته بعد الاغتيال , وعبد علي احد نزلاء سجن نكَرة السلمان , وكان يشارك" شلة أبو شروق" في اغلب المناسبات والأعياد .

وشهيدهم الثالث اخوهم الكبير, والنقابي المعروف عبد الرزاق احمد ( ابو ثائر ) – وثائر كان اصغر شهيد للحزب الشيوعي في كردستان في بداية الثمانينات – لقد حاصر الأمن الفاشي أبو ثائر في محله , وهو لصنع الخزانات الكبيرة للسيارات في منطقة الشيخ معروف . انهالوا عليه بالضرب المبرح حتى أغمي عليه , ثم قاموا بسحله أمام أنظار الناس لمسافة طويلة , وكان احد الباعة يدفع بعربته البائسة وقد شاهدهم يسحلون بابي ثائر وهو مغطى بالدماء , فانتفضت كرامته , وفقد أعصابه , بعد أن أدرك ان للتضامن مع هؤلاء الشرفاء قد يكلفه حياته , وخاطبهم : انتم يامن لا تملكون ضمير ولا إنسانية , لماذا تفعلون هكذا باشرف وأنبل إنسان في هذه المنطقة؟! فما كان منهم إلا أن توجهوا إلى هذا الإنسان البسيط وأشبعوه ضربا , ثم قيدوه , والقوه في سيارتهم , ولم يعرف عنه شئ بعدها . وقد روى احد الشيوعيين كان مسجونا معه : ان أبو ثائر تعرض لشتى أنواع التعذيب , وكان صلبا وقويا , ثم أخذت تستنزف طاقته الى ان خر صريعا في التعذيب عام 1981 . وفي نفس الوقت الذي كان يتعرض فيه ابو ثائر للتعذيب , كانت زوجته (صبيحة ) أم ثائر تتعرض للتعذيب أيضا , وقد تم إعدامها بعد فترة قليلة من استشهاد زوجها .

وقد نجا اثنان من الأخوة, بعد ان تمكنا من الفرار خارج العراق , واستقر بهم المطاف في السويد , أولهم عبد الجبار احمد " ابو لطيف " , وبعد وصوله بفترة قصيرة مرض وتوفى . والآخر محمد , الذي اصيب بانهيار نفسي بعد وصوله السويد , وادخله السويديون في مصح نفسي حتى توفي فيه عام 2008 .

ورغم خطورة الوضع بعد الهجمة الدموية عام 1979 , الا ان ابو شروق ظل يعمل في تنظيم الداخل , وقد استمر في تلك الوضعية لسنوات طويلة , حيث تم اعتقاله واعدامه مباشرة عام 1989 .... افترقت مع صديقي بدر بعد ان اتفقنا على موعد قادم , لنواصل الحديث عن تجربة الشهيد ابو شروق وإخوانه الأبطال , وكيف استطاع الاختفاء طيلة العشر سنوات ؟! وهو يحمل الراية الشيوعية , وسط ذلك الظلام الكالح الذي فرضه النظام المشئوم على العراقيين جميعا , ونستعيد الوضع الاجتماعي لعوائل هؤلاء الشهداء الأبطال , وكيفية تفرقهم في المنافي وفي بقاع الأرض المختلفة , وكيف تمكنت زوجة ابو شروق وابنهما نصير من الهروب الى خارج العراق , والاستقرار في السويد , بعد تجربة مضنية جسدت فيها مسيرة آلام المرأة العراقية , لتصل الى السويد حطاما , وتنقطع أخبارها وأخبار نصير بالكامل منذ عدة سنوات . وخال نصير , ذلك الأسمر الوسيم الذي لم يتجاوز السابعة والعشرون من عمره , والذي استشهد أيضا اثر الهجمة عام 1979 , حيث القي القبض عليه , وأودع الأمن العامة , ولم يعرف اثره لحد الآن , وترك زوجة وطفلة لم يعرف مصيريهما أيضا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عائلة تستحق التمجيد
أمير أمين ( 2010 / 7 / 22 - 21:01 )
المجد لهذه العائلة الباسلة والمقدامة..إنها بحق رفعة راس لجميع العراقيين الشرفاء.....العار لاحق وسيظل يلاحق البعثيين المجرمين وحزبهم وأدواتهم الإجرامية هؤلاء الأوباش الذين إستخدموا كل الوسائل القذرة والهمجية لإبادة أشرف الناس والذين يختلفون عنهم جذرياً بكل شيء..


2 - المضحين من أجل الكرامة
Nedaa Aljewari ( 2010 / 7 / 22 - 22:22 )
تحية طيبة نزفت العيون دموعا حرى ونزف القلب دما للجور الذي تعرضت له هذه العائلة ما ذنبها ؟؟؟الأنها تحمل فكرا تنويري؟ وكذلك الآن يجري ما يجري والآ لاف يذهبون سدى.... فقط بسبب تناحر الأفكار وتضادها ....متى تتعلم هذه الشعوب ان تجلس أحزابها على مائدة واحدة

وتتناقش بديمقراطية حقيقية وليس شعارات زائفة؟؟؟؟؟


3 - المجد لهكذا مناضلين
الحارث العبودي ( 2010 / 7 / 23 - 12:08 )
الاخ تقي الوزان المحترم:
حسب معلوماتي المتواضعة ان الاتحاد العام لنقابات قبل سنة1968 برئاسة المرحوم هاشم علي محسن كان منحازآ الى جانب الشغيلة العراقية أكثر من أنحيازه للنظام العارفي,وخاصة نقابة الميكانيك برئاسة نجم عبود القيسي,وسكرتيرها النقابي بشير العبودي,الى حين سيطرة المجرم البعثي شكري الشيخلي(( الاعور )) برفقة بعثي آخر يدعى أسماعيل......عمومآ شكرآ لك ياسيدي على هذا الوفاء لهكذا مناضلين .....

اخر الافلام

.. ظاهرة غريبة.. السماء تمطر أسماكا في #إيران #سوشال_سكاي


.. مع تصاعد الهجمات في البحر الأحمر.. تعرف على أبرز موانيه




.. جنود الاحتلال يحتجزون جثمان شهيد من المنزل المستهدف في طولكر


.. غارة إسرائيلية استهدفت منزلا بمنطقة الصفطاوي شمال غزة




.. قائمة طويلة من لاعبين بلا أندية مع اقتراب فترة الانتقالات ال